صوفيا ـ جورج حداد
تحول شبح الحرب الاهلية في اوكرانيا من مرحلة الخطر النظري والتوتر السياسي الى حقيقة واقعة على الارض، بعد ان اتخذت حكومة كييف الانقلابية المدعومة من الغرب قرارا باستخدام الجيش الوطني في النزاع الداخلي الناشب حول النظام السياسي في البلاد، وتحديدا حول مسألة استمرار النظام المركزي الحالي او الانتقال الى نظام فيديرالي تبعا للهوية الثقافية ـ اللغوية ـ القومية لمختلف المناطق الاوكرانية.وقد وجه الجيش لمهاجمة الاقاليم الناطقة باللغة الروسية (في شرق وجنوب البلاد) والتي تطالب بالانضمام الى روسيا بعد اجراء استفتاء شعبي عام على ذلك، او بالبقاء ضمن الكيان الاوكراني ولكن على اساس فيديرالي موسع يضمن الحقوق الثقافية ـ الاقتصادية ـ الاجتماعية والسياسية للسكان الروس والناطقين باللغة الروسية، والذين يعتبرون انفسهم ومناطقهم جزءا لا يتجزأ من روسيا، وقد جرى ضم مناطقهم الى اوكرانيا في العهد السوفياتي كتدابير ادارية لا تعطي الاهتمام الكافي للانتماء القومي للسكان، استنادا الى الوحدة السابقة للاراضي السوفياتية ووجود مواطنية سوفياتية واحدة.
ويسيطر الان انصار روسيا والفيديرالية على عشر مدن في الشرق والجنوب، حيث تجري المعارك مع الجيش الذي يحاول اقتحام تلك المدن بعد قصفها بالمدفعية والطيران وكأنها مناطق معادية. ويعلق بعض المراقبين على ذلك بالقول ان القوات الوطنية الاوكرانية، بأمر من الحكومة الانقلابية الموالية للغرب، تشن الحرب على شعبها الخاص، وكأنه "شعب عدو"، وذلك بمثابة "فاتورة سياسية" تقدمها تلك الحكومة لحلف الناتو، الذي صرح امينه العام اندرس فوغ راسموسن ان حلف الناتو الذي اوقف كل اشكال التعاون مع روسيا، ينظر الان الى روسيا بوصفها طرفا معاديا للحلف وليس شريكا. ويلاحظ هؤلاء المراقبون انه بعد ان رفض الرئيس الشرعي يانوكوفيتش في تشرين الثاني 2013 توقيع اتفاق "الشراكة" مع الاتحاد الاوروبي الذي كان يراد فرضه على اوكرانيا، وبدأت الاحتجاجات التي نظمتها الجماعات الفاشستية والموالية للغرب ضد يانوكوفيتش، فإن الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو عارضا بشدة، وهددا بالتدخل العسكري، فيما اذا قامت حكومة يانوكوفيتش باستخدام الجيش ضد المحتجين، بل وعارضا ان يقوم رجال الميليشيا (الشرطة) باستخدام السلاح الناري دفاعا عن انفسهم، حتى حينما قام القناصة الفاشست بقتل العشرات منهم في كييف، ثم قام الفاشست باقتحام البرلمان بقوة السلاح وفرض ارادتهم على النواب. وهو ما اضطر حكومة يانوكوفيتش الى تقديم الاستقالة، ثم اضطر يانوكوفيتش نفسه الى الانتقال الى روسيا حفاظا على حياته.
اما الان فإن كاترين أشتون مفوضة الخارجية في الاتحاد الاوروبي لا تخجل من اعلان الدعم الكامل لاستخدام الجيش الوطني الاوكراني ضد قطاع واسع من شعبه وضد مدن ومناطق بأكملها، من ضمن اعتبار راسموسن لروسيا طرفا معاديا. وتطالب أشتون وراسموسن وغيرهما من مسؤولي الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو، وطبعا بالاضافة الى وزير الخارجية الاميركية جون كيري ورئيسه باراك اوباما، يطالبون روسيا "بالتعاون" لنزع سلاح انصار الفيديرالية في اوكرانيا وتسليم انفسهم لسلطات كييف الانقلابية. ويفسر المراقبون المحايدون هذا الموقف الغربي المتشدد بأنه يكشف تماما عن النوايا المبيتة لاميركا وحلف الناتو بتحويل اوكرانيا الى قاعدة عسكرية معادية لروسيا. واذا فشل هذا المخطط، فاستبداله بمخطط تهجير عشرات الملايين من سكان اوكرانيا، الروس والناطقين باللغة الروسية والمعارضين لسياسة تحويل اوكرانيا الى قاعدة غربية معادية لروسيا. ويذكر ان رئيسة الوزراء السابقة المعارضة ليانوكوفيتش يوليا تيموشنكو كانت قد ادلت في اعقاب استقلال القرم وانضمامها الى روسيا بتصريحات عنصرية عنيفة ضد الروس داعية الى طردهم وضربهم حتى بالقنبلة الذرية.
وفي اعقاب اجتماع لوزراء الخارجية لمجلس اوروبا صرح وزير الخارجية الروسي سيرغيي لافروف انه ينبغي على السلطة القائمة في كييف ان تسحب الجيش وان تلغي الامر الصادر باستخدامه ضد شعبه. وذكـّر لافروف ان البيان الذي صدر عن الاجتماع الرباعي (روسيا، اميركا، الاتحاد الاوروبي، حكومة كييف) في جنيف، لبحث الوضع في اوكرانيا، قد دعا الى "عدم استخدام اي شكل من العنف".
اما وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ، الذي شارك ايضا في اجتماع "مجلس اوروبا" في فيينا فقد تغاضى تماما عن حالة الحرب الحقيقية التي تسيطر الان على اوكرانيا، واتهم روسيا بأنها تحاول عرقلة الانتخابات الرئاسية المخطط اجراؤها في اوكرانيا في 25 ايار الجاري. كما ان الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند وجه تهديدا مبطنا بالقول انه اذا لم تجر الانتخابات الرئاسية فإن اوكرانيا ستغرق في الفوضى.
اما رئيس المجلس الاوروبي هرمان فان رومبوي فاستبعد امكانية التدخل العسكري للاتحاد الاوروبي لحل الازمة الاوكرانية.
مواجهات في أوكرانيا
هذا وتستمر الاشتباكات في شرق وجنوب اوكرانيا بين قوات الجيش والمتظاهرين المؤيدين لروسيا وللفيديرالية. واعلن وزير الداخلية في الحكومة الانقلابية انه سقط 30 قتيلا من المتظاهرين و4 قتلى من الجيش. وفي مدينة سلافيانسك في مقاطعة دونيتسك تم رفع المتاريس، وسقط 20 قتيلا على الاقل، بينهم عدد من غير المسلحين. وتقوم الوحدات الخاصة من الجيش الاوكراني والاليات الثقيلة بمحاصرة سلافيانسك. واقام الجنود نقطة تفتيش للتدقيق في اوراق العابرين. والغيت " موقتا" جميع رحلات الطيران من والى مدينة دونيتسك. وفي مدينة اوديسا على البحر الاسود اعلنت مديرية الشرطة انه تم التعرف الى هوية 38 شخصا من قتلى الاشتباكات التي وقعت في المدينة في 2 ايار الجاري والتي قام فيها الفاشستيون مما يسمى "القطاع الايمن" باضرام النار في مبنى النقابات الذي احتمى فيه مئات المتظاهرين، وسقط في الحريق حوالى 50 شخصا حسب رواية كييف، واكثر من 120 قتيلا ومائتي مصاب حسب روايات عديدة لشهود عيان. وهناك 48 شخصا لا يزالون في عداد المفقودين. وفي الوقت الذي كان يجري فيه تشييع ضحايا كارثة 2 ايار في اوديسا، قام المتظاهرون انصار روسيا والفيديرالية باقتحام مقر الشرطة في المدينة وحرروا جميع الموقوفين في 2 ايار. وامام هول الكارثة اضطر رئيس الوزراء الانقلابي الى اقالة كل قيادة الشرطة في اوديسا متهما اياها بالتقصير في تجنب وقوع الكارثة. كما اضطر السكرتير الصحفي للبيت الابيض جاي كارني لدعوة سلطات كييف للتحقيق في كارثة اوديسا. وادعى وزير الداخلية الانقلابي انه سيجري تحقيقا في الاحداث يشارك فيه خبراء دوليون. وفي الاجتماع الاخير الذي عقده ممثلو الدول الـ28 الاعضاء في الاتحاد الاوروبي في بروكسل، لم يتم التوصل الى اتفاق حول فرض العقوبات على روسيا. وقالت وكالة ايتار ـ تاس ان اليونان، قبرص، بلغاريا، هنغاريا، لوكسمبورغ، النمسا، اسبانيا، البرتغال ومالطا رفضت فرض العقوبات على روسيا.
ودعت روسيا سلطة كييف الانقلابية الى الجلوس الى طاولة المفاوضات لحل النزاع سلميا، وحذرت من وقوع كارثة انسانية في بعض المدن المحاصرة من قبل الجيش الاوكراني. وفي منتدى مكرس لاجل الحوار في البلقان، عقد في بلغراد عاصمة صربيا، صرح سيرغيي ناريشكين رئيس البرلمان الروسي ان ما يجري في اوكرانيا هو ابادة عنصرية. وقد دعت المانيا رعاياها لمغادرة اوكرانيا، وصرح وزير الخارجية فرانك ـ وولتر شتاينماير في مقابلة صحفية "ان اوكرانيا تقترب من انفجار الحرب".
وعلى اثر احداث اوديسا اعلنت قيادة "جمهورية دونيتسك الشعبية" عن الشروع في بناء قواتها المسلحة. وللحال تسجل كمتطوعين حوالى 1000 شخص من اجل الانتساب الى اول فوج. واعلن ان محافظ المدينة الكسندر لوكانتشينكو قدم استقالته وسلم مفاتيح المحافظة الى انصار روسيا والفيديرالية. وفيما بعد جرى نفي انباء الاستقالة.
وادعى الرئيس الموقت الانقلابي الكسندر تورتشينوف ان انصار روسيا والفيديرالية الذين يسميهم "الارهابيين" سيقومون بأعمال تخريبية في 9 ايار (عيد النصر على الفاشية) في مختلف انحاء اوكرانيا بما في ذلك في كييف، وذلك بهدف اسقاط السلطة. وقال انه "يجري خوض حرب ضدنا، ونحن نستعد" مبررا نشر نقاط التفتيش على مداخل المدينة. وادعى تورتشينوف ان ما سماه "الاستفزازات" التي تجري في شرق البلاد انما تتم بواسطة الاموال والقوى التابعة لسلفه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش.
واعلن الكرملين انه في 7 ايار الجاري وصل الرئيس السويسري ديدييه بوركهالتر، بصفته رئيسا لمنظمة الامن والتعاون في اوروبا، الى موسكو للبحث في مضاعفات الازمة الاوكرانية، واجتمع لهذه الغاية مع الرئيس بوتين. وفي مؤتمر صحافي مشترك للرئيسين اعلن الرئيس السويسري ان لا حل في اوكرانيا سوى الحل السياسي. وتقدم الرئيس بوتين باقتراح مفتوح الى انصار الفيديرالية في شرق وجنوب اوكرانيا بتأجيل موعد الاستفتاء الذي كان مقررا اجراؤه في 11 ايار الجاري من اجل اتاحة الفرصة للمفاوضات مع سلطة كييف، ودعا هذه السلطة الى سحب الجيش ووقف العدوان على فئة كبرى من الشعب الاوكراني والى الجلوس الى طاولة المفاوضات مع خصومها السياسيين، وقال ان روسيا تدعم التوصل الى الحل الذي يضمن الحقوق القومية والثقافية والاجتماعية لجميع مكونات الشعب الاوكراني.
وأجرت المستشارة الالمانية انجيلا ميركيل محادثة هاتفية مع بوتين عبرت فيها عن شكر المانيا للدور الذي اضطلعت به روسيا في التوسط للافراج عن المراقبين العسكريين وبينهم المان، التابعين لمنظمة الامن والتعاون الاوروبية الذين كانوا محتجزين في دونيتسك.
ونشر على الموقع الالكتروني الرسمي للبرلمان الاوكراني انه قد طرح على جدول اعمال البرلمان مشروع قانون من اجل اجراء استفتاء شعبي عام في اوكرانيا. وعلى البرلمان ان يقرر فيما اذا كان الاستفتاء سيكون حول تطبيق مبدأ الفيديرالية الكامل في اوكرانيا بما في ذلك حق اي مقاطعة معنية بالبقاء ضمن الكيان الاوكراني او الانضمام الى روسيا، او انه ـ اي الاستفتاء ـ يكون بمثابة استطلاع لتوجهات الرأي العام في البلاد عامة وفي كل مقاطعة على حدة حول طبيعة النظام السياسي الفيديرالي او المركزي في اوكرانيا. ومعلوم ان سلطات كييف الانقلابية لا تزال تصر على اجراء الانتخابات الرئاسية في 25 ايار الجاري بناءً على النظام المركزي. ويعتبر طرح مشروع القانون الجديد بمثابة خطوة نحو التسوية. ولكن بعض المراقبين يعتبرون ان هذا الطرح لا يعدو كونه دعاية تضليلية للتغطية على الحملة العسكرية الوحشية التي تشنها القوات النظامية وقوات الشرطة الرسمية والمجموعات الفاشستية ضد انصار روسيا والفيديرالية في شرق وجنوب اوكرانيا.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha