الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الصوت اللغوي في القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن الألفاظ دالة على الأصوات: توافرت طائفة من الألفاظ الدقيقة عند إطلاقها في القرآن، وتتميز هذه الدقة بكون اللفظ يدل على نفس الصوت، والصوت يتجلى فيه ذات اللفظ، بحيث يستخرج الصوت من الكلمة، وتؤخذ الكلمة منه، وهذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعاني بما يشكل أصواتها، فتكون أصوات الحروف على سمت الأحداث التي يراد التعبير عنها. يقول ابن جني (ت: 392 هـ) « فأما مقابلة الألفاظ بما يشكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر عنها، فيعدلونها بها، ويحتذونها عليها، وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره، ومن ذلك قولهم (خضم وقضم، فالخضم لأكل الرطب والقضم لأكل اليابس). ونضع فيما يأتي أمثلة لهذا الملحظ في بعض ألفاظ القرآن العظيم: 1ـ مادة (خر) توحي في القرآن بدلالتها الصوتية بأن هذا اللفظ جاء متلبساً بالصوت على سمت الحديث في كل من قوله تعالى: أ ـ "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء" (الحج 31). ب ـ "فخر عليهم السقف من فوقهم" (النحل 26). جـ ـ "فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب" (سبأ 14). د ـ "فأستفغر ربه وخر راكعا وأناب" (ص 24). فإن هذا اللفظ وقد جاء بصيغة واحدة في عدة استعمالات، يدل بمجمله على السقوط والهوي، وهذا السقوط، وذلك الهوي: مصحوبان بصوت ما، وهذا الصوت هو الخرير، والخرير هو صوت الماء، أو صوت الريح، أو صوتهما معا، فالحدث على هذا مستل من جنس الصوت، ومن هنا يستشعر الراغب (ت: 502 هـ ) دلالة اللفظ الصوتية فيقول: (فمعنى خرّ سقط سقوطاً يسمع منه خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو، وقوله تعالى "خروا سجدا" (السجدة 15) فاستعمال الخر تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط، وحصول الصوت منهم بالتسبيح، وقوله من بعده "وسبحوا بحمد ربهم" (السجدة 15)]. فتنبيه أن ذلك الخرير كان تسبيحاً بحمد الله لا بشيء آخر). ووجه الدلالة فيما يبدو أن الخر يأتي بمعنى السقوط من شاهق، وأن الخرير إنما يستعمل لصوت الماء أو الريح أو الصدى محاكياً لهذا اللفظ في ترديده، فلم يرد مجرد السقوط من (خر) وإنما أراد الصوت مضافاً إليه الوقوع والوجبة في إحداث هذا الصوت، وكانت هذه الإضافة الدلالية صوتية سواءً أكانت في صوت الماء، أم بالوقوع والسقوط، أم بالتسبيح.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن الألفاظ دالة على الأصوات قائلا: 2 ـ مادة (صرّ) في كلمة "صر" من قوله تعالى: "كمثل ريح فيها صر" (ال عمران 117) أو كلمة "صرصر" في كل من قوله تعالى: أ ـ "وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية" (الحاقة 6). ب ـ "إنّا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر" (القمر 19). هذه المادة في هذه الصيغ الثلاث: مرفوعة، مجرورة، منصوبة، وردت في القرآن وأنت تلمس فيها اصطكاك الأسنان، وترديد اللسان، فالصاد في وقعها الصارخ، والراء المضعّفة، والتكرار للمادة في صرصر ، قد أضفا صيغة الشدة، وجسّد صورة الرهبة، فلا الدفء بمستنزل، ولا الوقاية متيسرة، وذلك ما يهد كيان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا يجده، أو النجاة فلا يصل شاطئها، أو الوقاية من البرد القارس فلا يهتبلها. قال ابن الأنباري في قوله تعالى "كمثل ريح فيها صر" (ال عمران 117). فيها أقوال: أحدها: فيها صر أي برد، والثاني فيها تصويت وحركة. والصرة أشد الصياح تكون في الطائر والإنسان. وصر صماخه صريراً: صوّت من العطش، وصرصر الطائر: صوت.
وعن اللفظ المناسب للصوت المناسب يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه: كل لفظ في القرآن الكريم أختير مكانه وموضعه من الآية أو العبارة أو الجملة فإن غيره لا يسد مسدّه بداهة، فقد اختار القرآن اللفظ المناسب في الموقع المناسب من عدة وجوه، وبمختلف الدلالات، إلا أن استنباط ذلك صوتياً يوحي باستقلالية الكلمة المختارة لدلالة أعمق، وأشارة أدق، بحيث يتعذر على أية جهة فنية استبدال ذلك بغيره، إذ لا يؤدي غيره المراد الواعي منه، وذلك معلم من معالم الإعجاز البياني في القرآن. 1ـ في قوله تعالى "ياجبال أوبي معه والطير" (سبأ 10). جرس موسيقي حالم، وصدى صوتي عميق، وإطلاق للأصوات من أقصى الحلق وضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها، فيما به يتعين موقع "أوبي" بحيث لا يسدّ مسدّها غيرها من الألفاظ، فالمراد بها ترجيع التسبيح من آب يؤوب ، على جهة الإعجاز بحيث تسبح الجبال، وهو خلاف العادة ، وخرق لنواميس الكون في ترديد الأصوات من قبل ما لا يصوت، ولو استبدل هذا اللفظ في غير القرآن لعاد النظر مهلهلاً، والدلالة الصوتية منعدمة. وتقرأ الآية "ياجبال أوبي معه والطير" (سبأ 10). بالتشديد، وتقرأ بالتخفيف، فمن قرأ "أوبي" بالتشديد فمعناه: يا جبال سبحي معه، ورجعي التسبيح لأنه قال: سخرنا الجبال معه يسبحن، ومن قرأ "أوبي" بالتخفيف، فمعناه: عودي معه بالتسبيح كلما عاد فيه. 2 ـ في قوله تعالى "مثل الذين اتخذوا من دون الله اولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (العنكبوت 41). 3 ـ وفي قوله تعالى "وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم" (النحل 76). تنهض كلمة "كل" وهي صارخة مشرأبة ، لتوحي عادة بمعنى العالة في أبرز مظاهرها ، وقد استعملها القرآن لإضاءة المعنى بما فيها من غلظة وشدة وثقل، لهذا الصدى الصوتي الخاص المتولد من احتكاك الكاف وإطباق اللام على اللهاة ، وما ينجم عن ذلك من رنة في الذاكرة ، وشدة على السمع، فصوت الكاف في العربية، وهو من حروف الإطباق، شديد انفجار مهموس، وصوت اللام في العربية، وهو من حروف الأسنان واللثة، مجهور متوسط بين الشدة والرخاوة.
https://telegram.me/buratha