الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب فاجعة الطف للسيد محمد سعيد الحكيم: خلود الفاجعة يناسب أهميته: محاورة معاوية مع ابن عباس: ففي حديث سليم بن قيس عن حوار بين معاوية وابن عباس قال: (قال معاوية: فإنا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته، فكفّ لسانك يا ابن عباس، وأربع على نفسك. فقال له ابن عباس: أفتنهانا عن قراءة القرآن؟ قال: أفتنهانا عن تأويله؟ قال: نعم. قال: فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟ قال: نعم. قال: فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به. قال: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟ قال: سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك. قال: إنما أنزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان، أو أسأل عنه آل أبي معيط، أو اليهود والنصارى والمجوس؟. قال له معاوية: فقد عدلتنا بهم، وصيرتنا منهم. قال له ابن عباس: لعمري ما أعدلك بهم. غير أنك نهيتنا أن نعبد الله بالقرآن، وبما فيه من أمر ونهي، أو حلال أو حرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عام أو خاص، أو محكم أو متشابه. وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهو. قال معاوية: فاقرؤوا القرآن وتأولوه. ولا ترووا شيئاً مما أنزل الله فيكم من تفسيره، وما قاله رسول الله فيكم، وارووا ما سوى ذلك. قال ابن عباس: قال الله في القرآن: "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة 32). قال معاوية: يا ابن عباس، اكفني نفسك، وكف عني لسانك. وإن كنت لابد فاعلاً فليكن ذلك سر، ولا يسمعه أحد منك علانية. ثم رجع إلى منزله، فبعث إليه بخمسين ألف درهم). وقد تقدم عند الكلام في ردود الفعل لفاجعة الطف التعرض لشكوى الإمام الحسين صلوات الله عليه من ذلك في المؤتمر الذي عقده في الحج في أواخر أيام معاوية، ومحاولته عليه السلام الرد عليه ببيان فضائل أهل البيت صلوات الله عليهم، ثم طلب روايتها ونشرها ممن حضر المؤتمر من مختلف بلاد المسلمين. وقد تمّ على الأمد البعيد التغلب على هذه المشكلة، لأن فضائل أهل البيت عموماً وأمير المؤمنين عليه السلام خصوص، من الكثرة والظهور بحيث يتعذر إخفاؤه، ومقامهم صلوات الله عليهم من الرفعة والجلالة بحيث لا يمكن تجاهله أو الحط منه. وإن لم يبعد أن يكون قد ضاع من فضائلهم عليه السلام ومناقبهم الكثير. خصوصاً على الجمهور، بحكم المعايير التي جروا عليها أخيراً في انتقاء الحديث، ولإعراضهم عن ثقافة أهل البيت صلوات الله عليهم.
وقال آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره في كتابه: كما خطب صلوات الله عليه عسكر ابن سعد لما رأى منهم التصميم على قتاله، فقال في آخر خطبته: "(م أيم الله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس، ثم تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور. عهد عهده إليّ أبي عن جدي. "فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً" (يونس 71)). وقال عليه السلام في دعائه عليهم: (اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف. وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة. ولا يدع فيهم أحداً إلا قتله، قتلة بقتلة، وضربة بضربة، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم). إلى غير ذلك.
العــدل الإلهي في كلمات السيدة زينب عليها السلام: إن من يطالع واقعة الطف أو يسمع بقصتها كاملةً وبما تبعها من أحداث لا يمكن له إلا أن يقف إجلالاً وتقديراً لتلك المرأة المثال في الصبر، والغاية في الحكمة، والقمة في الصمود والقوة. وما تلك المواقف التي يُشار اليها بالبنان، إلا حكاية عن تلك القوى العظيمة الخافية عن العيان، نعم، هي قوى الصبر والرضا والتسليم لقضاء الله تعالى وقدره النابعة من صدق اليقين وكامل الإيمان. لقد جسدت السيدة زينب عليها السلام بسيرتها العطرة جميع الاعتقادات الحقة، وقد تجلى العدل الإلهي من بين كل تلك الاعتقادات، كتجلي الشمس في رابعة النهار، سواء فيما وقفت من مواقف وفيما نطقت من كلمات، وفيما ألقت من خطابات. ولأن أبرز خطبها صلوات الله عليها كانت لأهل الكوفة ، وفي مجلس ابن زياد، وفي الشام حيث مجلس يزيد، فقد ارتأيت أن أدرج تحت كل خطبة ما ورد فيها من كلمات تشير الى العدل الإلهي . كلمات العدل فــــي خطبتها مع أهل الكوفة: قولها لهم عليها السلام: (فلا يستخفنكم المُهل، فإنه عز وجل لا يحفزه البدار، و لا يخاف فوت الثار . كلا إن ربك لبالمرصاد ، فترقبوا أول النحل و آخر صاد). أي احذروا أن يكون إمهال الله تعالى لكم والتأخير في انتقامه منكم لخلفكم في وعدكم للإمام الحسين عليه السلام في نصرته سبباً لانتعاش نفوسكم من الفرح، و لأمان صدوركم من العذاب ، ولاطمئنان قلوبكم من العقاب. فلا التأخير في العقوبة يعني العفو عن الجريمة، ولا التأجيل في الجزاء يعني عدم ورود الانتقام، فإن الدنيا دار امتحان وبلاء، لجميع الناس من الفجار والأتقياء، وكلٌ منهم سينال عاجلاً أم آجلاً ما يناسب عمله من جزاء. فالإمهال ليس دليلاً على الإهمال، قال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)" (ابراهيم 42-43).
جاء في كتاب فاجعة الطف للمؤلف السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره: الدولة بتركيبتها معرضة للضعف والانهيار: الأول: أن مثل هذه الدولة المبنية على الاستغلال والظلم والجبروت والقهر، وعلى عدم الانضباط في نظام الحكم، معرضة للصراع والضعف والانهيار، كما انهارت الدول بمرور الزمن مهما كانت قوتها. ولأن يكون الصراع داخل الدولة بين الحق والباطل، وتمتاز إحدى الفئتين عن الأخرى، خير من ضياع الحق وموته بمرور الزمن، ثم يكون الصراع بعد ذلك بين فئات الباطل المختلفة من أجل الاستيلاء على السلطة من دون هدف ديني أو إنساني نبيل. لا أهمية للدولة العربية في منظور الإسلام: الثاني: أن كون الدولة عربية لا أهمية له في منظور الدين الإسلامي العظيم، بل لا يخرج ذلك عن منظور جاهلي حاربه الإسلام، وشدد في الإنكار عليه، ونبذه. وهو عدوان في حقيقته على الإسلام، الذي قام عليه كيان الدولة، وسرقة منه. فإن كون العرب هم الحاكمين في تلك الفترة باسم الإسلام شيء، وكون الدولة عربية شيء آخر. فهو نظير ما ينسب لبعض الأمويين من قوله عن سواد العراق: (إنما هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش). وما ينسب للتعاليم اليهودية المحرفة من أن الدين اليهودي مخصص لصالح بني إسرائيل ويقر امتيازاتهم على بقية الشعوب. لو شكر العرب النعمة: نعم لو أن العرب شكروا نعمة الله عز وجل ولم يخرجوا بالسلطة عن موضعها الذي وضعها الله تعالى فيه، ووفوا بعهد الله سبحانه الذي أخذه عليهم، لأبقى الله جلّ شأنه عزهم فيهم، ولحملوا دعوة الله عز وجل للأمم، وانتشر الإسلام بحقه وحقيقته وعدله واستقامته وخيره وبركته، بعيداً عن الانحراف والاستغلال والمحسوبيات. ولعمّت لغة العرب الدني، لا لأنها لغة العرب، لتتحسس منها الشعوب الأخرى، بل لأنها لغة الدين العظيم والقرآن المجيد والسنة الشريفة، بما في ذلك الأدعية والزيارات الكثيرة. وبذلك تهمل الفوارق تدريج، وتموت العصبيات. ويكون للعرب شرف ذلك كله، ويكسبون احترام العالم ومودّته. لكنهم أخطأوا حظهم، وضيعوا نصيبهم، و "بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ" (ابراهيم 28). وإنا لله وإنا إليه راجعون. ولله أمر هو بالغه. إظهار دعوة الإسلام الحق أهم من قوة دولته: أما كون الدولة إسلامية فهو من الأهمية بمكان، خصوصاً في تلك الظروف، حيث تكون سبباً في حفظ كيان الإسلام، وإيصال دعوته الشريفة للعالم، كما حصل فعل. ولذا تقدم أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه ترك الصراع مع القوم لاسترجاع حقه حفاظاً على كيان الإسلام العام. إلا أن من أهم الثمرات المطلوبة من بقاء الكيان الإسلامي العام هو تحقيق الأرضية الصالحة لإيصال الإسلام الحق للمسلمين، بل للعالم عامة وتعرفهم به. فلا معنى للتفريط بهذه الثمرة حذراً من ضعفٍ مؤقت في قوة الدولة الإسلامية التي هي في مقام تحريف الدين وتضييع معالمه. بل يتعين إيقاف الدولة عند حدّها والسعي لسلب شرعيته، لتعجز عن تحريف الدين وتضييع معالمه. ثم تترك لتقوي كيانها باسم الإسلام، من دون أن تقوى على التدخل في الدين، لحفظ معالمه، واتضاح ضوابطه، مع ظهور دعوة الدين الحق، وقوته، وسماع صوتها في ضمن الكيان الإسلامي العام. وهو ما حصل بجهود أهل البيت صلوات الله عليهم، وفي قمتها نهضة الإمام الحسين عليه السلام التي انتهت بفاجعة الطف المدوية الخالدة. والحاصل: أنه قد كان لفاجعة الطف التي ختمت بها نهضة الإمام الحسين صلوات الله عليه الذي هو المسؤول الأول في المسلمين في هذا المفصل التاريخي من مسار السلطة، والوضع الحرج الذي يمرّ به الإسلام، ضرورة ملحة من أجل التنفير من السلطة المنحرفة، وسلب الشرعية عنه، لدفع غائلتها عن الإسلام، ومن أجل إيضاح معالم الدين والتذكير بضوابطه.
https://telegram.me/buratha