الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: الفعل أي فعل لا يأتي من لا شئ، ولا يبرز إلى الوجود بصورة عبثية، وإنما هو مرتبط بمادة هي مصدر وجوده، ولو أردنا أن نحلل هذا الفعل سنجد أنه يأخذ صورته الفعلية في الظاهرة الاجتماعية، والظاهرة الكونية وفق التصوير القرآني عبر آليتين: الأولى: هي صورة العلية القائمة على أساس أن الفعل يبرز إلى الوجود ويتحرك فيه عبر نظام من العلل المترابطة التي تتسبب بوجوده. وعلى الرغم من أن الحديث القرآني يطفح بالحديث عن إرجاع أصل هذه العلل إلى الله سبحانه وتعالى كما في قوله تعالى في خصوص الظاهرة الاجتماعية: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" (الكهف 23-24)، وقوله تعالى: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى" (الانفال 17)، وكذا ما تحدثت عنه الآيات الشريفة في اتساق الظاهرة الفيزيقية الطبيعية ضمن سياق مبدأ العلية واطراد هذا المبدأ على كل المجالات كما في قوله تبارك وتعالى: "وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" (يس 37-40) إلا أن هذا الحديث ينبأ أيضا بأن الله قد أولى الإنسان كنموذج نمطا من الولاية على هذا الفعل، بحيث يمكن معه أن يقال بأن شيئا من اختيار صورة هذا الفعل قد جعل ما بين يدي هذا الإنسان، وتحت سيطرته، وهذه الولاية منحت إلى الإنسان الفرد كما أشار إلى ذلك النص الشريف: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الانسان 3)، وكذا إلى الإنسان الجماعة وهو ما أفصح عنه قوله تبارك وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد 11). كل ذلك من دون أن تتخلى الإرادة الإلهية عن قدراتها الأزلية في الحد من هذه الولاية متى ما اقتضت المصالح الإلهية ذلك، وفق المبدأ القرآني: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" (يس 82). وعلى هذا المقدار من الولاية تعلق الحساب الإلهي في صورتي الثواب والعقاب الفردي والجماعي، سواء كان هذا الحساب يأخذ بعده الدنيوي، إن في وراثة الأرض وإعمارها وهو ما يتبدى واضحا في الآية القرآنية الكريمة: "وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا" (الجن 16)، وإن في الهلاك والدمار فيها كما أشارت إليه الآية الكريمة: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الاسراء 16). أو بعده الأخروي المتمثل بنعيم الجنة وعذاب النار، وفق ما عبرت عنه الآيتان الشريفتان: "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الاسراء 13-14)، وكذا قوله تبارك وتعالى: "وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجاثية 28-29) وهذه الصورة من الاختيار كما نجدها في الإنسان نجدها في الجن أيضا باعتبارهم النموذج المختار الثاني الذي يحدثنا عنه القرآن الكريم. والثانية: هي صورة الفعل المسير بفعل الكينونة الإلهية المباشرة المبتني على أساس سلطة الله جل شأنه على مخلوقاته، والقرآن المجيد يطفح بالآيات الكريمة التي تشير إلى ذلك، بصورة توهم معها أهل الكلام في المدرسة الجبرية بأن هذا المبدأ هو الأول والأخير في حركة الفعل الإنساني، ولا أجد ضرورة لذكر الشاهد القرآني هنا للكثرة القرآنية في هذا المجال من جهة، ولأن جهة لها قدرة خلق مثل هذا العالم، لهي أقدر على تصريف شؤونه كيفما شاءت وأنى أرادت، من جهة ثانية.
قال الله سبحانه وتعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الاعراف 175) يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ولربما نفهم من الآية الكريمة إن هناك خصائص مرتبطة بطبيعة مادة الجعل، بحيث أن سنخيتها لا تنسجم مع آية خيانة لما أوجب مجعوليتها، الأمر الذي يجعلها غير قابلة للتنفيذ إن حصل ما لا يتناسب وهذا الجعل، والله العالم. في قصة عيسى بن مريم عليه السلام فبعد أن سرد جملة من ممارسات النبي عيسى عليه السلام في الولاية قال: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" (المائدة 116) أو قوله عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا *َوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً" (الاسراء 90-93) بكل توهم معه البعض أن التركيز على بشرية الرسول هو دليل على انتفاء هذه الولاية، ولكن هذا التركيز ينبغي أن يوضع في موضعه الطبيعي وهو نفي الاستقلالية ليس إلا وبغير ذلك فعلى هذا البعض أن يتمحل كثيرا ويجهد نفسه في تطويع عشرات الآيات القرآنية قسرا، كي يبعدها عن ظهورها الواضح في حديثها عن الولاية التكوينية، لا سيما وأن الآيات التي تتحدث عن وجودها هي أوضح من الشمس في رابعة النهار كما سيتضح فيما بعد. جاء في الحديث القدسي: (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشئ كن فيكون).
https://telegram.me/buratha