الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: سؤال يفرض نفسه: و أخيرا بقي سؤال ملح و هو: أوّلا: إن الأدلة المذكورة في الآية موضوع البحث وهي الآية 3 من سورة المائدة و الأدلة التي ستأتي في تفسير الآية (67) من سورة المائدة و التي تقول: "يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ" (المائدة 67) لو كانت كلها تخص واقعة واحدة، فلما ذا فصل القرآن بين هاتين الآيتين و لم تأتيا متعاقبين في مكان واحد؟ و ثانيا: لا يوجد ترابط موضوعي بين ذلك الجزء من الآية الذي يتحدث عن واقعة (غدير خم) و بين الجزء الآخر منها الذي يتحدث عن الحلال و الحرام من اللحوم، فما هو سبب هذه المفارقة الظاهرة؟ الجواب: أوّلا: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية و كذلك سور القرآن الكريم لم تجمع كلها مرتبة بحسب نزولها الزمني، بل نشاهد كثيرا من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكية أي نزلت في مكة، كما نلاحظ آيات مدنية بين السور المكية أيضا. و بناء على هذه الحقيقة، فلا عجب إذن من وجود هذا الفاصل في القرآن بين الآيتين المذكورتين (و يجب الاعتراف بأن ترتيب الآيات القرآنية بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه) فلو كانت الآيات القرآنية مرتبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض واردا في هذا المجال. ثانيا: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة (غدير خم) في آية تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقا، مثل موضوع أحكام الحلال و الحرام من اللحوم، إنما هو لصيانة الموضوع الأوّل من أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.
ويستطرد الشيخ الشيرازي قائلا: إنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاعتراض الصريح الذي واجهه طلب النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكتابة وصيته، إلى حدّ وصفوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لدى طلبه هذا الأمر بأنّه يهجر (و العياذ باللّه) و قد وردت تفاصيل هذه الوقائع في الكتب الإسلامية المعروفة، سواء عن طريق جمهور السنّة أو الشيعة، و هي تدل بوضوح على الحساسية المفرطة التي كانت لدى نفر من الناس تجاه قضية الخلافة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها لإنكار هذا الأمر. فلا يستبعد و الحالة هذه أن تتخذ اجراءات وقائية لحماية الأدلة و الوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسّها يد التحريف أو الحذف، و من هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة المهم جدّا في القرآن بين آيات الأحكام الشرعية الفرعية لإبعاد عيون و أيدي المعارضين و العابثين عنها. إضافة إلى ذلك و كما أسلفنا في حديثنا فإنّ الوثائق الخاصّة بنزول آية: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" (المائدة 3) الواردة في واقعة (غدير خم) حول قضية الخلافة بعد النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تقتصر كتب الشيعة وحدهم على ذكرها، بل تناقلها أيضا الكثير من كتب السنّة من طرق متعددة عن ثلاثة من الصحابة المعروفين. لقد أعادت الآية في نهايتها الكرة في التحدث عن اللحوم المحرمة فبيّنت حكم الاضطرار في حالة المعاناة من الجوع إذ أجازت تناول اللحم المحرم بشرط أن لا يكون هدف الشخص ارتكاب المعصية من تناول ذلك، مشيرة إلى غفران اللّه و رحمته في عدم إلجاء عباده عند الاضطرار إلى تحمل المعاناة و المشقة، و عدم معاقبتهم في مثل هذه الحالات. قالت الآية الكريمة: "فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (المائدة 3).
ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: إشكالات المعاندين الواهية: كثيرا ما نرى في مورد الآيات أو الرّوايات التي تذكر فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام إصرار البعض إلى حدّ ما في أن يغضّ النظر عنها، أو يقوم بتوجيهها توجيها محرّفا و يدقق في أمرها بوسوسة بالغة، في حين أنّ هذه الفضائل لو كانت واردة في الآخرين لقبلوها بسهولة و بساطة. النموذج الحي الكلام هو الإشكالات السباعية التي ذكرها ابن تيمية في كتابه (منهاج السنّة) في أحاديث مروية في أسباب نزول الآيات المذكورة و هي: 1- حديث قصّة يوم الغدير بعد رجوع الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حجّة الوداع أي في السنة العاشرة للهجرة، في حين أنّ السورة المعارج من السور المكّية و قد نزلت قبل الهجرة. الجواب: كما بيّنا من قبل فإنّ كثيرا من السور تسمّى مكّية في حين أنّ بعض آياتها مدنية كما يقول المفسّرون، و بالعكس فإنّ هناك سورا مدنية نزلت بعض آياتها في مكّة. 2- جاء في الحديث أنّ الحارث بن النعمان حضر عند النّبي في الأبطح، و المعروف أنّ الأبطح، واد في مكّة، و هذا لا يتفق مع نزول الآية بعد حادثة الغدير. الجواب: إنّ كلمة الأبطح وردت في بعض الرّوايات، لا كلّ الرّوايات، كما أنّ الأبطح و البطحاء تعني كل أرض صحراء رملية و تجري فيها السيول، و كذلك هناك مناطق في المدينة تسمّى بالأبطح و البطحاء، و قد أشار العرب إلى ذلك في كثير من أقوالهم و أشعارهم. المشهور أنّ آية: "وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ" (الانفال 32) الجواب: ليس منّا من يقول: إنّ حادثة الغدير هي سبب نزول تلك الآية، بل الحديث هو في آية: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ و أمّا الآية (33) من سورة الأنفال فهي أنّ الحارث بن النعمان قد استخدمها في كلامه، و هذا لا يرتبط بأسباب النزول، و لكن العصبية المفرطة تجعل الإنسان غافلا عن هذا الموضوع الواضح.
و القرآن المجيد يشتمل على تعابير، و من ذلك ما ورد عن زكريا الذي توسل إلى اللّه بقوله: "فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" (مريم 5) و المعروف أنّ المراد هنا من كلمة (ولي) المشرف الذي يتولى شؤون الإشراف بعد الموت كما يعيّن الكثير من الناس في حياتهم من يقوم مقامهم بعد الموت، و يسمّى الشخص المعين منذ لحظة تعيينه بالنائب أو الخليفة مع كون هذه الصفات بالقوة، و ليست بالفعل. و نقل في كتاب الغدير القيم عن كتاب سليم بن قيس الهلالي حديث مفصل مفاده أنّ عليّا عليه السّلام حين كان منشغلا بحرب صفين، تحدث في ميدان الحرب امام جمع من الناس مستدلا بدلائل عديدة في إثبات حقّه، و كان من جملة ما استدل به الإمام عليه السّلام هذه الآية الكريمة. قوله تعالى "وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً" (الكهف 47). "نغادر" من غدر بمعنى الترك. و لذلك يقال للذي يخلف الوعد و الميثاق و يتركه بأنّه غدر و يقال لمياه الأمطار المتجمعة في مكان واحد ب (الغدير) لأنّها قد تركت هناك.
https://telegram.me/buratha