الدكتور فاضل حسن شريف
قال الله تبارك وتعالى: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ" (هود 7) يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ويمكن لنا أن نلمس في الآية القرآنية ما يضفي على ما أشرنا إليه بعدا تأكيديا، فعملية الخلق هنا بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة عللت بعلة البلاء من أجل وجود أحسن العاملين، كما تكشف لام التعليل الموجودة في كلمة ليبلوكم، وتعليل عملية الخلق بوجود أحسن العاملين، يقتضي في المقام الأول أن عملية تسخير السماوات والأرض الممنوحة للإنسان وفق مفاد الآيتين القرآنيتين: "أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ" (لقمان 20) وقوله تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ" (الجاثية 13) ستكون مقترنة بجهة أحسن العاملين، وسائرة بيدها، أو على أقل التقادير فإن التعرف على أسرار التسخير ستكون في حدود الإمكان، ومن الطبيعي أن التعرف على مكنونات وآليات هذه المخلوقات، ومن ثم القدرة على التصرف فيها ستكون من بديهيات عملية التسخير هذه. من الواضح أن لا مانع على مستوى الإمكان الفلسفي والعقلي الإسلامي لهذا الإنسان أن يمارس ولاية على الحدث التكويني بالطريقة التي يراها مناسبة، وسنرى أن هذا الأمر لم يطرحه القرآن على مستوى التنظير المجرد، وإنما تحدث عن مصاديقه الشاملة وبصورة جلية بقوله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" (المائدة 55).
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: لا بد من التنبيه في البدء إلى حقيقة أن أمر الولاية التكوينية هو أمر يخرج عن دائرة العقل المادي، ولهذا إذا أردنا أن نبحث هذا الأمر وفق مقاييس هذا العقل وآلياته، فإننا لن نجد شيئا يستحق الإثبات، ومثل الولاية التكوينية مثل الكثير من المفاهيم الإسلامية بما فيها القرآن الكريم، الذي إن لوحظ ضمن معايير العقل المادي البحث فإن الكثير من مفرداته تصبح بعيدة عن دائرة المعقول المادي، أو أن تفسير بتفسيرات بعيدة عن مفاهيم القرآن كالسحر وما إلى ذلك، فما معنى أن يخلق آدم عليه السلام من الطين، أو أن يضرب موسى عليه السلم الحجر فينبجس منها اثنتا عشرة عينا، أو أن يلقي عصاه فتنقلب حية تسعى، وما معنى أن تخرج يده بيضاء تبهر عيون الناظرين، أو يضرب البحر فينشق له ولأصحابه عن أرض يابسة، ثم يضربه أخرى فيرتد ليطبق على فرعون وقومه، أو أن يولد عيسى عليه السلام بنظام إيلاد غير نظام الإيلاد المعتاد، أو أن يحيى عيسى عليه السلام الموتى، أو يبرء الأكمه والأبرص، أو ينزل مائدة من السماء، أو أن يفعل داود وسليمان عليهما السلام أفاعيلهما من تكليم الحيوانات وتسيير الرياح وطي الأرض وما إلى ذلك، أو أن تتحول النار بردا وسلاما على إبراهيم عليه السلام، أو أن يسري بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من الحجاز إلى القدس ومن ثم يعرج به إلى السماء، وأمثال ذلك مما يكثر انتشاره والحديث عنه في مطاوي القرآن الكريم. وهذا ما يدعونا إلى أن نستبدل آليات العقل المادي بآليات الفهم القرآني الذي جعل الإيمان بوجود العالم الغيبي، من أولى المسلمات العقلية حتى جعلها من أولى صفات المتقين كما هو واضح من قوله تعالى: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (البقرة 2-3) ومن يلتفت إلى القرآن وطريقة حديثه عن العلل المادية والعلل الأخرى الكامنة في سر الغيب يجد أنه يجعل علل العالم الغيب، أقوى بكثير من علل العالم المادي بما لا يمكن المقايسة بينهما، بحيث أنه يعطيها القدرة على إبطال كل مفاعيل العلل المادية، فانظر إلى الجبل الذي يتحرك ليطير فوق رؤوس أصحاب موسى عليهم السلام، وإلى الطير التي يقطعهن إبراهيم عليه السلام وينثر أشلائهن فوق قمم أربعة أجبل، فيناديهن فيأتين سعيا، وإلى الشجرة التي تتكلم، وإلى البقرة المذبوحة التي يضرب جسد الميت بها فيحيى، وإلى عرش بلقيس الذي ينقل من مكانه في اليمن إلى مكان سليمان عليه السلام في الشام في عملية ينعدم فيها الزمن، وإلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يرقى إلى حيث ينعدم المكان فيصبح على قاب قوسين أو أدنى أو إلى الجبل الذي يتصدع من خشية القرآن، والقمر الذي ينشق، والقرآن الذي تحل فيه علة الشفاء من المرض. إن كل ذلك يفضي بنا إلى حقيقة قرآنية صارخة نجدها مطبوعة في كل مكان من أرجاء القرآن، وهي أن عالم الملكوت الإلهي عالم لا ينحصر على العالم المادي، بل إن العالم المادي هو الأضعف من بين بقية العوالم الأخرى التي يتبين أنها تتفاعل بنظام علية غير نظامنا، ومع هذا النظام تستحيل العلل المادية إلى علل ضعيفة لا تقوى مجابهة علل ذلك العالم بشكل تتحول معه صيحة ذلك العالم إلى عنصر فناء شامل لعالمنا المادي.
https://telegram.me/buratha