الدكتور فاضل حسن شريف
يستمر الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه مجاز القرآن خصائصه الفنيّة وبلاغته العربيّة قائلا: وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 هـ) هؤلاء وهؤلاء: وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى، وهم المنكرون للمجاز: إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها، كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع. وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدىً وشفاء، ونورا وضياء، وحياة تحيا بها القلوب، وروحا تنشرح عنه الصدور، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به خلاف البيان، وفي حد الإغلاق، والبعد عن التبيان، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء، والمحاجي من الناس، كيف وقد وصفوه بأنه: "عربيٌ مبين" (النحل 103). وعبد القادر في هذا يشير الى الخلاف التقليدي في هذه المسألة، أهي واردة أم هي منتفية؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن، ووافقهم على هذا بعض الشافعية، وقسم من المالكية.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله بالقول أن عبد القاهر الجرجاني (ت: 471 ه ) بقوله: (وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك الى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة ، وذلك قوله عزّ وجلّ : "مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدّنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته" (ال عمران 117) وأمثال ذلك كثير). وعن تقسيم المجاز القرآني هناك مجاز الحذف عند سيبويه (ت: 180 هـ ) وعند الفراء (ت: 207 هـ ) اورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف اليه إعراب المضاف. وقد مثلوا له بقوله تعالى: "وسئل القرية" (يوسف 82). وقد أضاف عز الدين إبن عبد السلام (ت: 660 هـ ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه، وهو التشبيه المحذوف الأداة، وأوضح رأيه هذا بقوله: (العرب إذا شبهوا جرما بجرم، أو معنى بمعنى، أو معنى بجرم، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان ذلك تشبيها مجازيا). أما مجاز الحذف، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساوات والأطناب في موضوعهما، ولا داع الى تكلف القول في الآية "وسئل القرية" (يوسف 82). ان حكم القرية في الأصل هو الجر، والنصب فيها مجاز، باعتبار ان المضاف محذوف، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا. وأما مجاز الزيادة، وقد مثلوا له بقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" (الشورى 11)، على القول بزيادة الكاف، أي ليس مثله شيء، فإعراب "مثله" في الأصل هو النصب، فزيدت الكاف، فصار الحكم جرا، وهذا الجر مجازي على ما يصفون. والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط، بل هو من باب زيادة المعنى في زيادة المبنى، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد ـ والله العالم ـ ليس لما يمثل به مثيل، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا.
ويقول الدكتور محمد حسين الصغير عن مجاز التضمين: فليس من المجاز في شيء، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي، بل المراد به : إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى: "وأخبتوا الى ربهم" (هود 23)، فأنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا الى الإخبات، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا. وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي، فالمجاز المفرد يكون، عقليا ويكون لغويا، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة الى ما بعدها، وتكتشف بالإسناد، كقوله تعالى: "والضحى (1) والليل إذا سجى (2)" (الضحى 1-2) فكلمة "سجا" بالنسبة الى اللّيل مجاز عقلي مفرد، والليل لا يهدأ، وإنما ينسب الهدوء فيه الى غيره، ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء، عبر عنه بـ « سجا » وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك. والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدك إرادته. والمجاز المفرد على أقسام: لغوي، وشرعي، وعرفي، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي لفظ "صلاة" إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء. والعرفي نوعان: العرفي الخاص كلفظ "فعل" إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحديث. والعرفي العام كلفظ "دابة" إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان. وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي بشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه، أي: بشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور، لأمر واحد كما في قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله" (الحجرات 1).
https://telegram.me/buratha