الدكتور فاضل حسن شريف
عن كتاب المستشرقون والدراسات القرآنية لمؤلفه الدكتور محمد حسين علي الصغير حول الدلالات الايحائية: أهمها: أ ـ إلهام: وهو أن يلقي الله تعالى في النفس أمرا يبعث على الفعل أو الترك وهو نوع من الوحي ، يخص به الله من يشاء من عباده غير قابل للتفكير به أو التخطيط له مسبقا، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة والسلوك الكسبي من جهة أخرى، كما يدل على ذلك قوله تعالى: "وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ" (القصص 7). وقوله تعالى "إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى" (طه 38). ب ـ التسخير: وهو أن يسخر الله تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما بهديه وإشاءته وتسخيره ، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا أحيانا ، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة ، ما يدل على هذا النوع قوله تعالى: "وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ" (النحل 68). ج ـ الرؤيا الصادقة: وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء خاصة ، يتلقون فيها الأوامر ويتسلمون التعليمات من السماء ، كما دل على ذلك قوله تعالى ـ فيما اقتص الله من خبر إبراهيم عليهالسلام مع ولدهـ "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)" (الصافات 102-105). فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام، إلى استفادة إبراهيم وولده عليه السلام، الأمر الإلهي فيها ، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به، بدليل تعقيب ذلك من قبل الله في خطاب إبراهيم عليه السلام بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين. وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول بدء الوحي ، كما في رواية أم المؤمنين عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ( الصالحة ) في النوم. فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح). وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الحال في شأن فتح مكة، قال تعالى: "لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ" (الفتح 27). وقد دل على جميع ما تقدم مضافا للدلالات القرآنية ما يروى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم (انقطع الوحي، وبقيت المبشرات. رؤيا المؤمن، فالالهام والتسخير والمنام).
ويستمر الدكتور الصغير متحدثا عن الدلالات الايحائية: وفيه إذا صحـ تفريق بين الوحي المباشر، وهو جبرئيل عليهالسلام، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحديث. وقد يكون الوحي بملحظ آخر عام بين جميع الأنبياء والرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد يكون خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فما كان عاما يكون مشتركا بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم، وما كان خاصا ينفرد به وحده. فالأول: كقوله تعالى: "وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ" (الانبياء 25). ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته، ولا يختص بالإيحاء بمعناه الدقيق، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السّوي، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسيا وعقليا. قال الراغب الأصبهاني ( ت: 502 ه ): (فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع، فاذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله ووجوب عبادته). والثاني: ما هو مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، كالأمر له في قوله تعالى: "اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ" (الانعام 106). وكإخباره عن نفسه كقوله تعالى: "إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ" (الاحقاف 9) وكالطلب إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: "قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً" (الكهف 110).
وعن المنزل من القرآن يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير: وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن: 1 ـ أنه اللفظ والمعنى، وأن جبرئيل عليهالسلام حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به. 2 ـ أن جبرئيل عليه السلام إنما نزل بالمعاني الخاصة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك المعاني، وعبر عنها بلغة العرب. 3 ـ أن جبرئيل عليه السلام، إنما ألقي إليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب والأول هو الصحيح دون ريب، لأن جبرئيل عليه السلام وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية فلا يضيف ولا يغير ولا يبدل ولا ينسى ولا يخون ولا يتجوز ، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى: "قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل 102). والقرآن نازل من عند الله بألفاظه نفسها، وما مهمة جبرئيل عليه السلام إلا تبليغ الوحي كما تسلمه وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى: "تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ" (ال عمران 108). ان المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية قال تعالى: "وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (الحشر 7). وثمة دليل قرآني في توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة "قل" في القرآن الكريم، وتكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة، تصريح وأي تصريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا دخل له في الوحي، فلا يصوغه بلفظه، ولا يلقيه بكلامه، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء، فهو مخاطب لا متكلم، حاك لما يسمعه، لا معبر عن شيء يجول في نفسه). لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة ، بل وجزء من آية ، يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصا. ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة وأئمة البيان والفن القولي، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل، فأثاروا الشبهات، وتعلقوا بالأوهام، فوصفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالضلال، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله: "وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)" (النجم 1-4). وتداعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة، فقالوا أضغاث أحلام وقد أيقنوا بصحوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقظته، وردوه إلى الكذب والاختلاق وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين، ونسبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الشعر، وقد علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما ترك في هذا المجال أثرا يركن إليه بهذه السمة ، وقد عبر القرآن عن ذلك: "قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ " (الانبياء 5). وما استقامت لهم الدعوى في شيء، ووصموه بالجنون: "وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" (الحجر 6). "ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ" (الدخان 14).
https://telegram.me/buratha