هذا وألقى سماحة السيد صادق الحكيم نجل شهيد المحراب كلمة سماحة السيد عبدالعزيز الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق ، حيث بين من خلالها العوامل التي أثرت في فكر الشهيد وبالتالي قادته الى اختيار الطريق الذي سلكه عن وعي وثقة رغم كل التحديات والصعوبات والأخطار التي واجهها في مختلف مراحل حياته .
وفيما يلي نص الكلمة : _
بسم الله االرحمن الرحيم
اهمية فكر الشهيد الخالد الحكيم العظيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الانبياء والمرسلين محمد وعلى آله ألطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من حسنات الامم والشعوب ان تقوم باحياء ذكرى عظمائها رجالاً ونساءً، والتوقف في محطات حياتهم لاكتشاف الدروس واخذ العبر منهم ومن منهجهم في الحياة. ان الاحتفاء بحياة العظماء يتجاوز في فهمنا مجرد اعادة الذكرى، بل هو محاولة لاعطاء حياتنا زخماً جديداً وقوة جديدة، واكتشاف جديد يعيننا في حياة محاطة بالامل والالم والنجاح والفشل والنصر والخسارة والتقدم والتراجع وغير ذلك من هذه الثنائيات الازلية التي حكمت حياة الانسان منذ ان عرف وجوده على هذه الارض.
ومن هنا، فان احتفاءنا بذكرى عودة شهيد المحراب (رض) الى ارض الوطن تأخذ هذا البعد، فهذه العودة ربما لا تكون لها كل هذه الاهمية اذا اخذناها من بعدها الفيزياوي وهي عملية الانتقال من مكان الى مكان فليس من الحكمة في شيء ان نحتفل بذلك ونجتمع هنا من اجل هذا الانتقال المجرد، بل مايجمعنا هنا هو المضمون والمعاني العالية التي تنطوي عليها عملية الانتقال هذه، اذاً فنحن هنا من اجل اكتشاف المضمون والمعاني السامية، والمشروع الكبير الذي سعى اليه الراحل الكبير، وهو يخوض غمار الحياة ويعيش غربة السجن ومن ثم الهجرة، أوهو يغذ الخطى في عودته الملحمية الى الوطن الجريح.
في مثل هذا الجمع المبارك ارى من المناسب ان اتناول اهمية التعرف على فكر شهيد المحراب آية الله السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) لان التعرف على ذلك سيقودنا الى التعرف الى العوامل الاساسية التي اثرت في فكره (رض) وبالتالي قادتهُ الى اختيار الطريق الذي اختاره عن وعي وبيّنة وثقة، رغم كل التحديات والصعوبات والاخطار التي واجهها في مختلف مراحل حياته.
ان هناك مجموعة من العوامل اثرت في فكر الشهيد الحكيم وطبعت مواقفه بطابعها الخاص، وفي هذه الوقفة ارى من المناسب ان نستعرض تلك العوامل الاساسية:-
1ـ الاجتهاد
فالشهيد الحكيم (رض) كان عالماً فقيهاً وقد مكنّه ذلك من ان يرسم الاطار الشرعي لمنهجه وحركته ومواقفه السياسية والاجتماعية والجهادية طيلة سنوات هجرته من العراق.
2ـ النشأة الاسرية الاولى: فالسيد الشهيد نشأ وسط اسرة علمية وفي بيت علمي وهو بيت الامام السيد محسن الحكيم (قدس سره)، وبيت الامام كان كما هو المعروف محطة مهمة في تاريخ العراق، وقد نشأ السيد الشهيد وواكب تحول الامام الحكيم (رض) الى موقع المرجعية العليا للشيعة في العالم، واختزن في وعيه وذاكرته كل المعاناة التي يمكن ان تعانيها اسرة فقيرة من شظف العيش، في نفس الوقت تلقى الدروس التربوية الاولى على يد عالم رباني وهو الامام الحكيم (قدس سره)، كما تعلم كثيراً من الرجال المؤمنين والعلماء الصالحين الذين كانوا يحيطون بوالده.
3ـ لقد كان تفتح وعي شهيد المحراب قد تزامن مع بداية مرجعية الامام الحكيم (قدس سره) وهي مرجعية مثلت حينها انتقالة في تاريخ المرجعيات الدينية. فهذه المرجعية عاشت وشاركت في المواقف الوطنية الكبيرة كحركة الجهاد عام 1914 ضد الاحتلال البريطاني، وعاشت وشهدت تحولات العراق الكبرى ابتداءً من ثورة العشرين وتأسيس الملكية في العراق وموقف الحكم الملكي من العلماء وتسفيرهم في اوئل العشرينات القرن الماضي، وقد اسس الامام الحكيم بمرجعيته لمرحلة جديدة اتسمت بمنهج جديد في التعامل مع الحكومات المتعاقبة على العراق، وقد عاش شهيد المحراب وتعايش مع هذا المنهج وتحولاته وشاهد كل الصعوبات والتحديات.
وقد آمن (رض) بذلك المنهج وعمل به وشكل في وعيه منطلقاًَ مهماً من منطلقات العمل الاجتماعي العام من خلال موقع المرجعية الدينية، أو من موقع عالم الدين الحريص على مصالح الدين والوطن والناس.
4ـ وانطلاقاً من وعيه المبكر بحاجات الامة الثقافية ومعايشته لتجربة الحكم الملكي وابتعاده عن مصالح الناس، وفهمه ووعيه لواجبات العلماء في الدعوة للاسلام تصدى هو شخصياً مع مجموعة من العلماء لتأسيس حزب اسلامي، وهو تصّدٍ عبر عن وعيٍ ونضجٍ سياسيٍ مبكر وشجاعةٍ وفهمٍ لحاجات الامة وطبيعة حركتها وطبيعة التحولات التي تتحرك فيها وتحركها..
لقد كان تأسيس الحزب الاسلامي واحداً من الاساليب لمواجهة التحولات الكثيرة التي دخلت المجتمع العراقي بعد الحرب العالمية الثانية.
5ـ تأثره باستاذه الشهيد محمد باقر الصدر(رض)، فقد نشأت بين الاستاذ والتلميذ علاقة هي اقرب الى علاقة الاصدقاء ورفقاء الدرب من علاقة المعلّم والمتعلّم، وقد رافق شهيد المحراب (رض) استاذه الشهيد الصدر في عطاءاته الفكرية ، وبسبب وعيه الفكري وتفتح ذهنيته ، واطلاعه الواسع على التأريخ والثقافات والافكار فقد شارك السيد الشهيد الصدر في تأليف كتابي (فلسفتنا) و(اقتصادنا) وقد عبر السيد الشهيد الصدر عن عرفانه وامتنانه لهذه المشاركة حين عبر عنه بـ(عضدي المفدى) وقد كتب (رض) عليه في بداية شبابه مجموعة من الابحاث والكتابات نشر بعضها في نشرات للتثقيف الخاص، وهي كتابات حين نقرأها اليوم نكتشف مستوى الوعي الكبير والنظرة الثاقبة التي كان يتمتع بها.
لقد بقيت علاقة شهيد المحراب والسيد الشهيد الصدر مستمرة حتى استشهاد السيد الصدر(رض) وعاش معه خلال عقدين ونصف رحلة التلميذ والصديق والمشارك في كل الانجازات والعطاءات الفكرية والمشاريع الاجتماعية والسياسية، وعاش معه كل التحولات التي شهدها العراق متاثراً بالحدث تارة وصانعاً له تارة اخرى.. وكل ذلك اختزنه شهيد المحراب تجربة غنية كانت تمدّه على الدوام بالدورس والعبر الكثيرة في حركته اليومية الجهادية التي قادها فيما بعد.
6ـ بعد استشهاد السيد الصدر(رض) وابتداء النظام الصدامي بحملة التصفية الشاملة ضد التيار الاسلامي في العراق ومحاربته للحوزة الدينية والمرجعية في النجف الاشرف اصبح شهيد المحراب يمثل موقع الامتداد لحركة السيد الشهيد الصدر (رض) فأعلن المواجهة وأسس بذلك مرحلة جديدة في نضال من اجل انقاذ العراق والانتقال الى مرحلة جديدة في اساليب العمل السياسي الاسلامي والاجتماعي في العراق.
وانطلاقاً من ذلك بادر الى ايجاد المؤسسات والتشكيلات السياسية والاعلامية والجهادية مما تتطلبه المرحلة الجديدة من ادوات لمواجهة النظام ألصدامي.
واستطاع خلال عقدين من الزمن من ايجاد اكبر المؤسسات السياسية والجهادية العراقية التي دافعت عن العراق والعراقيين ونقلت صوتهم وكشفت عن معاناتهم امام العالم، وفضحت جرائم النظام الصدامي وبشاعته ولاحقته في ألمؤسسات الدولية، وشكلت في الكثير من الاحيان اكثر عوامل الضغط تأثيراً عليه في داخل العراق وخارجه.
ورغم كل الصعوبات والمؤامرات والتضحيات فان ألسيد الشهيد الحكيم (رض) بقي صامداً.. صابراً يتحدى كل ذلك بروح المؤمن الصابر، والمسلّم امره الى الله وبروح المقاتل الشجاع الذي لايعترف بالانكسار بل لا يعرف معنى الانكسار.
7ـ عاش التحولات الكبرى التي عرفها العالم الاسلامي بانتصار الثورة الاسلامية في ايران اواخر سبعينيات القرن الماضي، ودرس هذه التحولات عن قرب على الصعيد الميداني بحكم تواجده على ارض الحدث، وكذلك ساهم في صناعة التحولات الفكرية والسياسية والفقهية على مستوى الافكار والاطروحات التي اغنت الفكر الاسلامي.
8ـ تعرض شهيد المحراب للسجن من قبل نظام صدام اكثر من مرة، وتعرض للمضايقة والملاحقة والمنع عن السفر، ثم عاش رحلة وتجربة الهجرة، وكلى التجربتين اكسباه خبرة عظيمة في التعامل مع التحدّيات الكبرى والخطيرة التي تواجه الانسان العامل المجاهد.
وفي سجنه وهجرته لم يعرف السيد الحكيم (رض) معنى التنازل عن الاهداف الكبرى المقدسة التي آمن بها وعمل من اجل تحقيقها.
9ـ قراءاته المبكرة.. لقد عرف عن شهيد المحراب (رض) سعة اطلاعه على الافكار وتجارب الامم والشعوب، فقد مارس (رض) القراءة المبكرة للكتب والافكار، وطالع الموسوعات التاريخية الكبرى، كما انفتح على النتاجات الفكرية والادبية المعاصرة، وكانت قراءته ومطالعته قراءة تدبرٍ وتحليل، وكان كثير التوقف عند احداث التاريخ لاكتشاف عواملها المحركة وآثارها في ايجاد التحولات في المجتمعات.
لقد ساهمت كل هذه العوامل الواقعية ألميدانية والثقافية والفكرية في تحديد فهمه للواقع والنص وبالتالي حددث اتجاهه في استنباط الحكم الشرعي في معالجة الاهداف والتحولات والوقائع.
وساهم من خلال ابحاثه الفكرية العالية، ومناقشاته الفقهية في ايجاد الحلول للكثير من المعطيات التي واجهت المسلمين على صعيد الاحكام الشرعية التي تعالج مشكلات الواقع التي يعيشها المسلمون في مختلف انحاء العالم.
والى جانب الدقة في التعبير فقد تميزت ابحاث شهيد المحراب بالشمولية والسعة في الابحاث الفكرية والاقتصادية والسيرة والتأريخ، فقد كتب (رض) ابحاثاً ذات قيمة فقهية عالية في مختلف مجالات المعرفة، والصفة المشتركة في كل كتاباته، انه كان مكتشفاً يغوص في عمق الفكر والحالة ولا يكتفي بظواهر الامور.
ان اكتشاف فكر شهيد المحراب وابداعاته، ومميزاته، لا يمكن ان تستوعبه كلمات قليلة وصفحات مختصرة، وحين نتحدث عن العوامل المؤثرة، فاننا اردنا ان نشير الى العوامل المؤثرة في تكوين بنيته المعرفية، وهي بنية لم تقتصر على فهم الافكار المجردة، بل هي بنية ساهمت في اغنائها التجارب العملية الكثيرة التي عاشها وعايشها أو قرأ عنها محللاً لابعادها ومكتشفاً لأسبابها الحقيقة.
لقد قدم شهيد المحراب من خلال نتاجاته الفكرية رؤىً جديدة كثيرة في الكثير من القضايا والمسائل التاريخية والمعاصرة، وعلينا ان نكتشف هذا الجديد من خلال التعرف على تجربتين في حياة الشهيد الحكيم (رض) الاولى هي التجربة العملية المتعلقة بسيرته ومواقفه ومحطات حياته المتعددة، والثانية هي عطاءاته الفكرية ففيها الكثير الكثير مما يجب اكتشافه.
وختاماً اتمنى لكم التوفيق في مؤتمركم هذا ، ورحم الله شهيدنا الحكيم وتغمده برحمته الواسعة وحشره مع الصديقين والصالحين .
..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السيد عبد العزيز الحكيم
ألسبت ـ 20آيار 2006
https://telegram.me/buratha