إن التطور الذي تشهده العلاقات التركية- الإسرائيلية لم يكن نتاجاً مفاجئاً بل استند إلى محطات تاريخية عديدة، أسهمت بمجموعها في تحقيق انتقالة نوعية في العلاقات توجت بالاتفاق الأمني- العسكري في 23 شباط 1996 والاتفاقات اللاحقة بهذا الشأن. حيث ترجع مصادر مطلعة تزايد التعاون العسكري بينهما، نتيجةً للاتفاق السرّي الذي وقَّعته رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر، وقضى بتبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل، وتنسيق الجهود ضد الإرهاب العام 1994. مما فتح الباب على 16 اتفاقية للتعاون في المجال العسكري، وقد جرى توقيع بعضها في عهد حكومة حزب الرفاه بقيادة آربكان. وتفيد المعلومات الصادرة عن وزير الدفاع التركي بأن هذه الاتفاقات تتضمَّن أيضًا برامج تدريب وتعاون مشترك تشمل القوات البرية والبحرية والجوية وتبادل الخبرات العسكرية بين البلدين، بما يتضمنه ذلك من إجراء مناورات عسكرية، ومناورات جوية، واستخدام موانئ البلدين. باعتبار أن تركيا وإسرائيل معنيتان داخلياً وإقليمياً ودولياً بالشؤون والمعطيات القائمة والمستقبلية في المنطقة.
هذا ما عبرت عنه صحيفة "ها آرتس" الإسرائيلية بقولها: "إن الذي يحدث هو ببساطة إعادة انتشار استراتجية مهمة في الشرق الأوسط، ويندرج في إطار استراتيجية إسرائيل التقليدية الرامية إلى بناء علاقات متطورة مع دول متاخمة لأعدائها المجاورين".
الخبير الإسرائيلي (يحزقال) أحد مخططي السياسة الإسرائيلية أكد في كتابه "استراتيجية عظمى لإسرائيل" أن التحالف بين تركيا وإسرائيل يمثل ضمانة أكيدة لمنع بروز أي قوة عربية مناهضة لمصالح إسرائيل في المستقبل، وتلتقي هذه الأهداف في الوقت نفسه مع رغبات تركيا في مجال تحولها إلى قوة إقليمية مؤثرة في المنطقة.
وضمن هذا السياق تم تشكيل "المنتدى الأمني للحوار الإستراتيجي" بين تركيا وإسرائيل الذي يدعو إلى إقامة آلية مشتركة لرصد الأخطار التي تهددهما وتحديد سبل مواجهتها، ويتضمن ذلك تبادل المعلومات الأمنية والإستراتيجية التي تحصل عليها الأجهزة الأمنية التركية والإسرائيلية في القضايا الإقليمية.
وكشفت مؤخراً تسريبات تقارير إستخبارية جديدة في الصحف التركية، عن تعاون أردوغان وأعضاء حزبه مع اللوبي الصهيوني، من أجل إعادة رسم خريطة للشرق الأوسط الجديد وتقسيمه إلى دويلات تبنى على أساس طائفي بما يخدم المشروع الصهيو-أميركي في المنطقة. الأمر الذي أكده الكاتب" ناسوهي كونكور" في كتابه:" أن "تشوبك بيير" عقد عدة لقاءات مع أرودغان أثناء عمله كرئيس لبلدية إسطنبول كان أخرها في الجمعية اليهودية الامريكية. حيث قال: "أن وصول حزب أردوغان إلى السلطة في تركيا ليس إلا إجراء يصب في صالح المشاريع الصهيو-أمركية. "
وذكرت الصحيفة التركية (أيدي لينك):" أن أرودغان خلال سفره إلى واشنطن عام 2004 حصل على جائزة الشجاعة من جمعية العلاقات الأمريكية اليهودية، ولهذه الجمعية علاقات جيدة مع مركز (جينسا) الذي يعد حلقة الوصل بين وزارة الدفاع الامريكية واسرائيل."
فعداوة أردوغان لإسرائيل لا تتعدى المظاهر الشكلية التي تخدم مشروعهما المشترك في المنطقة مستغلين في ذلك العاطفة العربية تجاه القضية الفلسطينية. وتجسد ذلك في هجوم أرودغان الشديد على اسرائيل التي هاجمت سفينة مرمرة لفك حصار غزة مما أسفر عن مقتل 6 أتراك. حيث قالت صحيفة "أيدي لينك": "يعتقد الكثير من المحللين أن أرودغان قام بتمثيل مسرحية إعلامية أراد بها كسب ثقة شعوب المنطقة المعادية لأمريكا واسرائيل، الذين يعتبرون أن من يعادي هؤلاء هو بطل ومقاوم".
في الوقت نفسه كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية:" أنه في الوقت الذي كان يطلق فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تصريحات عدائية ضد إسرائيل خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، والتي بدأت في يوليو (تموز) 2014، كانت أنقرة تستورد مواد بترولية من إسرائيل، وأن "معامل تكرير البترول في ميناء حيفا، حملت مواد بترولية على سفن تركية بما يعادل 1,5 مليار دولار، الأمر الذي أنعش الاقتصاد الإسرائيلي".
وبالتالي فإن العلاقات المتأزمة بين تل أبيب-أنقرة والمستمرة منذ 6 سنوات، تأتي ضمن البروباغندا الإعلامية من قبل اردوغان الذي يعرف كيف يستغل الحدث الفلسطيني لتسجيل نقطة سياسية لصالحه ضمن الشارع العربي. ومن هنا نفهم لماذا وضعت أنقرة إنهاء الحصار على غزة شرط اساسي للمصالحة مع إسرائيل.
فقد تناقلت مؤخراً معلومات سياسية :" أن محادثات جرت بين الطرفين على مستوى المدير العام لوزارة الخارجية. أفضىت إلى تفاھمات حول موضوع إنهاء الحصار على قطاع غزة، وفتح المعابر وإيقاف إطلاق النار بين الجانبين. مع إمكانية بناء مطار في غزة وفتح معبر بحري إلى ميناء في شمال قبرص تسيطر عليه تركيا، تجري فيه الفحوصات الأمنية بمشاركة إسرائيلية. وبذلك سيضطر تجار غزة إلى إرسال بضائعهم إلى قبرص أولاً، ومن ھناك إلى ميناء تركي ومنه إلى موانئ العالم، الأمر الذي سيضمن لأسطنبول السيطرة على التجارة البحرية مع غزة.
في المقابل تتوقف حماس عن حفر الأنفاق على الحدود، وعن إطلاق الصواريخ، وقبول تهدئة بين الجانبين تمتد لـ 8 سنوات على الأقل. هذا الاتفاق أتى على خلفية لقاء مغلق بين خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس والرئيس التركي رجب طيب أردوغان نوقشت خلاله قضية التهدئة كما ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الاسرائيلية. كما ان حماس ما زالت تتحفظ على اتفاقيات اسرائيلية تركية تتناقض مع ثوابتها .
في حين وصفت بعض الفصائل الفلسطينية هذا الاتفاق:" بأنه خروج عن الإجماع الوطني والشرعية الفلسطينية، من دون الاكتراث إلى كون المخطط الإسرائيلي سيقود إلى تصفية القضية الفلسطينية، وخلق مركزين قياديين في الساحة الفلسطينية، الأول في غزة، تمثله حركة حماس والثاني يقوده الرئيس محمود عباس في الضفة. كما أنه سيكرس الانقسام الفلسطيني، ويمهد لتشجيع اسرائيل على تنفيذ خطة الفصل المدرجة بين الضفة والقطاع".
ومتابعة للحملة الاعلامية لبناء دور تركي وترويج هذا الدور في المنطقة ليكون مدخلا الى الشارع العربي، يأتي اتصال أردوغان بـ محمود عباس، استنكاراً لاقتحام الشرطة الإسرائيلية مؤخراً المسجد الأقصى واعتدائها على الموجودين فيه، ولجوئها إلى القوة لمنع المسلمين من دخوله. في حين لا يخفى على أحد ان أنقرة استضافت في رمضان الفائت الحاخام اليهودي المتطرف "يهودا غليك" الذي يعتبر اكثر الشخصيات الداعية لهدم الاقصى واقامة ما يسمى الهيكل، حيث شارك في إفطار رمضاني بعنوان "الإسلام ضد العنف".
ومن يدقق في مسيرة العلاقات التركية الاسرائيلية خلال السنوات الماضية، سيكتشف أنه لم يكن هناك ازمة بالمعنى الحقيقي، وانما كانت ازمة اعلامية سياسية دبلوماسية وهي ازمة كانت مدروسة على الصعيد التركي، لتقديم نفسها كلاعب بارز في قضايا المنطقة الاقليمية، وخصوصاً في الحرب على الارهاب الذي ضرب أكثر من مدينة تركية مؤخراً. الأمر الذي استدعى شرطة مكافحة الشغب في اسطنبول للقيام بعملية واسعة النطاق في احياء المدينة، استهدفت اوساط اليسار المتشدد المتمثل بـ "جبهة حزب التحرير الشعبي الثوري".
أعمال العنف هذه جاءت نتيجة لتكثيف أنقرة الحملة الجوية على عناصر "الكردستاني" في تركيا وشمال العراق، متزامناً مع نشر الولايات المتحدة طائرات "أف 16 في قاعدة أنجيرليك لمحاربة تنظيم "داعش". التي هددت أنقرة عبر تسجيل نشره "المكتب الإعلامي لولاية الرقة" لأحد مقاتلي "داعش" باللغة التركية. اتهم أردوغان بأنه "باع البلاد للصليبيين ولحزب العمال الكردستاني الملحد".
لكن حرب أردوغان على "داعش" لم تقنع واشنطن بالاضافة إلى عدة دول أوروبية التي أعلنت ""أنها لا تثق جدياً بحرب أردوغان على داعش ". فبرأيها :" الكلام على "داعش" لكن الفعل على الأكراد". المدعومين من واشنطن حيث تدعم قوات الحماية الكردية السورية PKK في مواجهة داعش، لكن دون مواكبتهم في بناء مشروعهم السياسي حتّى لا تغضب تركيا.
هذا التخوف من الحركات التكفيرية الأصولية جعل حليفتها اسرائيل تكثف مناوراتها العسكرية التي وصفت بالغير مسبوقة على حدودها الشمالية، الأمر الذي دفع نتنياھو في ختام الجولة الميدانية لمنطقة الحدود مع لبنان أن يعلن:"أن إسرائيل تراقب حدودھا، وستضرب أي طرف يهدد أمنها".
في حين يرى محللون إسرائيليون (إسرائيل ھيوم"): "أن إيران وحزب الله ليسا معنيين بتصعيد كبير على الحدود الشمالية. في المقابل يجب على إسرائيل ألا تقبل بتحول ھضبة الجولان الى جبهة مواجهة ناشطة، حتى مع عدم وجود رغبة في تصعيد لدى مختلف الأطراف، ولكن لا شي يمنع من فقدان السيطرة على الوضع".
هذه التحركات ترافقت مع حديث اسرائيلي عن زوال الخطر العربي مقابل صعود الخطر الديني الاصولي كمؤشر لمرحلة جديدة. وذلك يعني ان المواجهات العسكرية المقبلة لن تكون جبهوية بين جيوش نظامية بل مواجهات ضد تنظيمات إرهابية ليست دولاً، تتغلغل وسط السكان المدنيين وتحول الجبهة الداخلية الإسرائيلية الى هدف أساسي لهجماتها المشروعة.
لقد وضع العسكر في إسرائيل اصبعهم على المتغير الأساسي في المنطقة في حديثهم عن انهيار الدولة القومية العربية وتبدل الخطر على إسرائيل من خطر قومي عربي الى خطر مذھبي ديني محلي. فمنذ قيام دولة إسرائيل سعى زعماؤھا الى تفكيك العالم العربي من خلال إقامة حلف للأقليات لم ينجح وقتها. لكن اليوم فقد تغير الوضع . لقد ساهمت تركيا وبشكل كبير في صعود نجم "داعش" من خلال السماح للمنضويين تحت لوائه بالعبور عبر أراضيها وتقديم الأسلحة والعتاد له . يستطيع الحليفان التركي والاسرائيلي دفع منطقة الشرق الأوسط إلى الاعتقاد أن الحل الوحيد هو في سايكس-بيكو جديدة قائم على دويلات للاقليات ذات أساس طائفي وكل ذلك يصب في المصلحة الاسرائيلية.
في النهاية نرى أن العلاقات التركية الإسرائيلية خلال هذه السنوات الماضية بقيت جيدة للغاية. لكن ضمن أطر سرية وأمنية عالية المستوى، وضمن التحالف الاستراتيجي بينهما بما يخدم مصالح الدولتين في المنطقة تحقيقاً للمشروع الصهيو-أميركي، الذي يضمن تفوق إسرائيل العسكري واحتكارها للسلاح النووي كرادع استراتيجي تفرزه توازنات إقليمية وترتيبات أمنية جديدة نتيجة للصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط سعياً في الحفاظ على المصالح الأمريكية الاسرائلية وديمومتها. لكن جبهة المقاومة والممانعة المدعومة من ايران خلقت معادلة قوة جديدة لا تستطيع إسرائيل وتركيا تجاهلها .
موقع العهد الأخباري
https://telegram.me/buratha