تستذكر الامة الاسلامية بالم بالغ ذكرى استشهاد المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) في الاول من رجب.
تمر علينا ذكرى استشهاد العالم الرباني الشهيد أية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) ففي غرة رجب من عام 1424 امتدت يد الإرهاب الأثيمة لتنال من رمز من رموز الجهاد والتضحية في العراق سليل العثرة الطاهرة الابن البار للمرجعية .وبما أن الشهيد العظيم كان قد آثر أن يعيش من اجل أمته ودينه فكانت شهادته في جوار مرقد مولى الموحدين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام واختلطت دماء الشهيد الطاهرة مع دماء الموالين الذين كانوا قد حضروا لأداء صلاة الجمعة في تلك الجمعة الدامية فهو عاش ملتحما بابناء العراق واستشهد معهم والتحق بالرفيق الأعلى مضرج بدمه يشكو إلى الله ظلم الطغاة المارقين .
واليوم اذ نقف وقفة حزن والم على فقيد الامة نعاهد الشهيد على اننا سنمضي قدما على الخط الذي رسمه لنا بدمه ودم البررة التقاة من شهداء العراق العظام وإن طريق ذات الشوكة الذي سار عليه كل دعاة الحق والايمان هو دربنا الوحيد الذي نبتغيه .
ولعل ذكرى استشهاد سماحته تثير فينا العزيمة لاستلهام العبر من حياته وجهاده ومقارعته للظلم ومشروعه السياسي والاقتصادي والثقافي والعقائدي.
فليس من العدل والإنصاف بمكان ان ندعي ان ما سنكتبه عن الشهيد المرجع الديني اية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) سيكون وافيا ومحيطا بكل جوانب حياته ونشاطاته، وانما هي رؤوس اقلام ليس إلا، ومجرد إشارات فقط، لان الكتابة عنه (قدس سره) أمر لا يخلو من صعوبة ومشقة، فالرجل قد امتد نشاطه لاكثر من نصف قرن، كانت سنينه معبأة ومثخنة بالاحداث والتطوارات، حيث امتازت هذه السنين بصعود الخط البياني لقوة المرجعية وتعاظم نشاطها، وما تبعه من متغيرات على كافة الاصعدة والمستويات، وكان (قدس سره) مرافقا لهذا الصعود وداخلا في عمقه، حيث انه كان أحد العقول المهمة في الجهاز المرجعي للامام الحكيم، واحد اهم مستشاري الامام الصدر ومنسقا فعالا بينه وبين الامام الخوئي واحد الداعمين بقوة لمرجعية الامام الخميني. ومن جهة اخرى كانت ولادته في بدايات الحرب الكونية الثانية وما نتج عنها من تجاذبات بين القطبين القت بظلالها على الشرق الأوسط والعالم الاسلامي فيما بعد، وما نتج عنها من انعطافات مهمة في حركة الشعوب العربية والاسلامية على مستوى الوعي المرجعي والديني والسياسي والعلمي والثقافي والاجتماعي. ومن هنا تصبح الاحاطة بسيرة شهيدنا بحاجة الى بحث واسع، ومراجعة كثيفة للاحداث، ودراسة معمقة للتطورات، كي يمكن الخروج بنتائج نيرّة المعالم وناصعة الوضوح. وبهذه المناسبة تدعو (مؤسسة تراث الشهيد الحكيم / قسم الدراسات) كل الاخوة المؤرخين والمثقفين ورجال الدين الى الاهتمام بدراسة شخصية شهيد المحراب، والوقوف عندها ملياً، فهو (قدس سره) نذر نفسه بصورة مطلقة للاسلام، وافنى عمره الشريف في خدمة المسلمين، واضافة الى هذا فحياته تمثل مقطعا مهما من تاريخ العراق الحديث والحركة المرجعية والاسلامية والعلمية والثقافية، و(مؤسسة تراث الشهيد الحكيم / قسم الدراسات) تتعهد بتقديم كل الوثائق المطلوبة التي من شأنها إعانة الباحث على اكمال بحثه وتذليل العقبات من امامه
إطلالته على الدنيا
في الخامس والعشرين من جمادى الأولى عام 1358 هـ – 1939م، وفي مدينة النجف الأشرف مركز المرجعية الدينية شاء الله ان يطلَّ على الدنيا شهيدنا المعظم آية الله العظمى المجاهد السيد محمد باقر الحكيم ليكون الولد الخامس والابن البار لمرجع الطائفة الإمام السيد محسن الطباطبائي الحكيم وينتمي (شهيد المحراب) إلى أسرة امتازت بحبها للعلم والعمل واتسمّت بالإخلاص والتقوى فبرز الكثير من رجالها في ميادين العلم يغذون المعارف بنتاجاتهم ويسيرون على الصراط المستقيم بورعهم، منهم جد الشهيد السيد مهدي الحكيم الذي نبغ في العلم حتى أصبح أحد المجتهدين اللذين يشار لهم بالبنان وتورّع عن المحارم فكانت كلمة المقدّس رفيقة لاسمه، وينتهي نسب (آل الحكيم) إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن طريق ولده الحسن المثنى.
بين أحضان الحنان والعلم
في أحضان الأب يتلقى الطفل والفتى الحب والحنان، والتوجيه نحو التحصيل وطلب العلم، غير أن (شهيد المحراب) فاق الأقران ونهل من العلم والأخلاق بقدر ما تشربّت نفسه الزكية بمعاني الفضيلة والرجولة، ((فقد كان الوالد ـ الإمام الحكيم ـ يغرس في نفسه ـ شهيد المحراب ـ واخوته روح التقوى الحقيقية من خلال التأكيد على عناصر الصدق والأمانة والورع عن محارم الله وتحمل المسؤولية تجاه الأمة وقضاياها المصيرية، وتجاه الحوزة العلمية وقضايا الناس وحاجاتهم، حيث كان يؤكد على نقاط رئيسية:
1ـ الإخلاص لله تعالى في العمل وتوخي الحذر .
2ـ المصلحة الإسلامية وما يهدي إليه العقل والحكمة، فكان يقول: إذا عرضت عليك قضية ورأى عقلك فيها المصلحة والفائدة فاعرضها على دينك فإذا رضي بها فافعلها، وإلا فاتركها.
3ـ رضا الناس وموقفهم من العمل ومراعاة مشاعرهم وعواطفهم.
4ـ التأكيد على طلب العلوم الدينية والقيام بالوظائف الشرعية في مجال التدريس والتعليم والتبليغ الإسلامي.
5ـ بناء المكونات الأساسية للشخصية التي كان يراها في حرية التفكير والاستقلال في الإرادة والتوكل على الله والاعتماد على النفس والاستعداد للتضحية والفداء في أداء الواجب او خدمة الناس والمسلمين)).
في ظل هذه الأجواء المتشبعة بالروح الإيمانية والثقة العالية بالنفس نشأ السيد الشهيد (قدس سره) وقد كان لحياة التقشف دور في صقل شخصيته (وقد يكون الفقر في ذلك الزمان هو الطابع العام لطلاب العلوم الدينية، وقد يتفاوتون فيما بينهم في هذا الجانب، ولكن الظروف الاقتصادية الصعبة العامة التي عاشها الإمام الحكيم في بداية حياته كانت أشد ضغطا عليه وعلى أسرته من غيره، أضف إلى ذلك أن أجواء النجف الأشرف العامرة بمجالس العلم والعلماء والأدب والأدباء كانت المرتع الخصب لنمو الذهنية العلمية والأدبية وهم يبحثون ويناقشون الفقه وأصوله والعقيدة والكلام.
المسيرة العلمية
كتاتيب النجف الأشرف كانت مدرسة الأجيال التي يتلقى فيها الفتيان علومهم الأولية والبسيطة وسيدنا الشهيد سار على نهج أبناء مدينته فتلقى القراءة والكتابة فيها، ثم دخل مرحلة الدراسة الابتدائية في مدرسة منتدى النشر وأنهى الصف الرابع وتركها متوجها نحو الدراسات الحوزوية في سن الثانية عشر من عمره فكان أول أساتذته المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد سعيد بن السيد محمد علي الحكيم حيث درس عنده قطر الندى وألفية بن عقيل وجزءاً من مغني اللبيب، وحاشية الملا عبد الله وجزءاً من منطق المظفر، والمختصر وجزء من المطول، ومنهاج الصالحين والمعالم. وأنهى دراسة اللمعة الدمشقية سنة 1375 هـ – 1956م ودرس كتاب الرسائل على يد أستاذه آية الله السيد محمد حسين بن السيد سعيد الحكيم (قدس سره)، وحضر درس الكفاية الجزء الأول عند آية الله العظمى السيد يوسف الحكيم (قدس سره) وواصل دراسة الجزء الثاني من الكفاية وكذلك جزءاً من المكاسب عند الشهيد الصدر (قدس سره). ثم حضر درس (خارج الفقه والأصول) لدى كبار العلماء والمجتهدين أمثال آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (قدس سره) وآية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) حيث حضر عنده في بداية تدريسه لبحث الخارج، واستمر بالحضور لدى هذين العلمين الكبيرين فترة طويلة وقد عرف (دام ظله) منذ سن مبكرة بنبوغه العلمي وقدرته الذهنية والفكرية العالية، مما جعل كبار العلماء والأوساط العلمية تفيض عليه ألواناً من الاحترام والاهتمام، ونال في أوائل شبابه عام 1384 هـ شهادة اجتهاد في علوم الفقه وأصوله وعلوم القرآن من المرجع آية الله العظمى الشيخ مرتضى آل ياسين. ولسماحته تقريرات للدروس التي تلقاها على مستوى المقدمات والسطوح وبحث الخارج تركها في النجف بسبب الهجرة من العراق فاستولى عليها أوغاد صدام ضمن مصادرتهم لممتلكاته، ومنها مكتبته وكتاباته.
العطاء الفكري
حرص (قدس سره) على تزكية علمه منذ شبابه وكان جل طموحه نشر ثقافة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) وتغذية الأمة بعطائهم الفكري: ((زكاة العلم أن تعلمه عباد الله)) ولذا تميز عن كثير من أقرانه بحركته الدؤوبة في المجال الثقافي والتبليغي مما حدى باللجنة المشرفة على مجلة الأضواء إلى استدعاءه ليكون أحد المشرفين على المجلة، وكان انفتاحه الفكري على المنهج العلمي الأكاديمي وقناعته بضرورة التواصل الفكري الاكاديمي بين الجامعة والحوزة العلمية واعتقاده الراسخ في ان كتاب الله هو اهم دعامات تقوم عليها تربية الجماعة الصالحة سبباً في انتخابه للتدريس في كلية أصول الدين التي كانت ضمن المشروع الثقافي والاجتماعي العام لمرجعية الإمام الحكيم (قدس سره) ومؤسساتها وكان لشهيدنا الغالي جهود في التخطيط والاسناد والمتابعة لها، فأنتدب أستاذا لقسم علوم القرآن الكريم والشريعة والفقه المقارن للاستفادة من ثقافته وعلومه، وقد سجل نجاحا باهراً رغم حداثة سنه، حيث لا يزيد عمره آنذاك على الخمسة وعشرين عاما، ونظراً لقناعته المتأصلة في قيمومة المرجعية الدينية على هكذا مشاريع باعتبارها صاحبة الولاية الشرعية وافق على الانضمام الى اجتماعات الهيئة التدريسية والإشراف على مجلة (رسالة الإسلام) ورغم صعوبة السفر والتنقّل حينذاك بين بيته في النجف الاشرف وكلية أصول الدين في بغداد الا انه ظل مواظباً على سفره الأسبوعي وتحمله مشاق السفر وإدارة الكلية خصوصا بعد غياب العلامة السيد مرتضى العسكري عن عمادة الكلية بسبب مطاردة البعثيين له بعد وصولهم إلى كرسي الحكم في العراق سنة 1968. غير ان حزب البعث الطائفي قرر منذ تسلمه السلطة ضرب البنية التحتية لثقافة أهل البيت (عليهم السلام) والإجهاز على كل مراكزهم الثقافية، فكلية أصول الدين كانت واحدة من الأهداف التي استهدفها الفكر الطائفي للبعثيين، فتم مصادرتها من قبل نظام حكم حزب البعث عام 1975م 1395هـ وإغلاقها وبذلك حرموا المثقف الشيعي من الاستفادة من علوم أهل البيت على يد أكابر الأساتذة كشهيد المحراب (قدس سره)، وقد ترك هذا السلوك البعثي أثراً سلبياً في نفس الشهيد فهو يرى بأم عينيه تدمير مواقع الانتماء الأصيلة للمسلم واحداً تلو الآخر مما جعل أهداف العصابة البعثية تتضح في ذهنه يوما بعد آخر. لم تستطع كلية أصول الدين احتلال كل اهتمام شهيدنا، ولم تكن هي الإشراقة الوحيدة التي كان (قدس سره) يرى الآخرة من خلالها ـ رغم إن دخوله الحرم الجامعي بزيه العلمائي وانه نجل المرجع الديني ذلك الوقت كان يمثل خطوة كبيرة باتجاه العمل التبليغي للحوزة العلمية ونقلة ومنعطفا مهما في العقلية الأكاديمية آنذاك وإنما كان ذهنه الثاقب مملوءاً بالأفكار ونفسه الزكية مزدانة بالطموحات والهموم الحوزوية ألقت بظلالها على صفحة طموحاته فأقتطع جزءاً من وقته الشريف لتدريس المناهج الحوزوية على مستوى السطوح العالية إيمانا منه بضرورة رفد الحوزة العلمية بكوادر تمتاز بالعمق والدقة لتصون الجماعة الصالحة من وباء الأفكار المستوردة فأعطى كل ما عنده من عمق في الاستدلال ودقة في البحث والنظر حيث عُرف بقوة الدليل وتماسك الحجة ورصانة التفكير أعطى كل هذه الخصائص التي انعم الله بها عليه إلى تلامذته وطلابه كشقيقه الشهيد آية الله السيد عبد الصاحب الحكيم (قدس سره) الذي درس عنده الجزء الأول من الكفاية، وحجة الإسلام والمسلمين السيد محمد باقر المهري، الذي درس عنده الجزء الثاني من الكفاية، وحجة الإسلام والمسلمين السيد صدر الدين القبانجي والعلامة الشهيد السيد عباس الموسوي الأمين العام السابق لحزب الله ـ لبنان ـ، والعلاّمة الشيخ أسد الله الحرشي، والفاضل الشيخ عدنان زلغوط، والسيد حسن النوري، والشيخ حسن شحاده، والشيخ هاني الثامر، وغير هؤلاء كثيرون اللذين استفادوا من سماحته (قدس سره) في مجال علوم الفقه وأصوله في حلقة درسه المتواضعة بمسجد الهندي وفي إيران بدأ سماحته تدريس كتاب القضاء والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم الإسلامي على مستوى البحث الخارج. ولقناعته التامة بضرورة تواصل رجل الدين مع كل ما يطرح على الساحة الثقافية من افكار وطروحات جديدة سواء كانت قادمة عبر الكتب او المجلات او الصحف فقد كان مكثراً من المطالعة وقارئاً لا يمل القراءة في كتب التاريخ والتراث والسيرة فولّد عنده قدرة ممتازة على التحليل والنقد الموضوعي أهلته لان يكتب بعض الموضوعات التثقيفية لحزب الدعوة الاسلامية وقد نشر بعضها في (صوت الدعوة) عام 1959 وكان عمره حينذاك عشرين عاماً. وفي هذا الصدد صدرت له عدة كتب تعالج مختلف القضايا الحيوية والحساسة للامة، هي:
1ـ الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق (مطبوع).
2ـ دور الفرد في النظرية الاقتصادية الإسلامية (مطبوع).
3ـ حقوق الإنسان من وجهة نظر إسلامية (مطبوع).
4ـ النظرية الإسلامية في العلاقات الاجتماعية.
5ـ النظرية الإسلامية في التحرك الإسلامي (مطبوع).
6ـ دعبل بن علي الخزاعي شاعر أهل البيت (عليهم السلام) (مطبوع).
7ـ أفكار ونظرات جماعة العلماء (مطبوع).
8 ـ العلاقة بين القيادة الإسلامية والأمة (مطبوع).
9ـ الوحدة الإسلامية من منظور الثقلين، طبع عدة طبعات، آخرها في مصر سنة 2001م.
10ـ القضية الكردية من وجهة نظر إسلامية (مطبوع).
شهيد المحراب والقرآن
روى عن النبي انه قال: ((إذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفع، وشاهد مصدق، من جعله أمامه قاده الى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه الى النار وهو اوضح دليل الى خير سبيل، من قال به صدق ووفق، ومن حكم به عدل، ومن أخذ به اجر)).
لا نبالغ كثيراً ولا قليلاً إن قلنا أن (شهيد المحراب) سار خلف القران حينما التبست الأمور على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) وأضحت كقطع الليل المظلم يتلمس أوضح الأدلة على الحق المهتضم والضائع بين جبروت الطغاة ونفاق الوعاظ، فالقران من وجهة نظره هو الركيزة الأساسية في حفظ الجماعة الصالحة حيث يقول: ((لقد اهتم أهل البيت (عليهم السلام) اهتماما خاصا ومتميزا بجانب الفكر والعقيدة، لأنه يعتبر الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه بناء أي جماعة بشرية. وبمقدار ما يكون هذا الجانب قويا وواضحا ومنسجما وشموليا، تكون الجماعة قوية وقادرة على مواجهة المصاعب والمشكلات والظروف المختلفة التي تفرزها حركة التاريخ.
ومن خلال هذه الرؤية لدور الجانب العقائدي والفكري نجد أن القران الكريم يهتم به اكبر اهتمام، ويعالج ـ في المجتمع الجاهلي ـ القضية العقائدية والفكرية قبل كل شئ. ويرسخ في المجتمع (الجماعة الصالحة) هذه القضية))، فليس غريباً بعد هذا أن نلاحظ اهتمام شهيدنا بالقران الكريم اهتماما بالغا منذ بداية حياته العلمية حتى شهادته، حيث عكف على دراسته وتدريسه وهو في احلك الظروف واشدها قسوة عليه، ففي إيران وفي ظل ظروف حياتية لا يحسد عليها انكب على تدريس علوم القران وتفسيره، مضافا إلى محاضراته القرآنية الكثيرة في الوسط الإيماني والتي ركز فيها مفاهيم القران، وتتوجت هذه الجهود بالتالي:
1ـ علوم القرآن (مجموعة محاضرات ألقاها على تلامذته في كلية أصول الدين)، وقد نقحه وأضاف عليه وأعيد طبعه في أواخر عام 1417هـ، وهو كتاب كبير ومهم. وقد تمت ترجمته إلى اللغة الفارسية.
2ـ القصص القرآني. كتاب كبير يدرس في الجامعة الدولية للعلوم الإسلامية في إيران، ويجري العمل الآن على ترجمته الى اللغة الفارسية
3ـ الهدف من نزول القرآن وآثاره على منهجه في التغيير، وهو بالأصل بحث كتبه لأحد مؤتمرات الفكر الإسلامي المنعقدة في إيران، ثم قام بتوسيعه وتنقيحه فصدر في كتاب مستقل.
4ـ مقدمة التفسير وتفسير سورة الحمد، وقد تناول فيه قصص أولي العزم ضمن منهج أعتمد فيه على القرآن وأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) مستبعداً الإسرائيليات التي دخلت في الحديث عن الأنبياء. ويجري العمل أيضاً على ترجمته من قبل إحدى دور النشر بطهران.
5ـ منهج التزكية في القرآن.
6ـ تفسير سورة الصف.
7ـ تفسير سورة الحشر.
8ـ تفسير سورة الحديد.
9ـ تفسير سورة الممتحنة.
10ـ المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، كتاب ألّفه في الستينات وطبع في العراق أواسط السبعينات. وهو مقتطف من محاضراته في علوم القرآن التي ألقاها على طلبة كلية أصول الدين ببغداد.
11ـ الظاهرة الطاغوتية في القرآن (مطبوع).
12ـ تفسير سورة التغابن (مخطوط).
13ـ تفسير سورة المنافقون (مخطوط).
14ـ تفسير سورة الجمعة (مخطوط).
الذوبان في العترة
قال رسول الله: ((إني أوشك أن ادعى فأجيب، فإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عزوجل وعترتي. كتاب الله حبل ممدود بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا بماذا تخلفوني)).
يتلمس الدارس والمتتبع لمنهج (شهيد المحراب) انه (قدس سره) يقطر ولاءً لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) اعتقاداً منه اعتقاداً جازماً انهم الحق الذي لا يشوبه أي شك، وسفن النجاة التي أمر الله تعالى بركوبها، وان الإسلام دين لم يكتمل في رؤاه ونظرياته ان لم نتمسك بالعِدل الآخر، فهو(قدس سره) يقول: ((ان أطروحة أهل البيت (عليهم السلام) من أهم الاطروحات الإسلامية ذات الأبعاد المتعددة، العقائدية والفكرية والثقافية والتاريخية والاجتماعية. فهم امتداد للنبوة في خط الإمامة، وولاة الأمر اللذين أوجب الله طاعتهم وولايتهم ومودتهم.
كما انهم عِدل القران الكريم الذي هو الثقل الأكبر، وأهل البيت (عليهم السلام) هم الثقل الآخر الذي لن يفترق عن القران، بل هم علماء القران أيضا يفسرونه ويوضحونه ويبينونه ويكشفون غرائبه ويستخرجون كنوزه.
وفي الوقت نفسه هم حملة السنة النبوية في تفاصيلها ومصاديقها، ويعرفون ما تؤول إليه الآيات والأحاديث في حاضرها ومستقبلها.
فوجد (قدس سره) في سيرتهم وسلوكهم وأحاديثهم العلمية والتعليمية ثقافة غزيرة بكل أبعادها وان صورة الإسلام بما هو الدين الخاتم للشرائع السماوية، مشروع متكامل يعالج مشاكل الحياة وظروفها من جميع زواياها إنما تتكامل من خلال القرآن الكريم والعترة الطاهرة، ، فاستهوته الموسوعات التاريخية والحديثية منذ نعومة أظفاره، واصبح الحديث عن سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ملازما له في وصاياه ونداءاته ونصائحة وإرشاداته، ومن اجل تأصيل هذه الثقافة والمفاهيم السامية في نفوس اتباع اهل البيت (عليهم السلام) كان له دور ريادي في تنضيج فكرة اقامة مهرجانات واحتفالات بالمناسبات الدينية في مختلف المدن العراقية، ولتكون في ذات الوقت تظاهرة تعبّر عن مواقف المرجعية تجاه قضايا الساعة التي تجري في العراق، فكانت تقام في النجف الاشرف بميلاد الإمام الحسين (عليه السلام) في الثالث من شعبان كل عام، وميلاد الإمام علي (عليه السلام) في كربلاء في الثالث عشر من رجب كل عام، ومولد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في الثاني عشر من ربيع الأول كل عام في بغداد، وميلاد الإمام الحجة القائم المنتظر الذي يقام في البصرة في الخامس عشر من شعبان كل عام.. فهو يرى انهم (عليهم السلام) خير قدوة يمكن للبشر الاقتداء بهم، وثقافتهم خير دروع يتحصن بها اتباع محمد (صلى الله عليه وآله). وقد عبرَّ قلمه الشريف عن هذا الولاء المتدفق بمجموعة من الكتب والبحوث عنهم (عليهم السلام) هي:
1ـ أهل البيت (عليهم السلام) ودورهم في الدفاع عن الإسلام (مطبوع).
2ـ دور أهل البيت (عليهم السلام) في بناء الجماعة الصالحة، كتاب في مجلدين، مهم في بابه لدراسة حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) (مطبوع)، ويجري العمل حالياً على ترجمته إلى اللغة الفارسية.
3ـ الإمام الحسين. (مطبوع)
4ـ الزهراء . (مطبوع)
الشهيد والشعائر الحسينية
صرخة الحسين (عليه السلام) (هيهات منا الذلة) كانت حية داخل وجدان (شهيد المحراب) رغم السنين المتمادية، فهو يفسرها (رضوان الله عليه) من خلال منظوره الإنساني بأنها صرخة عز وفخر أطلقها الحسين (عليه السلام) قبل قرون لتبقى مدوية في سماء الأحرار اللذين يأبون الضيم، وصرخة استنهاض لهمم المؤمنين الرساليين اللذين يأبون انحراف المسيرة المحمدية عن صراطها الذي اختطته السماء، فالحسين (عليه السلام) وشعائره أحد أهم صمامات الأمان التي تحفظ التوازن الديني والأخلاقي والسلوكي لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) فيقول: ((ولا شك ان نهضة الحسين (عليه السلام) كان لها تأثير بالغ وكبير في حركة التاريخ الإسلامي وحياة المسلمين عامة، بحيث أدت تفاعلاتها الواقعية في حركة الأمة إلى حفظ الإسلام والأمة الإسلامية من كثير من مخاطر الانحراف. ولكن الشعائر الحسينية كان لها دور آخر مكمل لدور الثورة نفسها) ويقول في مكان آخر: ((وقد وضع الأئمة (عليهم السلام) التصميم العام لهذه الشعائر وأعطوها أبعادها الدينية الكاملة، وحددوا الشكل والمضمون الذي يتناسب مع الدور المهم الذي لابد لها أن تؤديه من ناحية الشكل مع ظروف المأساة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ومن ناحية المضمون مع الأبعاد السياسية والروحية والثقافية والعقائدية)). فكان (رضوان الله عليه) حريصا كل الحرص على إحياء هذه الشعائر على مدى اكثر من خمسة عقود من الزمن، وقد ترك بصماته عليها خلال هذه الفترة عبر مساهماته الفعالة فيها، والتي يمكن الإشارة إليها بالتالي:
1ـ التزامه بتفقد المسيرة الراجلة لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في أربعينه، وكان (قدس سره) يعتبرها فرصة لبث الروح الحسينة في نفوسهم.
2ـ مواظبته على زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) في المناسبات الدينية.
3ـ كان أحد المنظرين والداعين لتنفيذ فكرة مواكب طلبة الجامعات التي كانت تعبر في خروجها أفواجاً أفواجاً عن النهج المرجعي الذي هو الامتداد الطبيعي لخط الإمامة، بل كان يشترك فيها ممثلاً عن والده المرجع الاعلى، ويلقي بها خطابا في الصحن الحسيني.
4ـ قصة شهادة سيد الأحرار (عليه السلام) يوم عاشوراء مملوءة بالعبر الأخلاقية والإيمانية ودروس الجهاد والبطولة والتضحية، فكان سيدنا الشهيد ملتزماً بحضوره السنوي في كربلاء لقراءتها على الملأ في واحد من اكبر تجمعات الجماعة الصالحة. وبعد اضطراره للهجرة الى الجمهورية الإسلامية في إيران أبقى على التزامه هذا، وفكان يقرؤها في مسجد الإمام الرضا (عليه السلام) في قم المقدسة.
5ـ في العشرة الأولى من محرم الحرام يعقد مأتماً ويحضره هو شخصيا في مكتبه الخاص بطهران.
6ـ تأثر شهيدنا الحكيم من الناحية الروحية والولائية بوالده الإمام الحكيم (قدس سره)، بصورة كبيرة، حيث كان الإمام الحكيم في ليلة السابع من محرم يقيم مأدبة عشاء كبرى يطلق عليها (عشاء العباس) فسار الابن على خطى أبيه، وكان ـ شهيد المحراب ـ يشرف بنفسه الزكية على إعداد وطبخ وتوزيع العشاء في مكتبه بطهران، وقبل العشاء يرتقي المنبر ليسلط الأضواء على تضحية وإيمان وتفاني أبي الفضل ويختم المحاضرة بالقصة الكاملة لشهادة قمر بني هاشم (عليه السلام).
هذه امثلة يسيرة من معالم شخصيته (قدس سره) المرتبطة بالشعائر الحسينية، والحديث طويل.
الشهيد بين مرجعيتين
حياة المجاهد الشهيد امتازت بأنها عاصرت مرجعيتين مهمتين في وقت كانت تعصف بالعراق الأحداث الخطيرة المتوالية، فمرجعية الإمام الحكيم هي المرجعية الكبرى التي غطت مساحة العالم الشيعي بأطرافه المترامية، ومرجعية الشهيد الصدر كونها تمثل أنموذجا حديثا وطرازا جديدا في اسلوب عملها وطريقة تفكيرها، فهي على حداثتها استطاعت ان تستقطب بقوة الشريحة المثقفة من العراقيين، وشهيدنا كان متواجداً في اعماقهما معا، اعتقاداً منه بضرورة دعمها: ((ولكن المرجعية ازدادت أهميتها ودورها في أوساط اتباع اهل البيت (عليهم السلام) عندما أخذت البلاد الإسلامية تتعرض للنفوذ والغزو الأجنبي، وتعرض الكيان الإسلامي لخطر الانحراف، ثم تعرض بعد ذلك لخطر الانهيار والزوال وسقطت الدولة الإسلامية، الأمر الذي جعل المراجع والمجتهدين أمام مسؤولية جديدة وهي الدفاع عن الوجود الإسلامي، ومن ثم العودة الى الإسلام بعد انحسار النظام الإسلامي عن المجتمع في مجال التطبيق الاجتماعي وحتى الفردي))، ففي نطاق مرجعية والده الإمام الحكيم كان سيدنا الشهيد مسؤولاً مباشراً عن الطلبة العراقيين وغيرهم ممن هم جديدي العهد بدخول الحوزة العلمية في النجف الاشرف، فكان يرعى شؤونهم العامة ويتدخل لحل مشاكلهم ومعاناتهم.
كما كان مسؤولاً عن بعثة الحج الدينية لتسع سنوات متوالية (1960 ـ 1968م) التابعة لوالده الإمام الحكيم (قدس سره) فيسافر كل عام الى الحج يلتقي المسلمين، من أجل بث الوعي الديني في صفوفهم وتعليمهم الأحكام الشرعية وتنظيم أمورهم الدينية، وحصل حينها على وكالة مطلقة مؤرخة في 11 ذي القعدة 1383هـ من الإمام الحكيم.
وعلى الصعيد الرسمي مثلَّ الإمام الحكيم في عدد من الأنشطة الرسمية، كحضوره في عدة مؤتمرات واجتماعات، منها حضوره مع العلامة الشهيد السيد محمد مهدي الحكيم ممثلين والدهما في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في مكة المكرمة سنة 1965، والمؤتمر الإسلامي الذي عقد في عمان بالأردن في أعقاب نكسة 5 حزيران عام 1967م - 1387هـ.
وحين قام النظام البائد بعملية تسفير واسعة لعلماء وأساتذة وطلاب الحوزة العلمية في النجف الاشرف من الإيرانيين المقيمين في العراق، والعراقيين ذوي الأصول الايرانية، فأحتج الإمام الحكيم على ذلك بقطع زيارته لكربلاء التي كان يؤديها بمناسبة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) في العشرين من صفر عام 1389هـ، فعاد مسرعاً الى النجف، وتم اعلان ذلك على الناس. وعقد اجتماعاً كبيراً للعلماء لمتابعة هذا الأمر، فيما اضطر النظام إلى إرسال وفد كبير من بغداد برئاسة خير الله طلفاح محافظ بغداد وعضوية الوزير حامد علوان الجبوري، ومتصرف كربلاء آنذاك عبد الصاحب القرغولي وبعض المسؤولين الآخرين للتفاوض حول الأحداث، وهنا قدم سماحة السيد محمد باقر الحكيم في محضر الوفد الأدلة الثبوتية على وجود قرار للنظام بمحاربة الاسلام والدين بعد ان أنكر الوفد ذلك، وعلى أثر هذا اللقاء تم ايقاف التسفيرات بصورة مؤقتة.
وفي عهد مرجعية الشهيد الصدر لم يتوان شهيدنا في دعم هذه المرجعية وتقديم المشورة لها، وبحكم امتلاكه تجربة ثرية في العمل الميداني المرجعي، وقدرة كبيرة على استشراف المستقبل وقراءة احداثه، اختصه الشهيد الصدر (قدس سره) بالمشورة والاستفادة من آراءه.
وفي تحليل لمستقبل شيعة العراق ومرجعيته الدينية بعد وفاة الامام الحكيم انتهيا الى مايلي:
الأول: انّ النظام البعثي قمعي ويخطط للدخول في تفاصيل حياة الناس، وهو لا يَترُك حتى لو يُترَك ولذلك فلا بد من أخذ زمام المبادرة في التحرك وعدم الاعتماد على حالة ردود الفعل.
الثاني: انّ الأمة بدأت مرحلة جديدة من الوعي ولكنها غير متكاملة ولا منظمة وتحتاج إلى جهد متواصل يهتم بالكيف أكثر من الكم.
الثالث: انّ النظام والاستكبار العالمي فتحا عيونهما على المرجعية وأهميتها ودورها الفاعل في الأمة وقدرتها التأثيرية الكبيرة على اتباع اهل البيت (عليهم السلام) بعد خروجها من عزلتها على يد الامام الحكيم، ولذلك فسوف يواصل النظام التعرض للمرجعية والعمل على انهاء دورها أو تحجيمه.
الرابع: وجود حاجة حقيقية لتوحيد المرجعية في العراق للمحافظة على ما تبقى من انجازات حققتها مرجعية الامام الحكيم وللاحتفاظ بقدرة المرجعية في المواجهة، ولذلك اهتم بارجاع الأوساط الشعبية إلى الامام الخوئي حيث كان هو المرشح لذلك.
الخامس: ضرورة اعتماد المرجعية على جهازها وتشكيلاتها الخاصة بها من العلماء والمبلغين، مضافاً الى القوى والتشكيلات الثقافية والسياسية الاسلامية الأخرى.
السادس: فصل المرجعية والحوزة وجهازها العام عن كل التنظيمات الاسلامية.
السابع: ضرورة وضوح العلاقة الداخلية بين المرجعية والحوزة من ناحية والتنظيم الاسلامي الخاص من ناحية أخرى، وهي علاقة قيمومة المرجعية على العمل التنظيمي الاسلامي وقيادته وتوجيهه وارشاده.
في صفر من عام 1397 ـ 1977 اندلعت اكبر انتفاضة شعبية بوجه البعثيين حيث شارك فيها عشرات الآلاف من أبناء العراق، وكان مركز انطلاقها مدينة النجف الأشرف، وشهد الطريق بين النجف وكربلاء اروع ملحمة بطولية سطرها أبناء العراق الغيارى، الامر الذي أدى الى تدخل القوات البرية المدرعة، والطائرات المقاتلة للسيطرة على المنتفضين، وارسل آية الله العظمى السيد الشهيد الصدر (قدس سره) سيدنا المجاهد ممثلاً عنه لتوجيه خطابه السياسي بالشكل الذي يحقق اهدافها في استمرار الشعائر الحسينية ويحبط مؤامرات النظام للالتفاف عليها، ولاشعار المنتفضين ان المرجعية معهم في موقفهم البطولي الرائع، وتمكن المجاهد السيد الحكيم من افشال مخطط النظام في ضرب الانتفاضة سياسياً.
دخول (شهيد المحراب) في عمق المرجعيتين وحركته الدؤبة والمتواصلة في تنضيج العمل المرجعي والتنظير له، جعله في قلب الحدث دائما، بل على فوهة المدفع. فعيون النظام السرية كانت تلاحق سماحته اطراف الليل وآناء النهار، وكان نصيبه الاعتقال، ففي عام 1972م اعتقلته الاجهزة الامنية مع عدد من العلماء وفي مقدمتهم السيد الشهيد الصدر (قدس سره) وقد تعرض سماحته للتعذيب القاسي الشديد، حيث كان المعتقل الوحيد من بين المعتقلين الذي تم نقله الى بغداد، ولكنه صمد صمود الابطال ولم يكل او يستكين.. وعندما صدر قرار الإفراج عنه أصر على ان لا يخرج من السجن حتى يصدر قرار الافراج عن السيد الشهيد الصدر، وبالفعل تم إخباره بالافراج عن الشهيد الصدر (قدس سره)، حيث أطلق سراحه.
وفي عام 1974م قام النظام بحملة واسعة من الاعتقالات ضد الاسلاميين شملت سيدنا الحكيم ايضا وبرفقة شهيدنا الصدر، ولكن جذوة الجهاد لم تخفت عنده، واستمر سيدنا المجاهد في نهجه الجهادي ضد النظام العفلقي حتى انطلقت انتفاضة صفر الاسلامية المباركة عام 1977م، بسبب تدخل النظام في الشعائر الحسينية ومنعه لأبناء الشعب العراقي من أداء مراسيم المواكب والزيارة مشياً على الاقدام للامام الحسين (عليه السلام) فتم اعتقاله من جديد وتعرض في هذه المرة لسلسلة من التعذيب النفسي والجسدي الشديد ومن ثم الحكم عليه بالسجن المؤبد. واطلق سراحه بعد حوالي سنة ونصف.
الملتقى الأسبوعي
بناء جيل وتنشئة كادر متكامل ومتوازن في شخصيته الإسلامية، قضية أرقت السيد الشهيد (قدس سره) طوال حياته، وأقلقته اكثر حينما شاهد الحملة الظالمة والضاغطة على اتباع اهل البيت (عليهم السلام) تأخذ أبعاداً عديدة، يقودها تجار التشكيك المتمرسين في قلب المفاهيم، والانتهازيون اللذين يصفقون للباطل مثلما يهتفون للحق، ويقودها أيضاً ذوو الاختصاص في تصدير الفكر الملغوم وتفجيره في الأوقات التي يكون أفراد الجماعة الصالحة أحوج ما يكونون إلى وضوح الرؤية ونقاء المفهوم، مما جعل الشاب الشيعي يفتح عينيه على قائمة من التشكيكات الفقهية والعقائدية والسياسية والأخلاقية وبالتالي تفتيت روحه المعنوية وتهميشه أو إخراجه من ميدان الصراع. وقد التفت (قدس سره) الى نوايا الاستعمار بأطيافه وأدرك ضخامة المؤامرة التي تحاك ضد اتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وان الحرب حرب على كل الجبهات دون استثناء، وكالمعهود منه في شجاعته وإقدامه على اقتحام مواقع الخطر بروح قتالية عالية، حيث أقام ملتقاه الاسبوعي في داره بقم المقدسة وهو في قمة الانشغال بالعمل السياسي وبقضية العراق وتداعياتها. في قم يعتلي المنبر ويسترسل في محاضرته التي قد تطول لأكثر من ساعة، وتكون مشحونة بفكر أهل البيت وتعاليمهم وبيان ما يريده الله تعالى وما يكرهه، مضافاً إلى بيان ما يدور في الساحة وعلى كل الأصعدة ومن ثم إعطاء الموقف العملي تجاهه. وبمرور الزمن أمسى شهيدنا رمزاً يؤمه الباحثون عن الحقيقة ومجلسه ملاذاً يقصده الواعون والحريصون، فقد أيقنوا انه (قدس سره) يغرس فيهم روح الإسلام الأصيل، ويغذيهم بسلاسة طرحه وعمق استدلاله.
الشهيدان
لا أحد يعرف على وجه الدقة متى بُذرت بذرة العلاقة الأخوية بين الشهيدين، الشهيد المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر والشهيد المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد باقر الحكيم، فكل ما يعرف عنهم هو امتداد جسور الصداقة والعلاقة حينما كان (شهيد المحراب) تلميذاً لدى الشهيد الصدر يدرس عنده الجزء الثاني من الكفاية وقسماً من المكاسب في حدود عام 1376هـ، ثم حضوره البحث الخارج لدى الشهيد الصدر(قدس سره) . في هذه الحقبة الزمنية يعرف جميع المقربين منهما ان أواصر الصداقة وعرى الاخوة التحمت بينهما، بحيث ان الشهيد الأستاذ لا يتعامل مع الشهيد تلميذه من موقع الأستاذية وانما من زاوية الاخوة التي انصهروا فيها معا، خصوصا وان (شهيد المحراب) كان من المتميزين في تحصيله العلمي والبارعين في نقاشاته الفنية ذات الطابع العلمي. وقد انعكست هذه الاخوة في الله بينهما على مجمل تفاصيل حياتهما، فأضحت الهموم مشتركة بينهما، والطموحات والآمال يتقاسمونها معا، ولذا نلاحظ ان حركة شهيدنا الجهادية والعلمية كانت الى حد ما تعبر عن رؤى وآفاق شهيدنا الصدر (قدس سره)، فكما استأنس (قدس سره) في هذا الجانب بقناعات أستاذه، أيضا تأثر بأخلاق وتقوى أستاذه الأول وأبوه الأمام الحكيم (قدس سره).
التبليغ الإسلامي
لم تقتصر هموم (شهيد المحراب) على الدرس والتدريس والتأليف، وانما امتدت الى ابعد من ذلك، فأفقه اوسع من ان يحصره بالحاضر ويتقوقع فيه، فكان يخطط وينظر لاحتضان الاجيال القادمة التي ستواجه الحضارة الغربية بكل اغراءاتها ونظرياتها، فأهتم بتربية كادر متخصص في العمل التبليغي وضمن المواصفات العلمية الحديثة مستفيداً من تجربته في زمن مرجعية الامام الحكيم، فقد مارس التبليغ في مدينة الكوت لمدة شهرين تقريباً بطلب من والده المرجع الأعلى بالتبليغ الاسلامي. وتحرك وبتوجيه من ابيه الامام الحكيم وبتعاون من الشهيد الصدر (قدس سره) نحو تأسيس (مدرسة العلوم الإسلامية) في إطار مرجعية الامام الحكيم في النجف الأشرف سنة 1384هـ، التي أثمرت في تخريج عدد من الدارسين ممن حملوا فيما بعد راية نشر الوعي الاسلامي في العراق ومختلف بقاع العالم الاسلامي. وفي ايران أسس (قدس سره) مدرسة (دار الحكمة للعلوم الدينية) ومهمتها تخريج دفعات من العلماء والمبلغين، وانفق في سبيل ذلك الكثير من الاموال والجهود.
المؤسسة أقصر الطرق
بعد التطور الذي عصف بالمجتمع الإنساني في كل أنحاء المعمورة وما تبعه من تشعب في الاختصاصات وما تتطلبه الحاجة الكبيرة اليومية للإنسان تبعاً لذلك التطور بات العمل الفردي عاجزا الى حد كبير عن إدارة أمور المجتمع وتلبية المتطلبات الكبيرة للامة، وقد التفت سماحته الى هذا الضعف الذي يؤدي الى شل حركة الأمة، فسعى إلى إيجاد البديل من اجل مواكبة سير الحضارة العالمية بكل إنجازاتها، فكان خير بديل اهتدى إليه هو إنشاء مؤسسات تأخذ على عاتقها تلبية طموحات الجماعة الصالحة وتسرّع عجلة حركتها من ناحية أخرى، فالمؤسسة في اعتقاده ما هي إلا مفصل من مفاصل العمل، سواء كان عملا ثقافيا او حوزويا او اجتماعيا او غير ذلك، واقام سماحته مشاريعه السياسية والاجتماعية والثقافية والحوزوية على العمل المؤسساتي، فكان له دور كبير في انشاء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، وكان قبل استشهاده رئيس المجلس الاعلى لهذا المجمع. والمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) حيث كان نائب رئيس المجلس الأعلى للمجمع ولسنوات طويلة. كما بادر سماحته الى تأسيس مركز دراسات تاريخ العراق الحديث ومقره في مدينة قم المقدسة ومؤسسة الشهيد الصدر(قدس سره) ولجنة الإغاثة الإنسانية التابعة لها، والمركز الوثائقي لحقوق الإنسان في العراق، ومؤسسة دار الحكمة التي تضم مدرسة دينية حوزوية، ومركزاً للنشر، ومركزاً آخر للبحوث والدراسات، ومكتبة علمية تخصصية، ومركزاً للتبليغ عبر الأنترنت. ومركز دراسات تاريخ العراق الحديث، كما قام بتأسيس مجمع الكوادر الإسلامية لتربية الكوادر الإسلامية والقيام بالنشاطات الثقافية السياسية.
الشهيد بين الناس
مارس سماحته النشاط الإجتماعي العام منذ وقت مبكر من حياته، وقد منحته المواصفات الذاتية التي يمتلكها، وانتمائه للمرجع الأعلى كابن وعنصر فاعل ونشط في جهاز المرجعية، فرصة واسعة للتحرك في الأوساط الاجتماعية المختلفة.
فعلى صعيد التحرك الإجتماعي العام، كان يقوم بزيارات عمل وتفقد للمدن العراقية واللقاء بالمؤمنين ورعاية نشاطاتهم العامة، مثل زيارته للبصرة، وزيارته للناصرية والحمزة الشرقي، وافتتاح جامع وحسينية الشرقي، والديوانية، والعمارة والكوت، وغيرها، فيتعرف عن قرب على طبيعة الجهود التي تبذلها الحركة الاسلامية والمؤمنون في تلك المدن لنشر الثقافة والوعي الاسلامي بين الشباب العراقي المسلم في كل أنحاء العراق.
كما كان يولي اهتماماً خاصاً لتأسيس المكتبات والجمعيات الاسلامية لما لها من دور كبير في نشر الوعي الاسلامي وكونها تمثل منتدى لتجمع المؤمنين في كل المدن العراقية.
وإلى جانب كل ذلك نراه حاضراً وسط الجماهير في احتفالاتها العامة الدينية، أو حاضراً معزياً هذا بمصيبته، أو مهنئاً ذاك بفرحته، ولا يفوته أن يحضر في أكثر الحسينيات والهيئات الحسينية التي تقيم العزاء لسيد الشهداء الامام الحسين (عليه السلام) في موسم محرم الحرام، أو في شهر رمضان المبارك، أو القيام بزيارة وتفقد العراقيين في مدنهم بحيث لم يترك مخيماً أو معسكراً أو مدينة يتواجد فيها العراقيون إلاّ وزارها، وقد أنفق ساعات وساعات من اجل قضاء حوائج الناس، والاهتمام بأمورهم ومشاكلهم اليومية. كما انه في الوقت نفسه كان له حضور في الجبهات والمنتديات السياسية والفكرية في الساحة العراقية والايرانية.
كـلـكـم راع
السياسة مفهوم يتداوله الناس بكثرة ويتحاشونه اكثر، السياسة مفهوم ليس كباقي المفاهيم، فهو منبوذ عندهم لأنه يعبر عن سلبية مطلقة ورفض قاطع في أذهان عامة الناس، حيث يتصورونه الوجه الآخر للظلم والاضطهاد والقتل، ومتعاطي السياسة اقل ما يصفونه بالكاذب والجائر والمخادع، وربما نلتمس عذراً ما لسلبيتهم هذه وقاطعيتهم الرافضة للسياسة، وقد يكون للاضطهاد الفكري والعقائدي الذي تعرض له أتباع أهل البيت (عليهم السلام) وعلى أساسه نصبت أعواد المشانق على مدى قرون متمادية دور مهم في انقلاب هذا المفهوم في أذهانهم، وتغير المفهوم لدى سواد الناس لا يعني سقوطه عن الاعتبار، فالسياسة في مفهومها الواقعي عبارة عن إدارة شؤون المجتمع من كل الحيثيات، ومن المنظور الإسلامي السياسة واجب من الواجبات الدينية ان اقترنت ببعض الظروف كالانطلاق من مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكرـ ان توفرت شروطه ـ، وربما على هذا الأساس اندفع السيد الحكيم (قدس سره) بقوة تجاه المطالبة بحقوق اتباع أهل البيت (عليهم السلام) ومحاولة دفع الظلم عنهم ورفع الحيف الذي قاسوا منه فترة طويلة وربما على هذا الأساس واسس اخرى، منها ضرورة ايجاد التنظيم السياسي الاسلامي الذي يكفل ايجاد القدرة على التحرك السياسي المدروس داخل أوساط الشعب العراقي، والشعور بالحاجة لتنظيم اسلامي يتبنى النظرية الاسلامية الأصيلة المأخوذة عن أهل البيت (عليهم السلام) في مسالة الحكم، ولمواجهة التنظيمات غير الاسلامية التي أسست على أسس الحضارة الغربية او الشرقية، مضافا الى التحولات السياسية المهمة في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً بعد سقوط الملكية وقيام النظام الجمهوري، هذه الأسس ربما هي التي دفعت بشهيد المحراب الى اقتحام المعترك السياسي بقوة وثقة عالية وتأسيس التنظيم الاسلامي سنة 1958م، الذي شارك فيه مع آخرين من العلماء الكبار أمثال آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره)، والعلاّمة المجاهد الشهيد السيد محمد مهدي الحكيم (قدس سره)، والعلاّمة السيد مرتضى العسكري، وهو التنظيم الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم (حزب الدعوة الاسلامية)، واستمر سماحته مشاركاً في مرحلة التأسيس لمدة سنتين قام فيها بدور فكري وثقافي بشكل عام، وتنظيمي بشكل محدود، غير أن والده الامام الحكيم طلب منه في عام 1380هـ، ومن الشهيدين السيد الصدر والسيد محمد مهدي الحكيم أن يتركوا العمل داخل الإطار الحزبي، ويتخصص للعمل الجماهيري بقيادة المرجعية الدينية.
رغم تركه للعمل الحزبي إلاّ انه بقي على علاقته بالعمل السياسي المنظم على مستوى الرعاية والاسناد والتوجيه من خلال جهاز مرجعية والده الامام الحكيم (قدس سره)، وبعد ذلك بشكل مستقل، أو من خلال الموقع القيادي العام للنهوض الاسلامي الذي كان يمارسه السيد الشهيد الصدر (قدس سره). وبعد وفاة والده الامام الحكيم (قدس سره) سنة 1970م، استمر سماحته على هذا المنهج وهو يقف الى جانب آية الله العظمى السيد الشهيد الصدر (قدس سره)، ومع تطورات الأوضاع السياسية وتنامي حركة الوعي الاسلامي في العراق ازداد ثقل المسؤولية التي تحملها المرجع الشهيد الصدر والشهيد الحكيم فتصاعدت حركة نشاطه السياسي على الرغم من الرقابة الشديدة السرية التي كان يتعرض لها من قبل أجهزة السلطة واعوانها متحينين الفرص لإعتقاله. وبالرغم من اعتقاله اكثر من مرة لم ينقطع (شهيد المحراب) عن عمله الجهادي ومسؤولياته وصلته بالسيد الشهيد الصدر، حتى بعد فرض النظام البعثي الاقامة الاجبارية على السيد الشهيد الصدر، حيث كان السيد الحكيم يقوم بمسؤولياته من خلال فتح قناه الاتصال السري مع الشهيد الصدر لايصال تطورات الاوضاع اليه والمساهمة في التخطيط للعمل السياسي والجهادي، وايصال التوجيهات لابناء الحركة الاسلامية في داخل العراق وخارجه.
بعد أن نفذ النظام المجرم جريمته الكبرى باعدام السيد الشهيد الصدر في أوائل نيسان عام 1980م، اتخذ سماحة السيد الحكيم قرار الهجرة من العراق لقيادة عملية الجهاد ضد النظام العفلقي الدموي، حيث أصبح بقاؤه مستحيلاً في ذلك الوقت، فكانت هجرته المباركة في أوائل تموز عام 1980م بشكل سري عن طريق احدى الدول العربية المجاورة وصولاً الى سوريا، قبل عدوان النظام الصدامي على الجمهورية الاسلامية الايرانية بحوالي الشهرين والنصف.
الشهيد في المهجر
منذ اللحظات الاولى لخروج سيدنا الشهيد من العراق في تموز عام 1980، توجه على الفور نحو تقييم الوضع في العراق ووضع الخطوط الاستراتيجية الثابتة للعمل، وتشخيص اسلوب العمل الجهادي للمواجهة، وتنظيم المواجهة ضد نظام صدام، وتعبئة كل الطاقات العراقية الموجودة داخل العراق وخارجه من اجل دفعها لتحمل مسؤولياتها في مواجهة هذا النظام، فأمضى مدة ثلاثة اشهر في سوريا يعمل فيها بصورة غير علنية، وكتب في ذلك بحثين مهمين.
وبعد التوصل الى صورة واضحة عن المسائل المطروحة والاتفاق مع اطراف الساحة وشخصياتها توجه سماحته في أوائل تشرين الاول عام 1980 بعد بدأ العدوان الصدامي على ايران بأيام قليلة نحو الجمهورية الاسلامية ضيفاً على الامام الخميني (قدس سره)، فخصص له منزلاً مجاوراً لمقره (قدس سره)، واولاه عناية كبيرة واهتماماً ملحوظاً ومتميزاً.
وما ان علمت الجماهير العراقية المجاهدة الموجودة في ايران بقدومه حتى تحركت نحوه في وفود شعبية وعلمية كبيرة، ومن حينها اعلن المواجهة الشاملة ضد نظام صدام المجرم، فكان أول شخصية عراقية علمائية معروفة تعلن في تصديها لمواجهة نظام صدام عن اسمها بصراحة عبر الصحف والاذاعات وصلاة الجمعة في طهران . ثم اجرى الحوارات مع كل الاطراف السياسية الاسلامية العراقية لايجاد مؤسسة سياسية تتولى ادارة التحرك الاسلامي العراقي وتوحيد مواقفه السياسية، وأسفرت تلك الحوارات عن تأسيس (جماعة العلماء المجاهدين في العراق)، غير ان بعض التطورات التي حدثت ادت الى تجميدها عملياً، فتأسس (مكتب الثورة الاسلامية في العراق).. وبعد مخاضات متعددة اسفر ذلك النشاط المتواصل والجهود الكبيرة عن انبثاق (المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق) في أواخر عام 1982م - 1402هـ، وانتخب سماحته (قدس سره) ناطقاً رسمياً له وأوكلت له مهمة ادارة الحركة السياسية للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق على الصعيد الميداني والاعلامي. ثم في عام 1986م أصبح سماحته رئيساً للمجلس حتى شهادته، بعد انتخابه للرئاسة وبصورة متكررة من قبل اعضاء الشورى المركزية.
وقبل أن يتشكل المجلس الاعلى سعى سماحته نحو ايجاد قوة عسكرية مدربة تدريباً جيداً تتكفل مقاومة نظام صدام. فوجّه نداءاته للشباب العراقي الذي انخرط في تعبئة سميت بـ(التعبئة الاسلامية) فأولى سماحته عنايته الخاصة لهذا التشكيل الذي كان له دور مهم في عمليات التصدي للعدوان الصدامي على الجمهورية الاسلامية، وتصعيد الحالة الجهادية لدى العراقيين.
وعلى صعيد آخر بدأت تتكون في الساحة العراقية قوى الجهاد في داخل العراق والتي لبت نداءات سماحة السيد الحكيم، فنفذت عمليات استشهادية ضخمة في بغداد زعزعت استقرار النظام من قبيل تفجير وزارة التخطيط، ووكالة الانباء العراقية، ومقر القوة الجوية، وغير ذلك من العمليات الضخمة التي كان لها دور سياسي مهم واعلامي واضح، وبعد انبثاق المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق اتخذت الحركة ضد نظام صدام طابعاً أكثر وضوحاً على الصعيدين العسكري والسياسي، فعلى الصعيد العسكري تشكلت في البداية، أفواج الجهاد، ثم تطورت لتصبح فيلقاً عرف باسم (فيلق بدر)، اما في الداخل فقد تشكلت قوات المقاومة الاسلامية والجهاد، حيث نفذت عمليات كبيرة داخل العراق وكان لها صدى أكبر في مناطق الأهوار خلال الحرب العراقية – الايرانية، لكنها بعد انتفاضة شعبان عام 1991 تطورت وانتشرت داخل المدن العراقية المهمة وقامت بعمليات كبرى، منها قصف القصر الجمهوري بصواريخ الكاتيوشا ثلاثة مرات خلال عام 2000 و2001. وشيئاً فشيئاً تحول المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق بسعي وجهود رئيسه، ودعم المؤمنين لهذه الاطروحة السياسية الجهادية الى مؤسسة سياسية مهمة ومعروفة لها وزن كبير على الصعيد الدولي.
كان الهاجس الدائم لسماحة السيد الحكيم هو تحقيق السُبل الكفيلة بانقاذ الشعب العراقي من ظلم نظام صدام.. وكان هذا الهاجس واضحاً كل الوضوح في تفكير وحركة سماحته، فهو لم يغفل لحظة واحدة في بيان المأساة التي يعانيها هذا الشعب في ظل نظام صدام، وكان يرفع صوته ويبرق برسائله ومذكراته الى الامم المتحدة وأمينها العام، وملوك ورؤساء البلاد العربية والاسلامية في كل مناسبة، يطالبهم فيها باتخاذ التدابير اللازمة برفع الظلم عن الشعب العراقي. وعلى هذا الصعيد، فقد قدم أبعد حدود الدعم لتأسيس المركز الوثائقي لحقوق الانسان في العراق، وهو مركز يعتني بجمع الوثائق عن انتهاكات نظام صدام لحقوق الانسان في العراق والاستفادة منها في فضح النظام في اوساط المجتمع الدولي، كما شجع على التحرك في أروقة الامم المتحدة، وتحرك بنفسه حتى التقى بالأمين العام (خافيير بيريز ديكويلار) في عام 1992م. وشجع كذلك على ارسال الشهود والوثائق المرتبطة بالسجناء الى مؤسسات الامم المتحدة المعنية، وكذلك التحرك على منظمات حقوق الانسان في البلدان الاوربية وبعض البلدان الآسيوية
وقد أجبرت تلك الحركة وذلك الضغط الامم المتحدة على الاستجابة للاصوات المطالبة بايقاف القمع عن العراقيين وايلاء قضية الشعب العراقي ومعاناته أهمية خاصة ترجمت بشكل علني من خلال البيانات والنداءات التي أصدرتها الامم المتحدة في مواقع متعددة تتعلق بادانة انتهاكات النظام لحقوق الانسان في العراق
الشهيد بين أبناء شعبه
انعم الله تعالى على ابناء الرافدين بان انتقم لهم من الطاغوت المتجبر شر انتقام، وفسح بذلك المجال لأتباع اهل البيت (عليهم السلام) كي يأخذوا دورهم ويسعوا لإحقاق حقوقهم ونيل الاستقلال الكامل لعراق ما بعد صدام.
وبهذه الاشراقة الجديدة عزم الشهيد على العودة الى العراق للوقوف مع ابناء شعبه في محنتهم مواسياً لهم ومباركا لهم، ففي يوم الاحد 9 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 11 مايو 2003 وطأت قدما شهيدنا ارض الفيحاء بعد غياب دام قرابة الربع قرن، في رحلة تاريخية قادته الى مدينة اجداده النجف الاشرف، بعد مروره بمدينة البصرة والناصرية والسماوة والديوانية.
وكان لهذه العودة المباركة أصداء واسعة في وسائل الإعلام المختلفة على مستوى المنطقة والعالم: (عاد آية الله باقر الحكيم، زعيم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية وهو أكبر جماعة شيعية إسلامية في العراق إلى البلاد بعد 23 عاما قضاها في المنفى بايران، وسط توقعات بأنه سيكون له دور بارز في مستقبل البلاد. لدرجة دفعت البعض للقول ان و اشنطن تخشى ان تكرر عودة الحكيم السيناريو الذي حدث في ايران عام 1979 حينما عاد الخميني.
يبلغ آية الله محمد باقر الحكيم الثالثة والستين من العمر، وهو ينتمي إلى إحدى أكثر العائلات الشيعية المعروفة في العراق. وكان والده زعيما دينيا للطائفة الشيعية وتوفي 1970. وحمل ابنه هذا الإرث وانخرط في الحياة السياسية التي كانت تعارض التوجهات العلمانية لكل من حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي وبعد أن قويت شوكة حزب البعث في السلطة في العراق في السبعينيات، تعرض باقر الحكيم للسجن والتعذيب، وقُتل عدد كبير من أفراد عائلته. وبعد اندلاع الحرب مع إيران عام 1980، لجأ إلى العاصمة الإيرانية طهران، حيث أقام المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وجناحَه العسكري الذي يطلق عليه اسم كتائب بدر. وبعد انهيار نظام صدام حسين في العراق عاد باقر الحكيم إلى البلاد)). وصل الى مدينة النجف محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق وكان في استقباله عشرات الآلاف من العراقيين. وكان الحكيم (66 عاما) زار البصرة السبت والناصرية والسماوة الاحد حيث كان عشرات الآلاف في استقباله في كل محطة من محطاته.
ودعا في خطبه الى بناء « نظام اسلامي عصري ينسجم مع اساليب هذا العصر والزمان ومع التطورات الاجتماعية الموجودة في هذا
الزمان»، رافضا « حكومة مفروضة» على العراقيين. وقال الرجل الثاني في المجلس الاعلى عبد العزيز الحكيم في تصريح لوكالة «فرانس برس» في النجف ان «عودة السيد محمد باقر الحكيم هي رجوع قائد عظيم الى بلده ومدينته النجف».
الالتحاق بالرفيق الاعلى
في الثلاثين من آب 2003، صدم العالم الاسلامي بانطفاء نور من الانوار المحمدية الاصيلة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، فبعد انتهائه من صلاة الجمعة وخروجه من الصحن الحيدري الشريف تعرض موكب سماحته لعملية تفجير قام بها القتلة بواسطة سيارة مفخخة أدت الى استشهاده وتناثر اشلاء جسده الطاهر، ظناً منهم، ان المسيرة الحسينية ستنكفئ وتتهاوى، لكنهم نسوا او تناسوا ان الشهيد الحكيم حي في ضمائر وقلوب المؤمنين المخلصين، وان دمه الطاهر سيكون شعلة وضاءة يقتبس منها الاحرار.
25/5/140501
https://telegram.me/buratha