إنّ البعثة النبوية المباركة تعطينا دروساً عديدة، علينا أن نتأمل في جوهرها ومضامينها، فمن هذه الدروس:
1- لابد من قراءة ودراسة البعثة النبوية الشريفة، وحياة الرسول الأكرم (صلى اللـه عليه وآله) وسيرته ومشروعه الدعوي للأمة دراسة عميقة. فلا تقتصر دراستنا على مجرد شذرات من ولادة الرسول (صلى اللـه عليه وآله) ويوم بعثته، ويوم وفاته، بل لابد أن تتسع دائرة دراستنا كافة الأبعاد السلوكية، والأخلاقية، والفكرية، في كافة مراحل دعوته المباركة، بل تستمر دراستنا أيضاً لاستخلاص أهم الدروس من سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام) باعتبارهم المكملين لدور التوجيه والقيادة الربانية للأمــة.
فنحن قلما نجد خطباءنا، وكتابنا، وصحفينا، يسلطون الضوء الكاشف والكافي على سيرة الرسول الأكرم (صلى اللـه عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ويستخلصون الدروس المفيدة لواقع الحياة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية للأمة.
2- لقد بُعث الرسول الأكرم (صلى اللـه عليه وآله) وصدع بدعوته المباركة، لا لكي يغيّر ويصلح بعض الظواهر والأشكال والقشور، فلم تكن حركة الرسول (صلى اللـه عليه وآله) حركة إصلاحية ترميمية، بل كان دوره (صلى اللـه عليه وآله) دور البناء والمعمار الذي يبني البناء من الأساس ثم يرتقي لبناء الطوابق الأخرى، انه (عليه السلام) لم يهادن ولم يداهن الأعداء على حساب الدين وتعاليمه، فلذا لم يرض بأنصاف الحلول، كما يفعل البعض، فقد عرض بعض المشركين عليه (صلى اللـه عليه وآله) لكي يجمعوا في عبادتهم بين عبادة الأصنام والصلاة، فرفض (صلى اللـه عليه وآله) أن يرقّع في الدين وقيمه.
لقد أعاد الرسول الأكرم (صلى اللـه عليه وآله) الإنسان من جديد، وصاغه من جديد، لقد غيّر (صلى اللـه عليه وآله) ثقافته من الثقافة الجاهلية المقيتة إلى ثقافة ربانية رحبة، فصنع رجالاً كأبي ذر الغفاري الذي كان هو وقبيلتـه من قطاع الطرق، وحوّله إلى أصدق إنسان، حتى قال (صلى اللـه عليه وآله) في حقه: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر" (بحار الأنوار، ج 22، ص 417) وكسلمان الفارســـي، حتى قال فيــه: "سلمان منا أهل البيت" (بحار الأنوار، ج 18، ص 19) وكذلك عمار بن ياسر، والمقداد الذي أضحى كزبر الحديد.
انه (صلى اللـه عليه وآله) استهدف حركة جذرية شاملة في الأمة وفي مختلف الأبعاد، فلذا لم يترك الأمة في غياهب الأمور ومجاهيل القضايا، بل أعطى رؤى مناهج التحرك العملي على كافة الأصعدة والمجالات الحياتية، هذا ناهيك عن دعوة الأمة لمعرفة أئمــة زمانهــم وقادتهم الميدانيين بعــد وفاتـه، وهما أهل البيت (عليهم السلام).
3- لقد صاغ (صلى اللـه عليه وآله) الإنسان المسلم على أساس وقاعدة الإيمان باللـه، عبر تقوية وربط العلاقة بين العبد والمولى، بين المخلوق الضعيف والقدرة اللامتناهية.
فالإنسان المؤمن إذا تمكن أن يربط قلبه المتحول والمتأثر بدواعي الهوى والشك، بمقام العزة الإلهية، فلا يمكن زعزعة كيانه أو تحريفه، وهذا الأمر انتهجه الرسول الأكرم (صلى اللـه عليه وآله) في سيرته لبناء أصحابه وحوارييه (رض).
روي عن أبي عبد اللـه (عليه السلام) قال: "استقبل رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟
فقال: يا رسول اللـه مؤمن حقاً.
فقال له رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله): لكل شيء حقيقة، فما حقيقة قولك؟
فقال: يا رسول اللـه، عَزَفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتْ ليلي، وأظمأتْ هواجري، وكأني أنظر إلى عرش ربي [و] قد وضع للحساب، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، وكأني أسمع عواء أهل النار في النار.
فقال له رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله): عبدٌ نوّر اللـه قلبه، أبْصَرْتَ فاثبُت. فقال: يا رسول اللـه ادع اللـه لي أن يرزقني الشهادة معك، فقال: اللـهم ارزق حارثة الشهادة.
فلم يلبث إلاّ أياماً حتى بعث رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله) سرية فبعثه فيها، فقاتل فَقَتَل تسعة - أو ثمانية - ثم قُتِل " (الكافي، ج 2 ، ص 54 ).
لقد طلب الحارثة من رسول الله أفضل دعاء، فكان صحابياً جليلاً وذكياً، وقد عرف كيف يستشعر خوف اللـه وحبه في قلبه، وكيف ينتخب ويختار الطريق القويم والسليم المؤدي إليه جل وعلا، وان يرغب في أن تكون حياته كلها في جنب اللـه، فلا يهمه أن تستمر أيام حياته أم تقل، وإنما المهم عنده (رض) هو أن تزداد معرفته في اللـه يوماً بعد آخر، ولذا اختار طريق الشهادة، ولأنه كما يرى الطريق السهل والمضمون إلى الجنة من أن يبقى في الدنيا مع ابتلاءاتها وفتنها العديدة.
وبالفعل استجاب اللـه لطلبه فخرج بعد عدة أيام مع سرية لحرب المشركين فاستشهد هناك (رض).
https://telegram.me/buratha