جاء في كتاب الامام علي عليه السلام سيرته وقيادته في ضوء المنهج التحليلي للمؤلف محمد حسين علي الصغير عن بداية الدعوة: كابد عليّ ما كابد محمد من شظف العيش ، ومرارة الجوع والظمأ، وكان أسوة له في مكاره الدهر وعاديات الزمن، ومحمد يعلن دعوته في حذر، ويعرض رسالته في أناة ، فلا هي علنية كما يشاء الإعلان، ولا هي سرية بحيث لم تعرف، ولكنها شيء بين ذلك، حتى إذا نزل قوله تعالى "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" (الشعراء 214) جمع النبي بني هاشم وعرض عليهم الإسلام ، فكان مشهدا عاطفيا مؤثرا، مجتمع الأهل والعشيرة والأقربين ، ولكنه كان مثيرا ومتوترا في الوقت نفسه ، فعليّ يولم لهذا الجمع بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقدم لهم ما أولم، ولو قدّم لأحدهم لأتى عليه كله، ولكنه الشبع للجميع، ويسقيهم ما طاب وطهر فيتملكهم الري، فينطلق أبو لهب قائلا: (سحركم والله محمد) وينفّض الجمع، والنبي لا يعبأ بهذا الهراء ، ولكنه يجمعهم ثانية ، ويطلب إليهم بيسر: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) الشهادة فحسب، ويطلب المؤازرة أيضا ، ويستنفر الضمائر بشيء من المودّة حينا، ومن التلويح بشيء آخر حينا ؛ فمن ذا يسانده ويعاضده عل أن يكون أخاه ووزيره وخليفته من بعده، وهذا شيء جديد، بأمر جديد، وقد وجم القوم ، ولاحت إمارات الغضب يمثلّها أبو لهب فيقول: ألهذا جمعتنا يا محمد، تبا لك ولما جمعتنا له، وينزل قوله تعالى "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ" (المسد 1) وتظهر ضحكات الهزء والسخرية حينا، حينما ينعم عليّ له بالاجابة ثائرا: (لا يحزنك والله إعنات القوم فعليهم ضلالهم ، وإني يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت). إجابة بالرضا من وجه ، وإعلان للنضال من وجه آخر، وهما معا يبدءان العمل بين محمد وعلي ، فيعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم للملأ من قريش مخاطبا عليا: (أنت أخي ووزيري وخليفتي من بعدي) فيلتفت ممثل قريش لأبي طالب عاتباً: (مرحاً لك فقد أمّر إبنك عليك) وتتكرر هذه البادرة مرات لا يستجيب لها إلا علي بن أبي طالب عليهالسلام فيمنحه النبي ما منح من الأخوّة والوزارة والوصية والإستخلاف بحسب تعدد النصوص الروائية المستفيضة. ولم يكن هذا وحده يؤرق عليا، فهناك ما يضاهيه أو يزيد عليه، فقد كان ينظر الى هؤلاء المستضعفين في مكة: ياسرا وسمية أبوي عمار، يصبّ عليهم العذاب صبا، حتى يموتوا تحت العذاب شهداء، ويمثل بهم أقسى تمثيل لم يشهد له العرب مثيلا من قبل، ويشاهد عمارا إبنهما، وقد عذب عذابا شديدا حتى كادت تزهق نفسه، ويضطره هؤلاء إلى كلمة الكفر، فيقولها بلسانه، وقلبه عامر بالإيمان، وينزل القرآن بذلك يسدده ويسليه "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" (النحل 106).
ويقول الاستاذ الصغير في كتابه عن ابتداء هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم: وعند منتصف الليل من ربيع الأول للسنة الثالثة عشرة من البعثة الشريفة ينسّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدار إنسلالا ، ويسلك من خلال القوم، وهم يتأهبون للبيات، وهو يتلو قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ" (يس 9). ويرمي وجوه القوم بحفنه من الحصى أو التراب (شاهت الوجوه ذلا) ويخرج من مكة هو وصاحبه أبو بكر الصديق، وأفاق المشركون عند الفجر، ليهجموا على محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، وإذا بعليّ عليه السلام في الفراش ، فيسقط في أيديهم ، ويتبعونه فلا يفلحون بشيء، ويتفرغ علي لإرجاع الودائع وتنفيذ الوصايا ثلاثة أيام ، ويخرج بالفواطم جهارا نهارا فتعرض له قريش ، ويكون قتال، فيقتل جناحا مولى حرب بن أمية، فيتراجع القوم بعض الشيء، ويتنمر عليّ عليه السلام في ذات الله، ويجالد ما شاءت له المجالدة، فيخلي القوم بينه وبين الضعائن، ويواصل المسير حتى يدرك النبي في قباء، وكان ينتظره هناك، وما شاء أن يدخل المدينة قبله، ويدخل معه المدينة، ويحط بها رحاله، وتلتف حوله رجاله.
وعن موقعة بدر يقول الدكتور الصغير: وما كان لمحمد أن يستريح أو يريح ، فقدره أن يناضل ويكافح ويستميت ، ففي العام الثاني من الهجرة ترسل قريشا عيرها في تجارتها الى الشام ، بقيادة أبي سفيان ، فتكتال وتعود ، ويعلم النبي وآله وأصحابه بذلك ، فيترصدون القافلة ويهبّون إليها خفافا وثقالا ، ويعدهم الله "احدى الطائفتين" (الانفال 7) العير أو النفير، ويستحبّون العير لما تحمل من الغنائم، ويأبى الله إلا النفير لما فيه من البلاء والنصر والعزة للدين الوليد، وقد عبّر القرآن عن هذا الملحظ: "وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ" (الانفال 7). وينبىء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بمصير هؤلاء "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (القمر 45) وكان الأمر كما قال ومن ينظر كثرة قريش وجودة إعدادها الحربي يحكم بالنصر لها، ومن يمعن بتردد قريش وخذلانها، وتلاومها واختلافها، وكثرة لغطها، وتنافر رجالها، ويقارنه إلى ثبات المسلمين وهم القلة، وجلدهم وتعاضدهم وتساندهم يحكم بالنصر لهم.
وعن حياة الامام علي عليه السلام يبين مؤلف الكتاب محمد حسين علي الصغير: وكانت الحياة في بيت علي مليئة بالزهد والكفاف، عامرة بالايثار، لا فضل من قوت، ولا استزادة من أرغفة ، شأن الأبرار الصالحين، يكاد لا يكون هذا العيش الزهيد وقفاً على عليّ والزهراء ، فقد يشاركهما فيه سواهما ممن أمعن في الفقر إمعاناً. ويصوم الفتى والفتاة ، ويعدّان للإفطار أقراصاً من الخبز ، وجريشاً من الملح ، وشيئاً من لبن قد يحضر وقد يغيب ، وإذا بالباب يطرق وعليه مسكين يستغيث من الجوع ، فيجود عليه الصائمان بإفطارهما هذا ، ويطويان ليلتهما لليوم الثاني ، ويعدّان مائدة الإفطار على هذا النحو البسيط ، وإذا بالباب يطرق وعليه يتيم لا يجد إلى الشبع سبيلاً فيجود عليه الصائمان بإفطارهما ، ويطويان ليلتهما لليوم الثالث ، ويعدان مائدة الإفطار وهمافيعسر من أمرهما ، وإذا بالباب يطرق وعليه أسير لا طمع له في القرص ، فيجود عليه الصائمان بافطارهما ، ويهبط حبرائيل بالوحي على الرسول الكريم مدوناً هذه الحادثة الفريدة في الإيثار "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا" (الانسان 8-9). وينتشر النبأ بين المسلمين إنتشار النار بالهشيم. وكان عليٌ في هذا الجانب مؤثراً على نفسه دون شك "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ" (الحشر 9) فلم يكن ذا سعة في المال، ولم يكن مبسوط اليد في الثراء، ولكنه لم يعرف عنه الاعتذار في هذا المجال، يجود بما عنده، ويلزم نفسه بالشدة، ابتغاء مرضاة الله، لا يشرك في نيته أحداً، ولا يفضي بسره في ذلك إلى أحد، فعمله خالص لله وحده. عن أبي ذر الغفاري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهاتين وإلا فصّمتا ، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا ، يقول : عليٌ قائد البرّرة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، فخذول من خذله؛ أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ولم يعطه أحد شيئاً ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم إشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً ، وكان عليٌ راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى آخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله؛ وفي خبر آخر في حديث طويل يشتمل على حديث المنزلة ، فسأله النبي : ماذا أُعطيت ، قال خاتم من فضة ، قال : من أعطاكه؟ قال : ذلك القائم ، فإذا هو عليٌّ ، قال : على أي حال أعطاكه؟ قال: أعطاني وهو راكع. فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت عليه الآيتان "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" (المائدة 55-56). وقد أجمع المسلمون على نزول هاتين الآيتين في حق علي عليه السلام. وعن ابن عباس: كانت مع علي أربعة دراهم، فتصدق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبواحد سراً، وبواحد علانية ، فنزلت "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 274).
https://telegram.me/buratha