الدكتور فاضل حسن شريف
يستمر الشيخ جلال الدين الصغير متحدثا عن العصمة وضرورات الهداية الربانية: قوله تعالى : "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد 7) فالعصمة إذا كانت ضرورية للرسول بسبب وجود الرسالة وخصوصيته فيها ، فهي ضرورية مرة أخرى لمن يخلف الرسول على رسالته لتعلّق نفس الضرورة بهم، إذ لا فرق بينهما إلا في طبيعة الصفة فذاك رسول وهذا هادٍ. ولو أردنا تطبيق الأمر على رسولنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا يتوهمنّ أحد في أن الرسالة هي هذا الكتاب بكلماته وألفاظه المعهودة فقط، حتى يمكن الاكتفاء به دون الحاجة إلى خليفة للرسول صلىلله عليه وآله وسلم في هداية الأمة، فالكتاب الكريم وإن حوى علم كل شيء وبيّن ذلك العلم لقوله تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل 89) غير إن احتواءه لهذا العلم شيء ، ومعرفة مكنونات هذا العلم الذي فيه شيء آخر، إذ يحتاج إلى عالم رباني به ليكشف هذه المكنونات، وقد عبّر القرآن عن إنّ هذه المكنونات لا يحيط بها الإنسان العادي، ولا يستطيع بسبب وجود خاصية عدم الصفاء الكامل لقبله والمعبّر عنها الزيغ، بل تحتاج إلى المعصوم، فقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبَابِ" (ال عمران 7) كان قد ميّز هؤلاء الراسخين في طبيعة وحجم ما علموا عن الذين في قلوبهم زيغ، حيث نجد أن تأمّلاً بسيطاً في دلالة الرسوخ على تأويل الكتاب تجعل علمهم كمال كلّه، ولازم هذا الكمال أن يكون هذا العلم بالغاً لكل ما في الكتاب أو أكثر منه ، لأن: افتراض أن يكون العلم دون ذلك يفضي إلى أن إبلاغ الحجة الإلهية سيكون ناقصاً لعلم المبلّغ بها، وهذا ما يتنافي مع مبدأ الحجة البالغة. بينما يمكننا ملاحظة أن زيغ القلوب يؤدي أولاً إلى إمكانية تلاعب الشيطان أو أن يكون هذا القلب أسيراً لأهواء النفس به ثانياً ، كما أشار إلى ذلك القرآن نفسه بقوله: "لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ" (الحج 53) مما يجعلهم غير مؤهلين للنوء بعملية التبليغ الرسالية، ولا يمكنهم أن يصلوا إلى حقائق علم هذا الكتاب.
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: فعلى سبيل المثال نرى ان في هذا الكتاب: إمكانات هي في أدنى حدودها الطبيعة فوق ما يسمى بعالم الطبيعة كما في قوله جلّ من قائل : "وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً" (الرعد 31) أو في قوله تعالى اسمه: "لَوْ أَنْزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر 21)، أو قوله: "كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ" (التكاثر 5-6) وهذه الإمكانات لا يحيط به العلم العادي ، فألفاظ القرآن لا تدلّنا على الكيفية التي نكلّم بها الموتى ، أو نسيّر بها الجبال ، أو نطوي بها الأرض، وكلماته المجردة عن دلالة الهداة لا تعرب لنا عن ماهية تصدّع الجبل وخشوعه بسبب انزل القرآن عليه وكيفية ذلك، وهكذا الأمر بالنسبة للكثير من أسرار القرآن الباهرة. أترى لو أن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يتحدّث عن السر الملكوتي التي تضفيه الآية الكريمة: "وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ" (يس 9) على من يريد أن يعمي الأبصار عن رؤيته، كما هو الحال في حادثة خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من بيته مهاجراً، أترانا عرفنا خاصية هذه الآية وميزتها؟ من الواضح ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك مثل هذا العلم في الهواء الطلق بحيث يجعله مشاعاً لكل من رافقه، فلو قلنا بأنه لم يتركه لأحد فسيكون إبلاغه للرسالة ناقصاً، حيث يمكن القول بأن أسرار القرآن قد ماتت بموته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما لا يمكن لأحد أن يقوله، فقوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً" إذ يشير إلى حقيقة إكمال الدين ، فإنه لا يمكّننا من تصوّر هذا الدين تاماً، إلا من خلال وجود راع له يمكنه أن يحلّ معمّيات الكتاب، وتستمر به مواضفة الأسوة الاجتماعية التي تسير بالناس نحو التطبيق الكامل للرسالة، وتشرف على سلامة هذا التطبيق، ولهذا فإن قوله: "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد 7) إذ يشير إلى ضرورة هذا الامتداد بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يستلزم امتداد ما ارتبط بضرورات الرسالة، والعصمة كما وجدنا هي أولى هذه الضرورات، وهو ما لا نعدم وجود الدليل عليه كما أعربت آيات كثيرة كآية التطهير: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33).
وعن حدود العصمة يقول الشيخ جلال الدين الصغير: ولوساءلنا القرآن عن طبيعة هذه الحدود، لوجدنا أن آياته الكريمة تدلّنا على شمولية العصمة لكل شيء في هذا الوجود، وكما هي عادته فقد أجمل الحديث في آية، وفصّله في آيات ليؤدي كل منهما إلى الآخر. فلقد رأينا في آية التطهير "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً" (الاحزاب 33) أنه لم يحدد حدّاً للطهارة التي أرادها للمعصوم ، وعدم التحديد هذا يفيد لنا شمولية المراد بالطهارة، ولو حللنا ذلك وتأمّلنا بطابع الطهارة المراد بالآية الشريفة ، لعرفنا أن التطهير شمل جميع المواضع التي تتعلق بتكوّن الفعل الإنساني ، وهي القلب والفكر، فالقلب هو مصدر الإرادة ومركز العواطف والنيّات، والفكر هو الذي يبرر القرار الإرادي ويفسّره ، وإذا ما اجتمع الاثنان في إطار التطهير الإلهي فلا محالة من طهارة الفعل ، ومعلوم أن لا حدود تحدد تفاعلات هذه الإرادة بعد أن أطلقت طهارة القلب والفكر. ويمكننا ملاحظة نفس الأمر في العهد المشار إليه في قوله تعالى: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة 124)، فمن المعلوم أن عهد الله ليس له حدّ في هذا الوجود، بل هو يشمل كل أفياء هذا الوجود ، وعصمة الإمامة هنا شاملة لكل هذا الحد. ونفس الأمر نجده واضحاً وجلياً في الآية الكريمة: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الانبياء 107) إذ لا يمكن تصوّر الرحمة المرسلة للعالمين وهي تتعثر في مجالات تطبيقاتها التي لا نستطيع أن نحصرها في مجال في الوجود دون الآخر، فهي تشمل كل شيء في هذا الوجود. هذا على نحو الاجمال أما على نحو التفصيل فإن ذلك نعلمه من خلال أنماط العصمة.
https://telegram.me/buratha