في أوقات الانتخابات، نروي الحكايات السياسية بالأرقام، بداية من نسبة الإقبال، ونصيب المتنافسين من التصويت، إلى التأرجح بين قوائم المرشحين، وهي الأمور التي تحدد في نهاية الأمر الفائز من الخاسر.
ويمنح النظام العراقي مساحة كبيرة للعمل لهؤلاء المهتمين بحساب النتائج في المجال السياسي، حيث كانت نتائج الانتخابات السابقة في العراق معقدة جدا، حتى أن تشكيل الحكومة استغرق تسعة أشهر بعدها.
وأخبرني وزير سابق أن الأمر كان بمثابة "رقم قياسي عالمي. فلم يستغرق أحد - فيما عدا البلجيكيين - وقتا أطول من ذلك، بل وكان ذلك لمرة واحدة فقط."
لكن الإحصاء الأهم في العراق ليس في الأرقام التي ستحسب خلال الأسابيع التي تعقب يوم التصويت، ولكنه إحصاء آخر سيظل عالقا في أجواء العملية السياسية، وسيدخل في كل مجالات النقاش الدائر في البلاد.
وهو بالطبع الإحصاء المتعلق بعدد القتلى في حوادث العنف الطائفي، مثل التفجيرات الانتحارية وحوادث إطلاق النار، والتي كان من الممكن أن تتصدر عناوين الأخبار الرئيسية لولا أن الوضع في سوريا المجاورة أكثر سوءا.
وقتل العام الماضي على سبيل المثال 7818 مدنيا في أعمال العنف في العراق، وهو ضعف عدد القتلى في الاشتباكات الطويلة في ايرلندا الشمالية.
كما قتل ألف شخص في فبراير/ شباط فقط من هذا العام.
وبالإضافة إلى ذلك، ترجح تقارير أن ألف شخص من القوات المسلحة، التابعة لحكومة العراق الحالية ذات القيادة الشيعية، ماتوا في مواجهة التمرد السنّي في الأنبار خلال الأشهر الأولى من العام.
صدمات شخصية
وهذه مستويات صادمة من الاحتكاك بين العراقيين. وهي لا تأتي من ساحات المعركة، بل وسط المدن، حيث تكون أهداف الانتحاريين أسواقا مزدحمة أو محطات للحافلات.
وبدأنا مهمتنا بسؤال كل شخص قابلناه أثناء تنقلنا في بغداد، عن عدد قتلى العنف السياسي الذين عرفوهم شخصيا. ورغم أننا نعلم الأرقام الرسمية، تظل القصص الشخصية صادمة دائما.
وذكر رجل، تعود ذكرياته إلى حرب العراق وإيران، أن القتلى الذين عرفهم شخصيا بلغوا 200 أو 300 شخص.
وأبلغتنا صحفية، قتل أبوها وأخوها وأختها، أن سائقها فقد صديقين الأسبوع الماضي. واعترف مذيع تلفزيوني أنه لا يعرف الحي من الميت من الأشخاص المسجلين على هاتفه.
وقال لنا جرّاح يعالج ضحايا الصدمات في قسم الطوارئ بإحدى مستشفيات بغداد، إن الأحداث خلال ما بين 10 أعوام و12 عاما تركت البلاد بأكملها في حالة صدمة نفسية.
وتعد إمكانية إجراء إنتخابات مجدية في مثل هذه الظروف الخطرة نقطة خلاف، لكن الحقيقة هي أن إجراءها أفضل من الخيار البديل وهو عدم إجرائها على الإطلاق، وهو ما سيُنظر إليه كانتصار للمتمردين في الأنبار، المرتبطين بتنظيم القاعدة، والذين يعتبرون عدوا عنيدا للديمقراطية.
شخصية خلافية
ولا توجد استطلاعات حقيقية في العراق، مما يجعل التكهن بنتيجة الانتخابات أكثر صعوبة من المعتاد.
ولكن يمكن القول إن رئيس الوزراء، نوري المالكي، الذي يسعى لفترة ثالثة في منصبه، سيكون شخصية محورية في المساومات وبناء التحالفات عقب عملية التصويت بالتأكيد.
وليس من الصعب أن يكون المرء شخصية سياسية خلافية في العراق، الذي يضم غالبية شيعية وأقليات كبيرة من السنة والكرد. كما يوجد مسيحيون ولكن أعدادهم تقلصت بفعل الهجرة.
وعلى أي حال، فالمالكي من أكثر الشخصيات الخلافية في البلاد.
ويعتقد بعض معارضيه أنه أداة لفصائل في إيران – حيث عاش فترة من عمره – بينما يعتقد كثيرون آخرون أنه مهتم بترويج مصالح الشيعة الذين ينتمي إليهم، على حساب العمل من أجل المصالحة الوطنية.
كما قاد المالكي فترة شهدت فسادا استثنائيا، مما يساعد على فهم السبب وراء أزمة الفقر في واحدة من أكبر دول العالم إنتاجا للنفط.
واستخدم المالكي أعوامه في السلطة لتعزيز قبضته حول عدد من مؤسسات الدولة من بينها الجيش والمصرف المركزي.
وسيقوم بفعل كل شيء ممكن، وكل صفقة مع منافسيه من المجموعات العرقية والدينية، للبقاء في السلطة. ولن يراهن الأذكياء ضده.
ومن أهم منافسي المالكي، إياد علاوي، الذي حصد أصواتا أكثر من رئيس الوزراء في الانتخابات الأخيرة، لكنه خسر في المناورات المخادعة التي أعقبتها.
وسيكون من المثير للاهتمام أن نرى إن كان تعلم من خبرته السابقة.
السنة والشيعة
ويحظى كل ذلك بأهمية كبرى تتجاوز حدود العراق.
فالشرق الأوسط في خضم مواجهة ملحمية بين أتباع الإسلام الشيعي المدعومين من إيران وبين العالم السني بقيادة المملكة العربية السعودية.
وفي البلدان الصغيرة، تمول هاتان القوتان الإقليميتان أحزابا سياسية وجماعات مقاتلة.
ويشكو نوري المالكي من أن الحكومة السعودية تمول مرتزقة سنة للمجيء إلى العراق ومحاربة قواته المسلحة في محافظة الأنبار.
ولكن الميليشيات الشيعية العراقية ترسل الكثير من المقاتلين إلى سوريا. كما أن مقاتلي حزب الله اللبناني ربما ينجحون في ترجيح كفة المعركة هناك لصالح نظام الرئيس بشار الأسد من خلال اشتراكهم في الحرب بتمويل من إيران.
وهذا هو الوقت الذي تكون فيه الولاءات العابرة للحدود الوطنية للشيعة والسنة في الشرق الأوسط أكثر أهمية من الهويات الوطنية في بعض البلدان – مثل العراق – التي تعود للحرب العالمية الأولى فقط.
وتمنح هذه الانتخابات العراقيين فرصة لاختيار حكومة جديدة، كما تعطي البقية منا فرصة لرؤية كيفية تكيف المزاج السياسي هنا مع تلك الرمال المتحركة في منطقة الشرق الأوسط.
19/5/140502