د. مصطفى يوسف اللداوي ||
منذ أن أُعلن عن تشكيل "عرين الأسود" في مدينة نابلس، وهي الكتيبة العسكرية الوطنية الفلسطينية الرائدة، التي سما نجمها بسرعةٍ، وتألق أداؤها بقوة، وعُرف قادتها واشتهر مقاتلوها، وتميزت عملياتها واشتدت مواجهاتها، وعمت أنشطتها العسكرية مدينة نابلس وشملت محيطها، وتنافس الفلسطينيون في الانتماء إليها والعمل معها، إذ ظهرت جديتها، واتضحت جاهزيتها، وكشفت الصور والعروض العسكرية قوة تسليحها، وتنوع أسلحتها، ومهنية تدريبها وقوة تنظيمها، وتماسك بنيتها ووحدة صفها.
وقد جمعت في صفوفها الطيف الوطني الفلسطيني كله، فانتمى إليها مقاومون من مختلف القوى والأحزاب، ومن المنتسبين إلى الفصائل والتنظيمات، وآخرون كثيرٌ من الغيارى المستقلين الثائرين الغاضبين، فاستحقت بحقٍ أن تكون كتيبةً وطنيةً جامعةً موحدةً، حيث التحق بها وانضوي تحت لوائها مقاتلون من حركتي فتح والجهاد الإسلامي، وآخرون من حركة حماس وأتباع الجبهات الفلسطينية، الأمر الذي أكد على بعدها الوطني، فتراجعت الحزبية أمام الوطنية، وغابت الأعلام التنظيمية لصالح علم فلسطين الذي غلب وسما، ورفرف وعلا، وفرض نفسه على الأرض وفي والميدان، فساد بلا منافسة، وغدا موحداً بلا خلاف.
أما قادة "عرين الأسود" فقد أثبتوا على الأرض وفي الميدان أنهم رجالٌ لا ينكفئون، ومقاومون لا يتراجعون، ومقاتلون لا يهابون، وأنهم يقاتلون ببسالةٍ حتى الشهادة، ويصمدون في المواجهة حتى آخر رصاصة، وقد أظهرت وصاياهم أن فلسطين في أعناقهم أمانةً، وفي قلوبهم عقيدةً، وأنهم يفدونها بالدم ويحمونها بالأرواح، وأنهم يتسابقون في الدفاع عنها ولا يتأخرون، ويتقدمون الصفوف الأولى ولا يجبنون، ويأملون ممن سيأتون من بعدهم أن يحافظوا على طهر النضال وقدسية القضية، وأن يحملوا الراية ويدافعوا عنها، وألا يسقطوها والبندقية من أيديهم، فهي الهوية الضامنة والسلاح الحامي.
منذ الأيام الأولى لانطلاقة "عرين الأسود"، أدرك العدو الإسرائيلي أنه يواجه ظاهرةً جديدةً، وأسلوباً مغايراً في المقاومة، وأنه أمام جيلٍ تجمعه القضية ويوحده الوطن، وتشد أوتاره البندقية، وتحرك مشاعره الحمية، وتتضاءل أمامه الحياة الشخصية بالمقارنة مع حياة الشعب ومستقبل الوطن، وقد أظهرت الوصايا التي تركوها، والكلمات التي سبقت شهادتهم، أنهم أقوى من العدو وإن استعلى عليهم، وأنهم أبقى منه وإن حاول طردهم، وأثبت منه في الأرض مهما حاول اقتلاعهم.
أدرك العدو أنه أمام ظاهرة محاكاةٍ وتقليد، وفي ميدان منافسةٍ وسباقٍ، وأنه في مواجهةٍ مع نموذجٍ ومثالٍ، لا يقتصر وجوده على نابلس وحدها، بل امتد أثرها وانتشر نورها لتتشكل كتائب شبيهةٌ وألويةٌ مشابهةٌ، فكانت كتائب جنين وجبع وبلاطة وقباطية وغيرها، حينها أدرك العدو أنه لا قدرة له على مواجهتهم وصدهم، أو تصفيتهم وتفكيكهم، مهما حاول قتل عناصرهم أو اعتقال كوادرهم، فهذه ظاهرةٌ ستنمو وستكبر، وستتسع وستنتشر، طالما أن مقاتليها لا يهابون الموت ولا يشترون الحياة، ولا يستسلمون ولو أحاط بهم العدو من كل جانبٍ، ورأوا الموت يزحف عليهم ويقترب منهم.
حاول العدو بكل السبل القضاء على هذه الظاهرة الجديدة التي أفزعته وأخافته، فاجتاح مدينة نابلس مراتٍ كثيرةً، واستدرج مقاتليها إلى أماكن عديدة ليسهل عليه قتلهم وتصفيتهم، ونجح فعلاً في قتل بعضهم واعتقال غيرهم، واستعان بأعوانٍ له لتفكيك مجموعتهم بالإغراء تارةً وبتهديد أهلهم تارةً أخرى، وبتقديم الوعود إليهم بتوظيفهم وتوفير فرص العمل لهم، وحمايتهم من الملاحقة الإسرائيلية، وضمان استمتاعهم بالحياة بعيداً عن التهديدات بالقتل أو الاعتقال، مقابل تسليم أسلحتهم، والتخلي عن أفكارهم، والتوقف عن القيام بأي أعمالٍ غير "قانونية".
لم تُجدِ كل المحاولات الإسرائيلية السابقة، كما لن تجديَ محاولته الأخيرة، التي قتل فيها أحد عشر فلسطينياً، واستخدم خلال عدوانه على مدينة نابلس، واستهدافه لعناصر "عرين الأسود" القوات المستعربة المدربة والمسلحة والمؤهلة، والمجهزة بأحدث الأسلحة ووسائل الاتصال المباشر، وأجهزة الارتباط والسيطرة والتحكم مع قواعدها، التي واكبتها قواتٌ من الجيش بلغ تعدادها أكثر من 150 عنصراً من وحدات النخبة "جولاني" و"اليمام" و"الدوفدوفان" وعناصر أخرى من المخابرات التي تشرف على المدينة وتعرف سكانها ولديها الخبرة في أزقتها وشوارعها.
قد تكون سلطات الاحتلال الإسرائيلي قد نالت منا في معركتها داخل مدينة نابلس، وتمكنت من تحقيق بعض أهدافها، لكنها تظن واهمةً أنها تستطيع القضاء على "عرين الأسود" وتفكيك بنيتها العسكرية، ونزع سلاحها وإنهاء وجودها، ونسيت أن فرحتها بعد عدوانها على مخيم جنين لم تدم طويلاً، وأن صمت المقاومة الفلسطينية لم يطل كثيراً، عندما انبرى خيري علقم وأذاقهم المر بسلاحه علقماً، حينها سيدرك العدو أن الرد قادم، ثأراً مضاعفاً وانتقاماً موجعاً، وسيعلم أن نابلس ستبقى جبل النار الثائر، وقلب فلسطين النابض، وروحها الحية، وجبهتها المتقدمة، تتصدر المقاومة، وتتصدى للاحتلال، وتصد العدوان، وتقدم الشهداء، وتعد بالنصر وتعد له، وتتوعد الاحتلال وتتهيأ له.
بيروت في 24/2/2023
moustafa.leddawi@gmail.com
ــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha