الدكتور فاضل حسن شريف
عن رجاحة عقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتزانه في تصرفاته يقول الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه الموسوم المستشرقون والدراسات القرآنية: وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة الذاتية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على رجاحة عقله واتزانه في تصرفاته ، وتأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور، وقد لبث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة فما مسكوا زلة ولا أدركوا غفلة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ" (يونس 16). وترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون ، فرد افتراءهم القرآن بما أمره به "فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور 29). فما كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بشيرا ونذيرا ، وما كان الوحي إلا ذكرا للعالمين فأين هو من الكهانة؟ "وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ" (الحاقة 42). وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم، انطلقوا إلى القول "إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ" (المدثر 24). شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم ورسلهم، حذو القذة بالقذة، وفي الادعاءات قال تعالى: "كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ" (الذاريات 52) وقد علموا جديا، أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في أصالته العقلية، أبعد ما يكون عن السحر والشعبذة والتمويه من قبل ومن بعد. وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم معلما من البشر، وهو غلام رومي يحترف صناعة السيوف بمكة ؛ فألقمهم القرآن حجرا بردهم ردا فطريا: "لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" (النحل 103). وأغلقت السبل كافة في الوجوه والألسن والأقاويل، فرجموا بالغيب وتشبثوا بالطحلب، وحسبوا وجدان الضالة، فقالوا بما حكى الله عنهم "إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ" (الانعام 25). وتمادى بهم القوم، ففصلوا بعد الاجمال، وأبانوا بعد الإبهام: "وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" (الفرقان 5). وهكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات، هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود، إذ لم يؤيدها نص استقرائي واحد في حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ويبقى الوحي وحيا رغم كل هذه الأراجيف: "وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" (الشورى 7). ويبقى القرآن مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي.
وجاء في الفصل السابع حول الابعاد الفنية لترجمة القرآن ومشكلاتها البلاغية عند المستشرقين وبالتحديد عن دلالة الألفاظ يقول الدكتور الصغير: ودلالة الألفاظ تتقلب بين تخير اللفظ بإصابته للمعنى، وإيقاع اللفظ في جرسه الموسيقى وفي موافقته لما قبله وما بعده في التركيب. وقد اهتم القرآن الكريم بهذه العناصر الفنية، فحرص على موسيقى اللفظ وسحر العبارة، وإصابة المعنى، فكانت اللفظة المفردة عنده متميزة بقيمتها الجمالية، ومفهومها البنائي في دلالات شتى ، تشمل مختلف الدلالات اللفظية، صوتية كانت أو اجتماعية أو إيحائية أو هامشية، وكلها ذات علاقة وثيقة بفهم من يستخرجها. فإذا تم استخراجها، بقيت مسألة ترجمتها، فهل يتوافر المترجمون على استنباط هذه الخصوصيات؟ هذا ما يخالجنا فيه الشك؟ وهل تتحقق ترجمتها على أصولها في جرسها ونغمها حتى مع القدرة على اكتشافها؟ هذا ما سنتناوله في جزئيات تطبيقية فيما يلي: 1 ـ قال تعالى "ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ" (الزمر 29) فاللفظة متشاكسون تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران فالمخاصمة تترجم: To disPute والمشاكسة تترجم: ILL TemPered ولا دلالة صوتية لهما، ولا تلمس جرسا موسيقيا بهما كما في لغة الأصل. 2 ـ واللفظة "صفوان" من قوله تعالى "كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ" (البقرة 264). تعطي صورة الحجر المتكلس الذي يجتمع من ذرات متراكمة غير قابلة للانفصال، فهو يتماسك ويتصلد بعد أن يخالطه التراب المهيل من هنا وهناك، فيباكره تقاطر المطر، وتدافع السيول فبدلا من أن يهش ويلين ويتفتت، وإذا به يعود كتلة حجرية واحدة صلبا لا ينفذ ومتحجرا لا ينقد، ولا تحقق لنا الترجمة الدلالة الفصيحة المركزية لهذا اللفظ بكل محتوياتها. فالحجر بالانجليزية يترجم إلى:.Stone وتحجر واستحجر يترجم إلى: T petri F Y ـ 3- وكلمة "مشكاة" في قوله تعالى "مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (النور 35) ذات دلالة خاصة بها، وقد اختارها القرآن دون الكلمات الأخرى التي تفقد فيها مميزات لفظ المشكاة بخاصة، وترجمتها لا تعطي دقائق المشكاة بما فيها من دلالة وبهاء وجمال، وتبادر ذهني عميق وقد لا يوجد مماثلها في اللغة المترجم إليها، مما يعني أن البديل لها يفقد الكلمة كل خصائصها الجمالية في الموروث البلاغي للقرآن. 4 ـ قد نجد كثيرا من الألفاظ في استعمالاتها القرآنية تشكل مشكلة لا يستهان بها في ذاتية الترجمة. جملة الألفاظ ذات المدلول الشرعي كالصلاة والتيمم والوضوء والغسل والسجود والركوع والصوم والحج والسعي والزكاة وأمثال هذه الألفاظ التي ان ترجمت لغويا فقدت دلالتها الشرعية.
ويستطرد الدكتور محمد حسين علي الصغير في سرد دلالة الألفاظ: 5 ـ وما يشترط في مخارج الكلمة المفردة العربية ، وهو : أن يكون تأليف تلك اللفظة من حروف متباعدة المخارج. 6 ـ وقد تكون اللفظة في القرآن من الأضداد ، تصدق على المعنى وضده، كما هي الحال في القرء من قوله تعالى "وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (البقرة 228) في دلالتها على الطهر والحيض، وكما في "عسعس" من قوله تعالى "وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ" (التكوير 17) في إرادة المتقابلين منها في معنى: اقبل تارة وادبر تارة أخرى. 7 ـ وقد تكون اللفظة ذات دلالة قرآنية خاصة ومتميزة، كالإشارة في القرآن بأكثر من مائة مرة إلى الكتاب المرتبط بعملية التنزيل والإنزال والوحي الإلهي، وليس الحال كذلك في ترجمتها إلى الانجليزية بلفظ قد يعني استعمالا ساذجا لا دلالة إيحائية معه ويقول الأستاذ عبد الله يوسف علي، وقد ترجم القرآن إلى الانجليزية أن كلمة رب، في "رَبِّ الْعالَمِينَ" (الفاتحة 2) هي Lord أي المالك عند عموم المترجمين، وتطلق هذه الكلمة على الإله والمسيح كما هو في قاموس اكسفورد، وقاموس بريطانيا الكبير، وعند ما يراد بها الله تعالى يسبقها ضمير المتكلم المنفصل أو حرف النداء، أما كلمة رب العربية القرآنية فهي أعم من هذا المدلول وأشمل، ومعناها الملكية التامة مع الرعاية والتعهد للمربوب. 8 ـ وهناك ألفاظ في القرآن لا تجد مفهومها متكاملا في ألفاظ من لغة أخرى ، فيختار لها ما هو المقارب أو المناسب كما في كلمة "الغيب" المترجمة إلى الانجليزية. 9. يلاحظ بعض المترجمين تعمد الابتعاد عن المعنى الدقيق للترجمة أو التفسير غير المطابق للألفاظ دلالة ومعنى ، مما يخرج الكلام عن دائرته اللغوية والبلاغية بوقت واحد ، فالمستشرق الانجليزي الأستاذ روديل عند ترجمته لقوله تعالى "أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)" (العلق 9-10) يؤكد أن العبد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه يعقب على ذلك أن الذين آمنوا بالشريعة الإسلامية كان أكثرهم مماليك. 10 ـ وفي كثير من الأحيان قد تقابل اللفظة العربية في القرآن لفظة في اللغة المترجم إليها ولكن دلالتها متعددة الجوانب، والمراد بها أكثر من معنى مستفاد.
https://telegram.me/buratha