✍🏻محمّد صادق الهاشميّ ||
لقد أخذت مادّة (ق. و. م) مساحةً واسعةً بصيغٍ مختلفةٍ: كـ : (يقيمون، يقيموا، وأقاموا، وأقم، وأقمتَ، أقمنَ، وأقيموا، أقمتم ) مقرونةً بـ (الصلاة) في القرآن الكريم.
ووقعت الصّفة الثانية للمتقين، بعد صفة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...} ، ومِنْ هنا يقع البحث فيها في جهاتٍ عديدةٍ.
(الجهة الأولى): ما المقصود من كلمة:{ يقيمونْ الصّلاة} :
إقامة الصّلاة لغةً: بمعنى المداومة عليها، ففي «الصّحاح، ج 5، ص 2017»: أَقَامَ الشئَ : أى أدامَه.
وفي «المصباح المنير : 521»، أَقَامَ: الصَّلَاةَ أَدَامَ فِعْلَهَا.
وإقامة الصلاة عند المفسّرين فهم فيها مختلفون على وجوهٍ:
1. أنّ إقامتها عبارةٌ عن الإتيان بها تامّة في أركانها، وحفظها من أن يقع خلل في فرائضها وسننها وآدابها، من أقام العود إذا قوّمه، ويدلّ على هذا المعنى ما ورد في الصّحيح، عن زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: بينا رسول الله (ص) جالسٌ في المسجد، إذ دخل رجل فقام يصلّي، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده، فقال (ص): « نقرٌ كنقر الغُراب؛ لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتَنّ على غير ديني».
وفي صحيحة أبان بن تغلب، قال: كنت صليتُ خلف أبي عبد الله ع بالمزدلفة، فلّما انصرفَ التفتَ إليّ فقال: «يا أبان، الصّلوات الخمس المفروضات من أقام حدودهنّ، وحافظ على مواقيتهنّ لقي الله يوم القيامة وله عنده عهد يدخله به الجنّة، ومن لم يقم حدودهنّ، و لم يحافظْ على مواقيتهنّ لقي الله ولا عهد له إن شاء عذبه و إن شاء غفر له».
2. أنها عبارة عن المداومة والاستمرار عليها، كما قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ}، فمعنى (يقيمون الصّلاة): أي يتمسّكون بصلاتهم، ولا يفرّطون بها، فهم عليها مستمرّون.
3. أنّهم يأتون بها وهم على شوق إليها، بلا فتور فيها.
وأيّاً كان المعنى المراد فهو، إذْ يمكن أنْ تتصف صلاة المتقين بكلّ هذه الصّفاة، فلا تنافي ولا تنافر بين هذه المعاني، وإنْ كان المعنى الثاني مطابقا للمعنى اللغويّ.
وبهذا يمكن أن يجاب عن التساؤل : لماذا لم يقل: ( هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويصلون لله) بل قال (يقيمون)؟ وذلك لأنّ الذي يصلّي قد لا يتحقق عنده واحدة ٌمن هذه المعاني الثلاثة، ومع ذلك يقال عنه مصلٍّ، فالصّلاة التي هي صفة للمتقين ما هي إلّا تلك الصّلاة التي تحرز كلّ الصفاة الراقية ، أو واحدة منها.
(الجهة الثانية): أنّنا نرى أنّ (إقامة الصلاة) في بعض الآيات مرهونٌ بالتمكّن في الأرض، كقوله تعالى : {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ}، وهو عبارة عن الوصول إلى السلطنة، فما معنى أنْ تكون (إقامة الصلاة) متوقّفةً على التمكّن في الأرض؟
ويحتمل في معنى الآية أمران:
(الأمر الأول). أنّ الوصول إلى هذه الرتبة الدنيوية لا تلهيهم - بما تقتضيه أعمال السّلطة – عن صلاتهم، فرغم أعمالهم ومسؤولياتهم الكبيرة ،ولكنّها لا تشغلهم عن صلاتهم، فلا يؤخّرونها عن وقتها، بل سيبقون يأتون بها جامعة لصفاتها الثلاثة الأنفة الذّكر.
(الأمر الثاني). أن الوصول إلى هذه الرتبة تجعلها فرصة لإحياء الصّلاة في المجتمع، لأنّ التمكّن من السّلطة يصير طريقا ووسيلة لإحياء الفرائض في المجتمع، والاهتمام بها، لا أنْ تكون السلطة غايةً بذاتها، وما عاصرناه من الحركات التي تدّعي التديّن، ومعنونة باسم الإسلام حينما وصلت إلى السلطة لم يكن بواردها إلّا العمل السياسيّ، والبحث عن المراكز والمواقع، وليس من برامحها العمل الاجتماعيّ تطبيق الشريعة، فالوصولُ إلى السّلطة كان - في زمان المعارضة - وسيلةً لإقامة الصّلاة، ولكنّ بعد أنْ مكنّهم اللهُ في الأرض صار السلطة بذاتها هدفاً، فكانت السلطةُ وسيلة وطريقا إلى سرقة (بيت مال المسلمين)، والثراء الفاحش على حساب بيوت الصّفيح، فهؤلاء في الحقيقةِ قطّاع طرقٍ باسم الدين، فانّ الوصول الى السلطة هو الذي يكشف الصّادق من الكاذب في ادّعائه ومطالبته بها ، هل هي هدف أم هي غاية، فعليّ (ع) بن أبي طالب حينما وصل إلى السلطة، ومكّنه الله من الوصول إلى بيت المال، قال مقولته المعروف: «ولو شئتُ لاهتديتُ إلى الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولبابِ هذا القمح ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أنْ يقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا عهد له بالقرص، ولا طمع له بالشّبع».
ولذا نحن نقبل أنْ يكون الإمام القائم بالحقّ (عجّل الله فرجه) هو مصداقُ هذه الآية، فهو الذي يقيم الحقّ ويعيد الأمور إلى نصابها الشرعي، فعَنْ الإمام الباقر (ع) قال: « فَهَذِهِ لِآلِ مُحَمَّدٍ (ع) وَالْمَهْدِيِّ وَأَصْحَابِهِ يُمَلِّكُهُمُ اللَّهُ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَيُظْهِرُ الدِّينَ، وَ يُمِيتُ اللَّهُ بِهِ وَ بِأَصْحَابِهِ الْبِدَعَ وَالْبَاطِلَ كَمَا أَمَاتَ السَّفَهَةُ الْحَقَّ، حَتَّى لَا يُرَى أَثَرٌ لِلظُّلْمِ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ».
30 / 5 / 2020 م،
الموافق:
7/ شوال / 1441هـ .