الدكتور فاضل حسن شريف
وفي تفسير سورة آل عمران "إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ" (آل عمران 45- 46) (البقرة 45) البشرى يعني خبر سار من شخص لآخر وهنا من الملائكة إلى مريم عليها السلام. والكلمة تعني لفظة او عدد من الالفاظ "وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا" (التوبة 40)، و"قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ" (ال عمران 64)، وكما جاء (الكلمة الطيبة صدقة). الوجيه هو الشريف كونه من الانبياء والصالحين ذا جاه وقدر، وهو من المقربين الى الله تعالى وله كرامة عند الله وحفظ من الأعداء في الدنيا، وكما جاء في الدعاء (يا وجيها عند الله اشفع لنا عند الله). ومن المقربين أي الأكثر اقترابا من الله تعالى الذي يسبق الآخرين الى الجنة مع الانبياء والصالحين. المهد هو مضجع الرضيع او فراش الوليد. والكلام يعني اللفظ الذي ينتقل من الناطق الى السامع اي ان عيسى هو الناطق والسامعين هم الناس. وقد أنطقه الله بعد ساعات من ولادته. واية كلام الطفل في المهد هو تبرئة مريم عليها السلام من الاتهام. والكهل عند الكبر بعد الطفولة وهذا يعني انه بشر كبقية الأنبياء والبشر. ويرى مفسرون ان الكهولة تبدأ بالمتوسط بعد 40 سنة وقد تكون قبل هذا العمر. والكهل ما اجتمعت قوته وكمل شبابه. وقيل أنه سيكلم الناس بعد نزوله الى الارض. ومرحلة الشيخوخة تأتي بعد مرحلة الكهولة ثم بعدها أرذل العمر. ومن الصالحين أي الذين صلحت سريرتهم وعلانيتهم والصلاح من الرتب العالية.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قد تجاوز هؤلاء المجرمون الحدّ، فالصقوا بمريم العذراء الطاهرة تهمة شنيعة و بهتانا عظيما، هي أمّ لأحد أنبياء اللّه الكبار، و ذلك لأنّها حملت به بإذن اللّه دون أن يمسها رجل، تقول الآية في هذا المجال: "وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً" (النساء 156). و قد تباهي هؤلاء الجناة و افتخروا بقتلهم الأنبياء، و زعموا أنّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، تقول الآية: "وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ" (النساء 157) و لعل هؤلاء كانوا يأتون بعبارة رسول اللّه استهزاء و نكاية، و قد كذبوا بدعواهم هذه في قتل المسيح، فهم لم يقتلوه و لم يصلبوه، بل صلبوا شخصا شبيها بعيسى المسيح عليه السّلام، و إلى هذه الواقعة تشير الآية بقولها: "وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ" (النساء 157) و أكّدت الآية أنّ الذين اختلفوا في أمر المسيح عليه السّلام كانوا هم أنفسهم في شك من أمرهم، فلم يكن أحدهم يؤمن و يعتقد بما يقول، بل كانوا يتبعون الأوهام و الظن، تقول الآية: "وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" (النساء 157) و قد بحث المفسّرون حول موضوع الخلاف الوارد في هذه الآية، فاحتمل بعضهم أن يكون الخلاف حول منزلة و مقام المسيح عليه السّلام حيث اعتبره جمع من المسيحيين ابنا للّه، و رفض البعض الآخر كاليهود كونه نبيّا، و إن كل هؤلاء كانوا على خطأ من أمرهم. و قد يكون المقصود بالخلاف هو موضوع كيفية قتل المسيح عليه السّلام حيث قال البعض بأنّه قتل، و قال آخرون بأنّه لم يقتل، و لم يكن أي من هاتين الطائفتين ليثق بقول نفسه. أو لعل الذين ادعوا قتل المسيح وقعوا في شك من هذا الأمر لعدم معرفتهم بالمسيح عليه السّلام، فاختلفوا في الذي قتلوه هل كان هو المسيح، أو هو شخص غيره؟ و يأتي القرآن ليؤكّد هنا بأن هؤلاء لم يقتلوا المسيح أبدا، بل رفعه اللّه إليه، و اللّه هو القادر على كل شيء، و هو الحكيم لدى فعل أي شيء، تقول الآية: "وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً" (النساء 157).
في كتاب القصص القرآني للسيد محمد باقر الحكيم: العلاقة باللّه تعالى: و هي الصفات التي تتحدّث عن نوع و مستوى العلاقة بين اللّه تعالى و عيسى عليه السّلام، و هنا نلاحظ أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذا البعد عن الخصال التي تعبّر عن موقف العناية و الرحمة الإلهية بعيسى عليه السّلام في تصوير هذه العلاقة، بدل الصفات التي تعبّر عن موقف عيسى عليه السّلام من اللّه باستثناء صفة واحدة، و هي صفة العبودية. رفعه اللّه إليه بعد الوفاة، و طهره من الكافرين، و هي من الصفات التي اختص بها اللّه تعالى رسوله عيسى عليه السّلام "إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا" (ال عمران 55).
خافت مريم عليها السلام على ابنها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من قتله " وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ" (البقرة 87) فهاجرت به إلى مصر وتَرَّبى فيها كما في رواية لأن الأعداء بعثوا جنودا لقتل الوليد "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (البقرة 91). عيسى معناه السيد، وقيل انه مشتق من العيس كون لونه ابيض مشربا بالحمرة. وعيسى يأتي معناه أيضا الخالص من شطر امه دون اب كبقية البشر "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " (ال عمران 59). وقد ورد ابن مريم 23 مرة في القرآن تأكيدا ان عيسى عليه السلام ولد بدون اب "وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ" (البقرة 87) (البقرة 253)، و "مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ" (المائدة 75)، و "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ" (المؤمنون 50). وعيسى عليه السلام رسولا إلى بني إسرائيل "وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (ال عمران 49) و "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" (الصف 6) حيث ذكر ما سبقه مما ذكر في التوراة وما بعده ببشارة رسول اسمه احمد. وكل رسول أرسل إلى قوم "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ" (الروم 47) عدا الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى الناس جميعا "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا" (الأعراف 158) وكما جاء في الحديث الشريف (أعطيت خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ قبلي، كان كل نبيٍّ يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود). وطلب عيسى عليه السلام من بني اسرائيل عبادة الله وعدم الإشراك به والحساب والجنة والنار "وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ" (المائدة 72).
تذكر القصص القرآنية اخبار عن هجرة الانبياء منها مريم وابنها عيسى عليهما السلام "وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ" (المؤمنون 50)، و عيسى عليه السلام هاجر الى السماء "بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ" (النساء 158). الوقائع التاريخية في القران الكريم تبين ان انبياء هاجروا قسرا منهم ابراهيم واسماعيل ولوط ويوسف وموسى وهارون وشعيب وعيسى ومحمد عليهم السلام الى مكة والمدينة والارض المقدسة ومصر. وكذلك هجرة ائمة اهل البيت عليهم السلام منهم الكاظم والرضا والهادي والعسكري عليهم السلام الى بغداد وطوس وسامراء.
https://telegram.me/buratha