الدكتور فاضل حسن شريف
يقول الشيخ جلال الدين الصغير في في كتابه الموسوم الامامة ذلك الثابت الاسلامي المقدس عن امامة الآخرة: ورغم أن مفسري أهل العامة ومعهم فضل الله كما هي العادة كانوا قد شرّقوا وغربوا في تحديد هوية أهل الأعراف، غير أن جملة من الملاحظات تجعل اختصاص الآية بأناس لهم امتياز خاص في شأن الجزاء الأخروي، ومن جملة هذه الملاحظات أذكر ما يلي: إن القول بالتساوي بين الذنوب والحسنات وبالتالي تصنيف مقام خاص بهم غير مقامي الجنة والنار، لا دليل عله، فمن جهة الظهور القرآني فإننا نجد أن القرآن الكريم لم يتحدث عن مقامات الجزاء الأخروي، إلا عن مقامي الجنة والنار بالإضافة لما سمته الآية الكريمة : "عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا" (الاسراء 79) بالمقام المحمود، وهو بطبيعة الحال له تميز لا يمكن للعامة من محشوري يوم القيامة بلوغه، وسنعرف من خلال المواصفات القرآنية التي أوليت لأهل الأعراف أنهم في مقام سامي جدا تنسجم رفعته مع المقام المحمود، وهو ما عليه عدد غير قليل الروايات. ومن جهة فإن ذلك يتناقض مع ظاهر الرحمة الإلهية التي تسبق عدله فضلا عن غضبه، وما من ريب أن للحسنة كرامة عند الله تبقى مهما كانت متدنية في المدى فهي تفضل السيئة، ولكن ونتيجة لطبيعة العدل الإلهي قد يعرضهم من جديد لاختبار جديد كما هو الحال مع أطفال الكفار والمشركين وغيرهم، وبالنتيجة ليس ثمة مقام يجعل ما بين الجنة والنار لمن تساوت حسناته مع سيئاته، بل هم سيتجهون حتما إلى واحدة من الجهتين. ولربما أمكن للبعض رد ذلك بالقول بأن هذا المقام يمكن أن يوجد للحظات معدودة من أجل حدية العدل الإلهي، ثم تنزل عليهم رحمة الله تعالى فتنقذهم مما هم فيه، وهذا الرأي لا يستقيم لأن الحديث عن أهل الأعراف إنما كان بعد تمام عملية الحساب بين الطرفين وتحديد مواقعهم وقبل تحديد الجزاء بصورته الدقيقة، وهذا ظاهر من حديث القرآن عن الفريقين بعنوانهم المستوفى من الحساب. وحديث أهل الأعراف مع أهل الجنة ليس بحديث استعطاف بالصورة التي تتناسب مع حالتهم، وما يفترض من استيلاء الرعب على من له حالة كحالتهم وهم يرون النار كيف ستستعر بأهلها، وهم بمكان يمكن أن يفضي بهم إليه، ولهذا فمن الطبيعي أن نتلمس ظهور هذه الأحاسيس في أي حديث يتحدث به من له وضع كوضعهم ولو ضمنا، هذا إذا كان المقام يسمح لهم بالحديث، وهو أمر مستبعد لمن في حالتهم حيث يفترض أن هول وفزع ذلك اليوم يعقل كل الألسن ويخرس كل الأفواه "إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" (الحج 1-2).
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: تكلم العديد من مفسري العامة عن أن أهل الأعراف هم طبقة بشرية، فمنهم من جعلهم أصحاب أعمال حسنة، فحكى ابن الأنباري عن انهم أنبياء، وقال الحسن ومجاهد بأنهم من الصالحين فقهاء وعلماء، وادعى عبد العزيز بن يحيى بأنهم قوم ماتوا خلال الفترة ولم يبدلوا دينهم، فيما عدهم البعض بأنهم ممن خلطوا بين عمل صالح وآخر طالح؛ فحكى البعض أنهم قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم. أو أنهم ممن رضي عنهم أحد الأبوين، ولم يرض الثاني منهم. أو أنهم ممن عمل لله ولكن أعمالهم كان فيها رياء، والبعض الآخر من المفسرين وصفهم بأنهم من مخلفات أوزار الآباء فذكر المنجوفي أنهم أولاد المشركين وذكر صالح عن ابن عباس أنهم أولاد الزنى. ومن الواضح أن أصحاب الأعمال الحسنة هم من جملة أصحاب الجنة، فما الذي أخرجهم من تلك الهيئة إلى هذه الهيئة، وادعاء ابن الجوزي وأضرابه بأنهم خرجوا على سبيل النزهة، لا قيمة له بدليل وجود الحجاب فيما بينهم وبين أصحاب الجنة كما أشار قوله تعالى: "وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 46) وكذا وضوح الفرز بينهم وبين أصحاب الجنة الذي يشير إليه قوله تعالى: "وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ" (الاعراف 46) مما يجعل هذا التشخيص في غير محله. ولا قيمة للآراء التي جعلتهم ممن خلطوا بين المعصية والطاعة، فهؤلاء إما في الجنة وإما في النار، ولا ظهور قرآني يدل عليه. وأسخف منه من جعلهم من حملة أوزار الآباء كأولاد الزنى والمشركين إن كان المعني بهم الأطفال منهم، لظهور وجود تمايز بين أصحاب الأعراف وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار، ومن الواضح أن هؤلاء إما من جملة من سيختبر يوم ذاك كما هو ظاهر بعض روايات أهل البيت عليهم السلام وبالنتيجة فإن مقامه إما إلى جنة أو إلى نار، ليخرج بذا عن التمايز عن الفريقين، أو انه ستدركهم رحمة من ربهم، فخرج بذا عن التمايز المطلوب عن الفريقين، ولهذا فهو لا يصح.
يقول الشيخ جلال الدين الصغير: وبمعزل عن ذلك كله فلا مناص من ملاحظة حالة التمايز بين أهل الأعراف وبين الطرفين الآخرين، يكشفه مرة وجودهم بين الطرفين من خلال الحجاب المضروب بينهم، وثانية وجودهم على الأعراف على اختلاف التفاسير في طبيعة المراد من الأعراف هل هو سور بين الطرفين؟ أم هو كثبان بين الجنة والنار؟ أم هو شيء آخر له معنى العلو؟ على اختلاف أقوال المفسرين. وهناك ميزة أخرى لدى هؤلاء وهم أنهم "رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ" (الاعراف 48) أي أنهم يعرفون كلا الفريقين بعلامات خاصة بهم، وهذه المعرفة لا تنم عن وجود علامات مادية تميزهم عن بعضهم كبيض الوجوه بالنسبة لأهل الجنة وسوادها وزرقة العيون بالنسبة لأهل النار[259] كما يحاول بعض المفسرين قوله، بل هي علامات خاصة بطبيعة عمل كل واحد منهم على سبيل التفصيل، كما يدل عليه مخاطبتهم لطائفة من مستكبري أهل النار: "وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ" (الاعراف 48-49) فلولا معرفتهم حقيقة أعمالهم لما ميزوهم من بين جميع أهل النار ليصفوهم بهذا الوصف. ويبقى أن ثمة ميزة أخرى وهي الأهم من بين كل المزايا في بحثنا هذا، وهي حاكميتهم في عملية الدخول إلى الجنة وهو الأمر الواضح من أمرهم لأهل الجنة: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ" (الاعراف 49) وواضح أن هذا الأمر إنما كان قبل دخول الجنة وبعد الحساب، وكما يتضح في قوله السابق عن أهل الجنة "لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ" (الاعراف 46).
https://telegram.me/buratha