الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ مكارم الشيرازي عن سورة الانسان: هذه السورة رغم قصرها، فانَّ لها محتويات عميقة ومتنوعة وجامعة، ويمكن بنظرة واحدة تقسيمها إلى خمسة أقسام: القسم الأوّل: يتحدث عن إيجاد الإنسان وخلقه من نطفة أمشاج او مختلطة، وكذلك عن هدايته وحرية إرادته. القسم الثّاني: يدور الحديث فيه عن جزاء الأبرار والصالحين، وسبب النزول الخاص بأهل البيت عليهم السلام. القسم الثّالث: تكرار الحديث عن دلائل استحقاق الصالحين لذلك الثواب في عبارات قصيرة ومؤثرة. القسم الرّابع: يشير إلى أهمية القرآن وسبيل إجراء أحكامه ومنهج تربية النفس الشاق. القسم الخامس: جاء الحديث فيه عن حاكمية المشيئة الإلهية مع حاكمية الإنسان. ولهذه السورة أسماء عديدة، أشهرها إلانسان والدهر وهل أتى وهذه الكلمات وردت في أوائل السورة، وإن كانت الرّوايات الواردة في فضيلتها والتي سوف يأتي ذكرها، قد ذكرت اسم هل أتى لهذه السورة.
قال الله سبحانه وتعالى "هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَـنِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـنَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـهُ سَمِيعَاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـفِرِينَ سَلَـسِلاَ وَأَغْلَـلاً وَسَعِيراً (4)" (الانسان 1-4) هل تأتي للاستفهام بمعنى أليس. قال الامام الباقر عليه السلام (كان الإنسان مذكوراً في علم الله ولم يكن مذكوراً في عالم الخلق) وهو تفسير لقوله تعالى "لَمْ يَكُن شَيْئاً مَذْكُوراً" (الانسان 1). والانسان ورد فيه تفاسير مختلفة منها النبي آدم عليه السلام في الاية الاولى "هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَـنِ" (الانسان 1) وفي الاية الثانية اولاده "إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـنَ مِن نُّطْفَة أَمْشَاج" (الانسان 2). وفي تفاسير اخرى ان المقصود بالانسان العلماء غير المذكورين قبل شهرتهم وقد ذكروا بعد شهرتهم. امشاج جمع مشج على وزن نسج، او جمع مشيج على وزن مريض بمعنى مختلط كما ورد في روايات اهل البيت عليهم السلام، وهذا ما اثبته العلم الحديث حول علم الجينات. وهنالك تفسير عن الامشاج هو تطور النطفة في جنين الام. نبتليه يعني تحمل المسؤولية والاختبار بعد التكليف والمعرفة للوصول الى الهداية، وذلك باستخدام الجوارح كالعين "نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـهُ سَمِيعَاً بَصِيراً" (الانسان 2) وهو المعنى الاصح من تفاسير اخرى تقول نبتليه اي التحولات في النطفة في جنين الام. وقسم العلماء الهداية الى هداية تكوينية وفطرية وتشريعية. وفي الاية المباركة "إِنَّا هَدَيْنَـهُ السَّبِيلَ" (الانسان 3) فان عدد من المفسرين يشيرون الى الهداية التشريعية. وفي تفسير "اِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً " (الانسان 3) اي إمّا يكون شاكراً وإمّا يكون كفوراً.
قال الله جل جلاله " يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً" (الانسان 7) جاء الوفاء والخوف بالافعال المضارعة، اي ان منهج علي وفاطمة والحسن والحسين الموفون بالنذر مستمر الى قيام الساعة، وعلى المؤمنين اتباع منهج أهل البيت الذي هو نهج القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم. والوفاء بالنذر هو لصيامهم ثلاثة ايام وخوفهم من الله تعالى ومن يوم القيامة وهو اليوم الذي شره مستطير. والوفاء بالنذر والخوف من الله صفتان من صفات الابرار. اما الصفة الثالثة جاءت بالاية الكريمة "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرا" (الانسان 8)وانهم عليهم السلام كانوا في حالة جوع عند اطعامهم هؤلاء المساكين اي في حالة حب الطعام "عَلَى حُبِّهِ" كما قال الله تعالى "لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" (ال عمران 92)، وفي تفسير اخر حب الله تعالى. وافضل الاطعام للمسكين واليتيم والاسير "مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيرا" (الانسان 8) والاسير يشمل الكافر والمشرك حيث ان الاية تشير الى الاسرى الكفار والمشركين. ولم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه واله وسلم سجن لسجن الاسرى، وانما المسلمون يحتفظون بهم ويحسنون اليهم ومن ذلك اطعامهم. لذلك فان اطعام المسلمين وغير المسلمين من صفات الابرار كما جاء في الحديث الشريف (استوصوا بالأسرى خيراً وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه). والصفة الرابعة من صفات الابرار قوله تعالى "اِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً" (الانسان 9) اي ان نية العمل لوجه الله وليس رياءا او لغرض مالي قال الله عز وعلا "وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ" (البقرة 272) قال الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم (لا عمل إلاّ بالنيّة وإنّما الأعمال بالنيات). قال الله جل جلاله " إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً" (الانسان 10) وهي الصفة الخامسة من صفات الابرار الخوف من الله الذي اعد يوما شديد العبوسية حيث كلمة قمطرير تعني شديد. والخوف مرتبة دنيا من مراتب الاخلاص في العبادة لان المرتبة العليا هي مرتبة حب الله. وهنالك فرق بين الخوف من القيامة الذي شره عظيم "شَرُّهُ مُسْتَطِيراً" (الانسان 7)، والخوف من الله في يوم القيامة الذي هو عبوس شديد "عَبُوساً قَمْطَرِيراً" (الانسان 10)
https://telegram.me/buratha