عمر الناصر / كاتب وباحث سياسي ||
كل شيء في عالمنا قد اختلف ولم نعد نميّز الخيط الابيض من الاسود من الحقيقة والخيال، كما اننا لم نعد نعرف النطيحة من المتردية لان كل اسس البنية المجتمعية قد تغيرت ولم يعد هنالك شيء ثابت تستند اليه قوانين الانسانية ، فطبيعة القناعات عادة ماتكون في ارتفاع وانخفاض تعتمد على النسبة المئوية لنضوج الافكار التي اصبح الكثير منها مثار جدل حقيقي لايوائم ولايتلائم مع طبيعة العادات والتقاليد المجتمعية، فأصبحنا منقسمين على انفسنا ونجد الكثير منا يؤمن بالتجديد لكنه لايمتلك الادوات بينما يفضل الاخر البقاء على نفس الايدلوجيات الكلاسيكية المستهلكة التي ما انزل الله بها من سلطان وهو يمتلك جزء كبير من الامكانيات.
بدأ الكل يعي أن جذور الاحباط وخيبة الامل بدأت تمتد الى داخل اعماق النفس البشرية حتى بدأ الفقر والجوع يأخذ نصيباً من تلك المشكلة لان المعادلة فيها طردية، فكلما كان هنالك تقصير او فشل في مفصل ما كلما طفت الى السطح ظواهر دخيلة مستهجنة تتوقف بسببها ادمغتنا عن العمل لانها لم تعد تحتمل صدمات اضافية ..
شابة في العقد الثاني من العمر اقتربت من سيارتي وعيون اغلب اصحاب السيارات تتجه اليها، مابين هورن ومعاكسات وانا اقف بانتظار اشارة رجل المرور ان يسمح لنا بالسير ، كانت ترتدي ملابس انيقة مختلفة جداً بقية المتسولات ولا تصلح اطلاقاً لهذه المهنة تضع ميك اب خفيف لكنه واضح وكأنها تريد ان تثبت بأنها لم تكن تحتاج النزول الى الشارع لكنها أجبرت على ذلك لظرف ما، متسولة ذات حواجب تاتو جميلة بيضاء البشرة تخطف الانظار ليست ككل المتسولات اللواتي يمتهن هذه المهنة ولا اعتقد بأنها محترفة في التسوّل لان علامات الخجل والارتباك باتت عليها واضحة ويبدو انها حديثة على هذه المهمة ولم تسقط قطرة ماء الوجه من جبينها بعد.
كنت اظن انها تود سؤالي عن سيارة اجرة او انها تريدني ان ارشدها لمكان معين الا انني تفاجأت عندما سألتني فقالت ( الله يخلي اولادك ما عندي اكل !! ) ..
وقعت تلك الكلمات كالصاعقة وبدأت بامتصاص الصدمة حينها وبقيت لثواني احاول ان اهضم ما قالته لي لكوني ظننت في بادئ الامر بأنها ستسألني عن عنوان تريد الذهاب اليه او ان استقلها لمنطقة اخرى ولم اكن اعلم بأنها ستسألني هذا السؤال الصاعق الذي جعلني بعدها مندهش لبضعة ثواني صامت قبل ان ابدأ بالاجابة!
وتكررت الحالة يوم امس ورأيت فتاتين لهما نفس المواصفات بمناطق اخرى من العاصمة حينها ادركت ان الوضع الان اصبح مختلف ولم يكن ذلك عفوياً او غير ممنهج وعلى ما يبدو ان القائمين على هذه المهمة اصبحت لديهم مبادئ ومتبنيات متطورة وبدأوا يؤمنون بالحداثة والانفتاح واعادة تقييم اخطائهم السابقة التي مرت بهم والتي قد تكون ادت الى تراجع حقيقي في مستوى كسبهم الارباح وتحقيق المنجزات، بل يبدو ان هذه الطبقة لم تعد تؤمن بالنمطية التقليدية التي لا تتلائم مع مستواها في الديموقراطية الحديثة لاعتقادهم ان اادخال اي تغيير في الشكل او المضمون لم يعد سُبة او مثلبة بحق هذه الفئة من المجتمع .
فادرك حينها يبدو ان مهنة التسوّل بدأت تدخل اليها مفاهيم وشروط جديدة قبل الاقبال على تقديم طلب الانتماء وقد يكون قريباً لها معايير وذوق واخلاقيات تحدد طبيعة سلوكياتها تجاه الاخرين ولا استبعد ان يكون لها في المستقبل نظاماً داخلياً تلتزم به لتحافظ على جودة وسمعة هذه المهنة من الدخلاء والطارئين، في وقت مازالت بعض القوى السياسية تأن من وجع التخوين واقصاء الاخر ولم تصل لمرحلة الايمان الحقيقي والمطلق بأعادة التأهيل والمراجعة او التجديد من اجل استعادة جزء من ثقة الشعب المفقودة بهم والانتقال الى لون جديد من فصول التغيير .
انتهى ….
خارج النص/ الوصول الى تفكير المواطن يؤدي الى ماتفكر به معدته !؟