الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب مقتل الحسين عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرّم: عن الحسين فاتحا: وإذا تأملنا قول أبي جعفر الباقر عليه السلام: (إنَّ أصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مسّ الحديد). وضّح ما عليه أولئك الأطايب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح، ولعاً منهم بالغاية، وشوقاً إلى جوار المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. ولا تستغرب هذا، فمَن يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بما يلاقيه من عناء ونكد. ولقد حكى المؤرّخون: أنّ كثيّراً الشاعر كان في خبائة يبري سهاماً له، فلمّا دخلت عليه عَزّة ونظر إليها أدهشه الحال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدماء وهو لا يحسّ بالألم. ويتحدّث الرواة: أنّ شاباً من الأنصار استقبل امرأة فأعجبته فأتبعها النظر، فدخلت في زقاق وهو خلفها ينظر إليها، فاعترضت وجهه زجاجة في حائط، فشقت وجهه وهو لا يشعر، فلمّا مضت المرأة رأى الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكى له، فنزل قوله تعالى: "قُل لِّلمُؤمنينَ يَغُضُّوا من أَبصَارِهِمْ" (النور 30). ويحدّث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأنّ الشهيد المقتول في سبيل الدعوة الإلهيّة لا يجد من مسِّ القتل، إلا كما يجد الإنسان من مسِّ القرصة. وهذا الحال يفيد المتأمّل بصيرة، بأنّ كلّ من اتجهت مشاعره نحو المولى سبحانه وتعالى، وتجلّت له المظاهر الربوبيّة، وشاهد ما أعدَّ له من النّعيم الخالد في سبيل دعوة الدِّين، هان عليه ألم الجراح. ويؤكّد ما قلنا من ذهول العاشق عندما يشاهد محبوبه عن كلّ ما يرد عليه من الأذى، غفلة النّسوة عن ألم قطع المدية أيديهنّ، لمحض مشاهدة جمال الصدّيق يوسف عليه السّلام كما حكاه جلّ شأنه "فَلَمّا رَأَينَهُ أَكبَرنَهُ وَقَطّعنَ أَيدِيَهُنّ وَقُلنَ حَاشَ للّهِِ مَا هذَا بَشَراً إِنْ هذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ" (يوسف 31). وإذا لمْ تشعر النّسوة بمضض الجراح، فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسين عليه السلام وهم زبدة العالم كلّه ألم مس الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداء عليه السلام: بأبي اُفدي وجوهاً منهمُ * صافحوا في كربلا فيها الصِفاحا أوجهاً يشرقن بِشراً كلّما * كلح العامُ ويقطرن سماحا تتجلّى تحت ظلماء الوغى * كالمصابيح إلتماعاً وإلتماحا أرخصوا دون ابن بنت المصطفى * أنفساً تاقت إلى الله رواحا فقضوا صبراً ومن أعطافهمْ * أرجُ العزِّ بثوب الدهر فاحا لم تذقْ ماءاً سوى منبعثٍ * من دم القلب به غصت جراحا أنهلتْ من دمها لو أنه * كان من ظامي الحشا يطفى التياحا اُعريت فهي على أن ترتدي * بنسيج التّرب تمتاح الرياحا.
وعن الحسين مع أصحابه يقول السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه مقتل الحسين عليه السلام: إنّ الشريعة المقدّسة أوجبت على النّاس النّهضة، لسدّ باب المنكر، والردع عن الفساد. وألزمت الاُمّة بمتابعة الإمام في ردِّ عادية الباغين على الخليفة المنصوب علماً للعباد، بعد أنْ يدعوهم إلى التوبة عمّا هم فيه من معاندة الحقّ، والرجوع إلى ساحة الشرع الأعظم، كما في قوله تعالى: "وإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأَصلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحدَاهُمَا عَلَى الأُخرَى فَقَاتِلُوا التِي تَبغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمرِ اللّهِ" (الحجرات 9)، وقد نهض أمير المؤمنين عليه السلام أيّام خلافته، للدفاع عن قدس الشريعة، وتنبيه الاُمّة عن رقدة الجهل. وكان الواجب على الناس الفيء إليه، لأنّه إمام الحقِّ، المفروضة طاعته. وقد اعترف جمهور المسلمين بتماميّة البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وحكموا بأنّ قتاله لمن خرج عليه حقٌّ، وهذه كلماتهم التي سجّلوها في صحفهم، شواهد متقنة على هذه الدعوى المدعومة بالعقل والنّقل. فهذا أبو حنيفة يقول: ما قاتل أحد علياً إلا وعلي أولى بالحقِّ منه. ولولا ما سار علي عليه السلام فيهم، لما علم أحد كيف السّيرة في المسلمين. ولا شكّ أنّ عليّاً عليه السلام إنّما قاتل طلحة والزبير بعد أن بايعاه وخالفاه، وفي يوم الجمل سار عليّ عليه السلام فيهم بالعدل وهو أعلم المسلمين، فكانت السُنّة في قتال أهل البغي. واقتفاه تلميذه محمّد بن الحسن الشيباني، المتوفى سنة (187) فقال: لو لمْ يقاتل معاوية علياً عليه السلام ظالماً له متعدياً باغياً، كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي. وقال سفيان الثوري: ما قاتل عليّ عليه السلام أحداً إلا كان عليّ أولى بالحقّ منه. وقال الشافعي: السّكوت عن قتلى صفّين حَسَنٌ، وإنْ كان عليّ عليه السلام أولى بالحقِّ من كلّ مَن قاتله. وقال أبو بكر أحمد بن عليّ الرازي الجصّاص، المتوفى سنة (370): كان عليّ محقّاً في قتال الفئة الباغية، لمْ يخالف فيه أحد. وكان معه من كبراء الصحابة وأهل بدر مَن قد علم مكانهم وحينئذ فكلُّ مَن خرج على عليّ عليه السلام فهو باغ، وقتالُ الباغي واجب حتّى يفيء إلى الحقِّ وينقاد إلى الصلح. وإنّ قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة، وأهل الجمل والنّهروان الذين خلعوا بيعته حقٌّ، وكان حقُّ الجميع أنْ يصلوا إليه، ويجلسوا بين يدَيه ويطالبوه بما رأوا، فلمّا تركوا ذلك بأجمعهم، صاروا بغاة، فتناولهم قوله تعالى: "فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حتّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ" (الحجرات 9). ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقّاص، بعدم مشاركته في قتال علي عليه السلام، فردّ عليه سعد: بأنّي ندمت على تأخيري عن قتال الفئة الباغية، يعني معاوية ومَن تابعه. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الفيروز آبادي، المتوفى سنة (476): إذا خرجتْ على الإمام طائفةٌ من المسلمين، ورأت خلعه بتأويل، أو منعت حقّاً توجّه عليها بتأويل، وخرجتْ عن قبضة الإمام، وامتنعتْ عليه بمنعة، قاتلها الإمام، لقوله عزّ وجلّ: "فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي" (الحجرات 9)، ولأنّ أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وقاتل عليّ أهل البصرة يوم الجمل، وقاتل معاوية بصفّين، وقاتل الخوارج بالنهروان. وظاهره أنّ قتال علي عليه السلام لهؤلاء بحقٍّ، لأنّه إمام حقٍّ وجبت بيعته في أعناقهم، وخروجهم عن طاعته وإن كان بتأويل لا يبرّر عملهم. وقال يحيى بن شرف النووي الشافعي، المتوفّى سنة (677): كان عليّ هو المُحقُّ المصيب في تلك الحروب. وقال معظم الصحابة والتابعين وعامّة علماء الإسلام: يجب نصر المحقِّ في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين. قال الله تعالى: "فَقَاتِلُوا الّتِي تَبغِي" (الحجرات 9)، وهذا هو الصحيح.
ويستطرد السيد المقرم حول الحسين مع أصحابه: أتجوّز الشريعة حمل الحديث على وجوب طاعة الأب حتّى إذا استلزمت ترك الفرائض، أو ارتكاب المحرمات؟ كلا، إن طاعة الإمام الذي تمّت له البيعة، كانت مفروضة في أعناق المسلمين، لا مناص للامّة حينئذ إلا الخضوع له، ووجوب امتثال أمره فيما يدعوهم إليه. ولا طاعة للأبوين في قبال طاعة الإمام عليه السلام، ولعل قوله تعالى: "وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا" (لقمان 15) شامل لذلك، فإن المراد من الشرك المنهي عنه: الكناية عن ترك الإنقياد لله سبحانه، ويدخل فيه الإعراض عن طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام الذي تمت له البيعة في أعناق المسلمين، ولذلك كانت عائشة تتم في سفرها إلى البصرة في قتال علي عليه السلام، فإن القصر عندها إنما يكون في سفر طاعة.
وعن التباكي يقول السيد عبد الرزاق المقرم في كتابه: وفي الحديث عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قرأ آخر الزمر: "وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ زُمَرًا" (الزمر 71) على جماعة من الأنصار، فبكوا إلا شاباً منهم، قال: لم تقطر من عيني قطرة، وإنّي تباكيت. قال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن تباكى، فله الجنة). وروى جرير عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه صلّى الله عليه وآله قال: (إنّي قارئ علكيم "ألهاكم التكاثر"، مَن بكى فله الجنة، ومَن تباكى فله الجنة).
https://telegram.me/buratha