الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب مستمسك العروة الوثقى للمرجع السيد محسن الحكيم: بقول في مقدمة كتابه: وإني لأرجو منه تعالى ببركة من أنا في جوار حرمه، وأستجير في كثير من الأحيان بذمته صلوات الله عليه أن يتقبله بقبول حسن، ويثبته في ديوان الحسنات، ليكون ذخراً لي يوم ألقاه "يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" (الشعراء 88-89) إنه ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. يجب على كل مكلف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطا. الأقوى جواز العمل بالاحتياط. مجتهداً أو لا. لكن يجب أن يكون عارفا بكيفية الاحتياط بالاجتهاد أو بالتقليد. وهي قوله تعالى "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ" (الحجرات 49). هذا كله مع اتحاد المجتهد، أما مع تعدده: فاما أن يتفقوا في الفتوى أو يختلفوا فيها. فان اتفقوا فالظاهر أنه لا دليل على تعيين واحد منهم، فيجوز تقليد جميعهم كما يجوز تقليد بعضهم. وأدلة حجية الفتوى كأدلة حجية الخبر إنما تدل على حجية الفتوى بنحو صرف الوجود الصادق على القليل والكثير، فكما أنه لو تعدد الخبر الدال على حكم معين يكون الجميع حجة على ذلك الحكم كما يكون البعض كذلك ولا تختص الحجية بواحد منها معين أو مردد، كذلك لو تعددت الفتوى. ويشير إلى ذلك آيتا النفر والسؤال بناء على ظهورهما في التقليد ورواية ابن مهزيار الواردة في حكم الإتمام بمكة، ورواية صاحب السابري الواردة في من أوصى أن يحج عنه بمال لا يفي بالحج، وخبر حمران بن أعين، ومرفوع إبراهيم بن هاشم الواردان في أكثر النفاس، وغير ذلك. قوله تعالى "وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ" (التوبة 122). وهي قوله تعالى "وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ" (النحل 43) (الانبياء 7).
وفي كتاب الشهادات يقول آية الله العظمى السيد محسن الحكيم قدس سره: مثل ما دل على قبول شهادة الرجل لولده أو والده أو امرأته إذا كان خيراً، وما دل على قبول شهادة المكاري والجمال والملاح إذا كانوا صلحاء، وما دل على قبول شهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً، وما ورد في تفسير قوله تعالى "مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ" (البقرة 282): أنه ممن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعفته. الى غير ذلك. وحمل هذه النصوص على كون الملكات المذكورة ملازمة لموضوع الحكم لا نفسه، خلاف الظاهر ولا موجب له. للإجماع والنصوص على عدم جواز ترتيب آثار العدالة على العصاة قبل التوبة وجواز ترتيبها بعدها. ويشهد به أيضاً قوله تعالى "وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا" (النور 4-5) وبمضمونها جملة من النصوص أشرنا إلى بعضها آنفاً، وهي مذكورة في بعض أبواب شهادات الوسائل فراجعها. مضافا الى ما دل على قبول التوبة، وأنها ماحية للذنوب، من الآيات والروايات. فلاحظ وتأمل. من ليس أهلا للفتوى يحرم عليه الإفتاء. وكذا من ليس أهلا للقضاء يحرم عليه القضاء بين الناس. وحكمه ليس بنافذ. ولا يجوز الترافع اليه. ولا الشهادة عنده. والمال الذي يؤخذ بحكمه حرام وان كان الآخذ محقاً. وفي المسالك: (إن ذلك كبيرة عندنا). ويقتضيه ما دل على حرمة الإعانة على الإثم، وما دل على حرمة الأمر بالمنكر، وفي مقبولة ابن حنظلة الواردة في التحاكم إلى السلطان وإلى القضاة قال عليه السّلام: (من تحاكم إليهم في حق أو باطل، فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يؤخذ سحتاً وان كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله تعالى أن يكفر به)، ونحوها غيرها. قال تعالى "وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ" (المائدة 2). ذا وقد يتوهم معارضة المقبولة بخبر ابن فضال في تفسير قوله تعالى "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ" (البقرة 188) فكتب عليه السّلام اليه بخطه: (الحكام القضاة) قال: (ثمَّ كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم به إذا كان قد علم أنه ظالم). ويدفعه مع أن الخبر وارد في تفسير الآية الشريفة، لا في بيان موضوع الحرمة مطلقاً، واعتبار الظلم في صدق الباطل لا ينافي عدم اعتباره في صدق الحرمة ولو بعنوان آخر: أنه لا يظهر منه أن المراد من القضاة قضاة الجور، فيمكن حمله على قضاة العدل ولو من جهة الجمع العرفي بينه وبين المقبولة.
عن الاعلام يقول الامام الحكيم قدس سره في كتابه: المستفاد من آية النفر الشريفة وجوب الاعلام حيث يترتب عليه إحداث الداعي العقلي إلى العمل بالواقع الذي هو متعلق الاعلام، لاختصاص الإنذار بذلك، فاذا كان المكلف غافلا عن الحكم الكلي أو قاطعاً بالخلاف، أو متردداً على نحو يكون جهله عذراً، وجب إعلامه، لما يترتب عليه من إحداث الداعي العقلي، وإذا كان جاهلا جهلا لا يعذر فيه لا يجب إعلامه. وكذا لو انحصر الاعلام بطريق الخبر الذي لا يكون حجة في نظر السامع، فإنه لا يجب، لعدم ترتب الأثر المذكور. ولا تبعد استفادة ذلك أيضاً مما تضمن أن الغرض من إرسال الرسل قطع اعذار المكلفين واقامة الحجة عليهم، مثل قوله تعالى "أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ" (المائدة 19)، و "لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" (النساء 165)، و "فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ" (الانعام 149) ونحوه. فتأمل. ثمَّ إن الظاهر اختصاص هذا الصنف من الآيات بالحكم الإلزامي، فإذا كان المجهول حكما غير إلزامي لم يجب إعلامه. وأما آية الكتمان وهي قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ" (البقرة 159) فظاهرها وجوب الإظهار في مقام الاستعلام، سواء ترتب عليه الإنذار أم لا، وسواء اكان الاستعلام بطريق السؤال كما في المتردد إذا سأل عن الحكم أم بمحض وجود الداعي إلى معرفة الحكم والعلم به وان كان غافلا عن ذلك، سواء اكان معتقداً لخلاف الواقع أم غافلا عنه، أم متردداً غافلا عن وجود من يجب سؤاله، أم غير ذلك من موارد وجود الرغبة النفسانية في معرفة الحكم، ولو لم تدفع إلى السؤال لوجود المانع. فيكون بين مفاد الآية الشريفة وما سبق العموم من وجه، ولعدم التنافي بين المفادين لكونهما من قبيل المثبتين يتعين العمل بهما معاً. ولازم ذلك وجوب البيان مع السؤال وان لم يكن السائل معذوراً في جهله. بل لعلها تقتضي وجوبه مع عدم اعتقاد السائل حجية الخبر، وقد عرفت عدم اقتضاء آية النفر وجوب الإعلام حينئذ.
https://telegram.me/buratha