الحزن يضر بالقلب والبكاء ينقذه قولهم في منع البكاء على الميت مطلقاً موقف الرسول من البكاء على الميت قولهم في أن النياحة من عمل الجاهلية مشروعية البكاء على سيد الشهداء عليه السلام البكاء على الحسين من سنة الرسول صلى الله عليه واله البكاء على الحسين عليه السلام عند الأئمة الأنبياء يواسون الحسين عليه السلام بكاء الكون بأجمعه على الإمام الإشكال على تكرار البكاء على الحسين عليه السلام مصيبة كلّ بقدره ثواب البكاء على مصيبة الحسين عليه السلام البكاء يجلي القلب وينير الدرب ( بقلم: السيد حسن الهاشمي )
توطئةيقول السلفيون في كتبهم أن ما يذكر عن فضل البكاء في عاشوراء غير صحيح، إنما النياحة واللطم أمر من أمور الجاهلية التي نهى النبي (صلى الله عليه واله) عنها وأمر باجتنابها وليس هذا منطق أموي حتى يقف الشيعة منه موقف العداء، بل هو منطق أهل البيت رضوان الله عليهم وهو مروي عنهم عند الشيعة كما هو مروي عنهم أيضا عند أهـل السنة، فقد روى ابن بابويه القمي في ( من لا يحضره الفقيه ) أن رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: النياحة من عمل الجاهلية. قبل الخوض في المطارحات مع الفكر السلفي بشأن البكاء مطلقاً، ولكي يتخذ البحث منحاً علمياً، أضع على طاولة النقاش عدة مواضيع لعلها تفي بالغرض الذي دفعنا لتناول هذا الموضوع الخطير الذي يمس واحدة من أهم العقائد في المذهب الإمامي ألا وهي الإمامة وما يتمخض عنها في أدبياتهم من التولي لأهل البيت والتبري من أعدائهم، وليس البكاء على الإمام الحسين بمعزل عن هذا الأصل الأصيل، خصوصاً إذا أذعنا أنه يصب في مجرى المودة في القربى التي هي ميزان عمل المؤمن بنص القرآن الكريم، والمطارحة مع السلفيين بلغت أوجها حينما صبوا جام كيدهم على الشعائر الحسينية لاسيما إظهار الحزن والبكاء والتفجع لمأساة الطف ووصمهم إياها بالبدعة والخرافة، في حين أن الأنبياء والرسول قد تلوّعوا منها وجعلوها جذوة يقتبس منها الأحرار معاني الإنعتاق من كل أنواع الظلم.
قال الشيخ الأميني ( رحمه الله ): رزية أبكت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم طيلة حياته، وأبكت أمهات المؤمنين والصحابـة الأولين ونغصت عيش رسول الله فتراه صلى الله عليه وآله وسلم تارة يأخـذ حسيناً ويضمّه إلى صدره ويخرجه إلى صحابته كاسف البال وينعاهم بقتله، وأخرى يأخذ تربته بيده ويشمّها ويقبلها ويأتي بها إلى المسجـد مجتمع أصحابـه وعينـاه تفيضان، ويقيم مأتماً وراء مأتم في بيوت أمهات المؤمنين. وذلك كله قبل وقوع تلك الرزية الفادحة فكيف به صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك، فحقيق على كل من استن بسنته صلى الله عليه وآله وسلم صدقاً أن يبكي على ريحانته جيلاً بعد جيل، وفينة بعد فينة مدى الدهر. ( سيرتنا وسنتنا للشيخ الأميني ).
وقبل الخوض في صلب الموضوع أرى لزاماً علي أن أتناول الحزن ومدى تأثيره على القلب وكيف أن الدموع التي تهطل من الإنسان تطفئ أوار التصدع الذي قد يلتهم القلب على حين غرة، ومن الطبيعي أن أعرج بعدئذ على إشكال القوم على الشيعة فيما يخص البكاء بشكل عام وعلى سيد الشهداء عليه السلام بشكل خاص وهو نقطة الارتكاز ومربط الفرس في تناولهم الإشكال بوجه العموم الذي يمكن حصر الإجابة عليه في عدة محاور: الحزن يضر بالقلب والبكاء ينقذهقد ينطوي القلب على تراكمات الحياة الصاخبة من مصائب وحزن وابتلاءات، التي لا علاج لها سوى الترويح عن النفس، والبكاء من أبرز مصاديقه، لأنه مهم بقدر أهمية الرقاد، وطالما حمل بين جوانحه بلاسم، إن صح يصح رقادنا، فلابد لنا من زيارات متكررة لدهاليز البكاء، نكتشف بعض أسراره التي لم يفضها العلم إلاّ حديثاً، ونلتمس العافية في هذا العالم الذي نهطل عليه دموعنا بين الفينة والأخرى.قال الدكتور فخري العكور أخصائي أمراض القلب إن الكثير من الدراسات الطبية أظهرت أن كثرة الهموم والأحزان تصيب قلب الإنسان بالاعتلال والمرض، فمن المعروف إن حياتنا العصرية أصبحت مليئة بالتوتر النفسي والضغوط العاطفية المختلفة سواء في أجواء الأسرة أو العمل أو بسبب تفاعلات الإنسان مع ما يحدث حوله من أحداث وحروب ومآس بشرية والتي أصبح يشاهدها مباشرة من على شاشة التلفاز من خلال مئات القنوات الفضائية العالمية.وأكد أن جسم الإنسان يتفاعل بردود فعل مختلفة على هذه التوترات حيث يشارك فيها الجهاز العصبي المركزي ومجموعة الغدد الصماء والتي تقوم بإفراز كثير من الهرمونات والمواد الكيمياوية مثل هرمون الأدرينالين الذي يعمل على رفع الضغط الشرياني وزيادة في تسارع دقات القلب مما يؤثر سلبا على المريض المصاب بتصلب الشرايين والذبحة الصدرية وارتفاع الضغط.وأوضح أن التوتر العصبي والنفسي يؤدي إلى قيام الغدد الكظرية «الفوق كلوية» بإفراز هرمون الكورتيزول الذي يعمل على زيادة تخزين الشحوم في جسم الإنسان مما يزيد الخطر على القلب والشرايين كما تحدث التوترات العصبية اضطرابا شديدا في عمل الغدد الصماء الأخرى مثل غدة البنكرياس والغدة الدرقية، مما يؤدي إلى اضطراب بنسبة السكر في الدم والى خلل في تبادل المواد المسمى «المثيابولتيرم» والى احتباس الصوديوم والماء في جسم الإنسان.وحسب العكور فان الدراسات تقول إن كبت الإنسان لمشاعره السلبية يزيد من مخاطر هذه الانفعالات وبالتالي فان الأطباء ينصحون بتفريغ هذه الشحنات الخطرة ويدعون إلى التخلص منها بشتى الطرق كالبقاء والتحدث إلى الأقرباء والأصدقاء وعن طريق اللجوء إلى الصلاة والرياضة والمطالعة.وتقول الدراسات انه عند البكاء يقوم جسم الإنسان بإفراز مواد هرمونية تعمل على تهدئة الأعصاب وخفض مستوى الضغط الشرياني وتسارع دقات القلب.ويحاول كثير من الرجال تجنب البكاء في المناسبات الحزينة في محاولة لإظهار الصلابة والرجولة بالرغم من الراحة الكبيرة التي كانوا سيحصلون عليها لو فعلوا ذلك.(جريدة الوفاق، السنة التاسعة، العدد2538، الاثنين۲۹/جمادى الأولى/ 14۲۷هـ - ۲6 /6/۲۰۰6م)ولأهمية البكاء في تفريغ الشحنات لئلا تصيب جوارح الإنسان بالهزال والعطب، أظهرت دراسة طريفة أجراها الدكتور (ويليام اتسن فري) بمركز أبحاث العيون والدموع في (سانت بول رامس) الطبي أن البكاء مفيد لصحتنا النفسية والعاطفية، وأنه من الخطأ أن نكبت رغبتنا في البكاء اذا واجهتنا ظروف تستدعي ذلك.
يقول د. فري ان الدموع تقوم بالفعل بتنظيف أعيننا، وتلعب دورا حيويا ومهما في التخفيف من التوتر النفسي الذي يمكن ان يتسبب في تفاقم بعض الأمراض مثل قرحة المعدة، وارتفاع ضغط الدم، والتهاب غشاء القولون المخاطي. وربط الدكتور فري بين التوتر والبكاء عن طريق تحليل آلاف من قطرات الدموع، واكتشف أن الدموع تحتوي على هرمونات تنتجها أجسامنا حينما نخضع للتوتر النفسي، لذلك فعندما نبكي فإن هرمونات التوتر تزول، وبالتالي نشعر بالتحسن.
ومن المعروف أن المرأة تبكي أربعة أضعاف الرجل، ويرجع سبب ذلك إلى أن المرأة لديها غدد دمعية أكبر حجما من الرجل. والأهم من ذلك قول الدكتور فري أن عامل التكيف الحضاري موجود، فلا يزال من المقبول أن تظهر المرأة عواطفها أو تبكي، بينما يتعلم الأولاد منذ سن مبكرة أن البكاء يعني فقدان السيطرة على النفس، وأنه عيب بالنسبة للرجل، فينمو الطفل وهو قادر تدريجيا على فصل نفسه عن عواطفه.
ويحثنا الدكتور فري في دراسته على أن نبكي، ويقول يجب علينا أن ننسى نظرة المجتمع حول مسألة الدموع، فالبكاء ليس عيبا أو خطأ، كما أنه ليست هناك حاجة لأن نكون اقوياء طوال الوقت، أو نحرم انفسنا من عملية ذرف الدموع الطبيعية العاطفية والصحية.قولهم في منع البكاء على الميت مطلقاًبعدما عرفت لما أبدى الأطباء الأخصائيون قلقهم إزاء ما ينتاب بعض الرجال من الحرج في ذرف الدموع، وبما أن الدين الإسلامي هو دين الفطرة، جاء مواكباً للتطور في كافة المجالات ومقتنصاً الحكمة أينما حلت وارتحلت، فأنه قد حث المتفجع والمكروب من أن ينفس عما هو عليه بالبكاء والنحيب، لما فيه من منافع صحية - كما عرفت- ومعنوية كما إذا كان البكاء على الإمام الحسين يتيح للمؤمن مساحة من الإقتداء بالنجوم الزاهرة التي لا تزال النفس الجامحة تتوق إليها، ودحض كل الأقاويل التي تدفع بالاتجاه المضاد للدين والفطرة، ومنها ما استدل عليه السلف (بأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) وقد رواه ابن عمر، ويرد عليه: أولا: لا شك ببطلان مثل هذا الادعاء خاصة مع وضوح بكاء النبي يعقوب على ابنه يوسف عليهما السلام، في قوله تعالى: (وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم). (يوسف: 84)ثانيا: إن عائشة لم تقبل بذلك وقد صرحت بأن ابن عمر لم يحفظ الرواية بصورة صحيحة وأن قوله هذا مخالف لقوله تعالى: ( ولا تزر وازرة وزر أخرى) (الأنعام: 164)، كما يروي ذلك البخاري في كتاب المغازي ومسلم في كتاب الجنائز.ثالثاً: حزن الإنسان عند موت أحبته وبكائه عليهم، مسألة نفسية ومن مستلزمات العاطفة البشرية، وهما من مقتضيات الرحمة والشفقة الإنسانية المتأصلة في النفوس السليمة. رابعاً: قد أباح الدين الإسلامي البكاء على الأموات، والرسول ( صلى الله عليه وآله ) نفسه كان يبكي على الأموات وخاصة الذين استشهدوا في سبيل الله، وورد في الكتب والمصادر الدينية إن البكاء على الأموات كان سيرة متبعة عند المسلمين. موقف الرسول من البكاء على الميت كان البكاء على الميت وخاصة الشهيد من سنة الرسول (صلى الله عليه واله) فقد روى البخاري في صحيحه: إن النبي نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم وقال: أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان. (صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب خالد بن الوليد ج 4 / 204 ) وفي ترجمة جعفر من الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة وخبر غزوة مؤتة من تاريخ الطبري وغيره ما ملخصه: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل رسول الله (صلى الله عليه واله) بيته وطلب بني جعفر فشمهم ودمعت عيناه فقالت زوجته أسماء بابي وأمي ما يبكيك أبلغك عن جعفر وأصحابه بشئ؟ قال نعم أصيبوا هذا اليوم، قالت أسماء فقمت أصيح واجمع النساء ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول واعماه، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله) على مثل جعفر فلتبك البواكي. وفي صحيح البخاري، قال انس: دخلنا مع رسول الله (صلى الله عليه واله) وإبراهيم يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف ( رض ) وأنت يا رسول الله ! فقال يا ابن عوف إنها رحمة ثم اتبعها بأخرى، فقال إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون. وفي سنن ابن ماجة: فانكب عليه وبكى (صحيح البخاري كتاب الجنائز، ج 1 / 158 ).
لما سمع رسول الله (صلى الله عليه واله) بعد غزوة أحد البكاء من دور الأنصار على قتلاهم ذرفت عينا رسول الله وبكى، وقال: لكن حمزة لا بواكي له. فسمع ذلك سعد بن معاذ واسيد بن حضير، فرجع إلى نساء بني عبد الاشهل فساقهن إلى باب رسول الله (صلى الله عليه واله) فبكين على حمزة، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه واله) فدعا لهن وردهن، فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك إلى اليوم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت على ميتها (مسند احمد 2 / 40) وهو أشهر حديث بالمدينة فإن نساء المدينة لا يندبن موتاهن حتى يندبن حمزة وإلى يومنا هذا، ولعلك تلاحظ في هذه الرواية أنها لا تدل على جواز البكاء على الميت وندبه فحسب، بل إنها تدل على مشروعية تحويل البكاء إلى عادة مستمرة لقرون طويلة - كما سيأتي بيانه لاحقاً-. وحيث إن سيرة الرسول لم تتماشى مع قريحة الخليفة عمر بن الخطاب، ولم توافق رأيه نهى عنها نهيا شديدا، وكان يضرب فيها بالحصا والعصا الذين يبكون على أمواتهم مهما كان الميت عظيما ومكرما.
وبعد أن أوردنا - أيها القارئ - الأحاديث الدالة على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يبكي على الأموات وينعاهم، نذكر موقف الخليفة عمر بن الخطاب تجاه مسألة البكاء على الموتى، مما ورد في المصادر التاريخية وخاصة الصحيحين:ورد في الصحيحين عن نهي الخليفة عمر بن الخطاب، إذ روى أحمد في مسنده عن ابن عباس في ضمن ذكره موت عثمان بن مظعون، لما ماتت رقية ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال ( صلى الله عليه وآله ): ألحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون. قال: وبكت النساء. فجعل عمر يضربهن بسوطه، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعمر: دعهن يبكين، وإياكن ونعيق الشيطان. ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): مهما يكون من القلب والعين فمن الله والرحمة، ومهما كان من اليد واللسان فمن الشيطان. وقعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على شفير القبر وفاطمة ( عليها السلام ) إلى جنبه تبكي، فجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها (مسند أحمد بن حنبل 1 : 335) .أقول: ونقل ابن سعد هذه القصة بتفاوت يسير في ألفاظها وزاد في آخرها: لما قام عمر بضرب النساء وزجرهن، فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيده وقال: مهلا يا عمر (الطبقات الكبرى 3 : 399 ترجمة عثمان بن مظعون ). قولهم في أن النياحة من عمل الجاهليةوقد أورد السلفي نصا من كتب الشيعة يصف النياحة بأنها من عمل الجاهلية، ويرد عليه:أولا: أن هذه الرواية موجودة في مصادر السنة قبل الشيعة ومع ذلك فإن من علماء السنة من أجاز النياحة ولم يعتبر هذا النص مانعا من جوازها.قالوا وفي الصحيحين عن أم عطية لما نزلت هذه الآية (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) ونهانا عن النياحة فقبضت منا امرأة يدها فقالت: فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها قالت: فما قال لها شيئا فذهبت فانطلقت ثم رجعت فبايعها.قالوا وهذا الإذن لبعضهن في فعله يدل على أن النهي عنه تنزيه لا تحريم ويتعين حمله على المجرد من المفاسد جمعا بين الأدلة. انتهى المنقول من كلام ابن القيم.والعجب من ابن تيمية حينما يدافع عن يزيد يقول في منهاج السنة ج4 ص 559 : (وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ولا سبي عيال الحسين (عليه السلام) بل لما دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته وأكرمهم وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة ). فلاحظ أن ابن تيمية يمدح يزيدا على إقامته النياحة على الحسين (عليه السلام) .. وهو قاتله !!والقصد من إيراده أن بعض علماء السنة قال بجواز النياحة مع وجود الروايات الناهية عندهم كرواية( النياحة من عمل الجاهلية ) فما هو جواب الشيعة عن هذا، أفلا تسمح للفقه الشيعي أن يقول بالجواز مع ورود الرواية المذكورة في مصادره. ثانيا: أن علماء الطائفة لم يخف عليهم أمر الرواية، وكما كان لعلماء السنة آراء واجتهادات لفهم النص، كذلك كانت لعلمائنا رضوان الله تعالى عليهم. فينبغي للعاقل أن يطلع على آراء علماء الطائفة وموقفهم تجاه هذا النص الشريف.
ويكفي للقاريء ملاحظة ما ورد في كتاب ( العروة الوثقى ) وهو كتاب يحشد آراء مجموعة من علماء الشيعة الفقهية في حقبة من الزمان، حيث تجد في الجزء الأول ص 447 من كتاب الطهارة تحت عنوان مكروهات الدفن حديثا مفصلا حول تلك الأمور فيقول السيد اليزدي ( ره ):
(مسألة 1) يجوز البكاء على الميت ولو كان مع الصوت بل قد يكون راجحا كما إذا كان مسكنا للحزن وحرقة القلب بشرط أن لا يكون منافيا للرضا بقضاء الله، ولا فرق بين الرحم وغيره، بل قد مر استحباب البكاء على المؤمن، بل يستفاد من بعض الأخبار جواز البكاء على الأليف الضال والخبر الذي ينقل من أن الميت يعذب ببكاء أهله ضعيف مناف لقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وأما البكاء المشتمل على الجزع وعدم الصبر فجائز ما لم يكن مقرونا بعدم الرضا بقضاء الله نعم يوجب حبط الأجر ولا يبعد كراهته.
(مسألة 2) يجوز النوح على الميت بالنظم والنثر ما لم يتضمن الكذب ولم يكن مشتملا على الويل والثبور، لكن يكره في الليل ويجوز أخذ الأجرة عليه إذا لم يكن بالباطل، لكن الأولى أن لا يشترط أولا.(مسألة 3) لا يجوز اللطم والخدش وجز الشعر بل والصراخ الخارج عن حد الاعتدال على الأحوط وكذا لا يجوز شق الثوب على غير الأب والأخ والأحوط تركه فيهما أيضا.
هذا علما بأن هذه الفتاوى بكراهة الجزع أو النياحة ناظرة إلى غير مصاب سيد الشهداء (عليه السلام) وأما مصابه أرواحنا له الفداء فقد وردت روايات خاصة عن أهل بيت العصمة (عليه السلام) تجعله مصابا مميزا عن غيره لا تشمله هاتك الأحكام.ثالثا: وفيما يخص روايات أهل البيت عليهم السلام، فقد روى الطوسي في أماليه كما (عن البحار ج44 ص 280 )عن المفيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين(عليه السلام).
وفي رواية أخرى في ( كامل الزيارات ) مثل الرواية السابقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) سمعته يقول: إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام فإنه فيه مأجور.فهذه الرواية صريحة في أن المكروه السابق لا يشمل الحزن على سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) .مشروعية البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام)علماء السلف يطرحون أسئلة يشككون من خلالها في مشروعية البكاء على الإمام الحسين من قبيل أنه لا يجوز لمن خاف الله إذا تذكر قتل الحسين ومن معه أن يقوم بلطم الخدود وشق الجيوب والنوح وما شابه ذلك، وما علم أن علي بن الحسين أو ابنه محمد أو ابنه جعفر أو موسى بن جعفر ما عرف عنهم ولا عن غيرهم من أئمة الهدى أنهم لطموا أو شقوا أو صاحوا فهؤلاء هم قدوتنا. ولو كان هذا البكاء يعكس شدة المحبة لأهل البيت فلماذا لا يكون البكاء من باب أولى على حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الفظاعة التي قتل بها لا تقل عن الطريقة التي ارتكبت في حق الحسين رضي الله عنه حيث بقر بطن حمزة واستؤصلت كبده، فلماذا لا يقيمون لموته مأتماً سنوياً يلطمون فيه وجوههم ويمزقون ثيابهم، ويضربون أنفسهم بالسيوف والخناجر؟ أليس هذا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل لماذا لا يكون هذا البكاء على موت النبي صلى الله عليه وسلم؟! فإن المصيبة بموته تفوق كل شيء؟ أم أن الحسين أفضل من جده لأنه تزوج ابنة كسرى الفارسية؟
في معرض الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها أقول: إن من العناوين العامة في الدين إحياء أمر أهل البيت (عليه السلام) وتوقيرهم ومحبتهم وإظهار الحزن لأحزانهم والفرح لأفراحهم، فالله تعالى قد أمر بمودة أهل البيت (عليه السلام)، فهل تتصور المودة بالفرح بحزنهم والحزن بفرحهم؟!والمآتم الحسينية إنما هي مصداق من مصاديق تلك المودة المفروضة، وتلك المراسيم لم يرد فيها نهي ولا منع، لذا فهي جائزة أصالة، ويرجح كفة إقامتها لأنها إحياء لأمر الدين، وتتأكد بورود روايات عن الأئمة (عليه السلام) في الحث عليها. فكيف يتصور أحدنا أن يمنع الدين الحزن على المؤمن بمقتل الحسين (عليه السلام)؟ والحسين (عليه السلام) أعز عند الله ورسوله (صلى الله عليه واله) من حمزة (عليه السلام)؟ كل ذلك بحكم الدين والعقل والبداهة، والإمام الحسين إنما حصل على وسام الأفضلية من جده ليس لأنه تزوج ابنة كسرى الفارسية! كما ذهب إليه السلفي بصورة تهكمية استفزازية بعيدة عن المنهج العلمي الاستدلالي، وإنما حصل على خصوصيات انفرد هو بها دون غيره من قبيل: سيد شباب أهل الجنة، ريحانة الرسول، الاندكاك بالقيم، المحبة في الذات الإلهية، وكانت التضحيات التي قدمها في سبيل الله موازية في العظمة لتلك الخصوصيات الفريدة، ولتلك الأسباب والمسببات كانت سفينة الحسين أوسع وخوضها في لجج البحار أسرع من بقية سفن الهداية التي تمخر عباب البحر، وبما أن الله سبحانه عند المنكسرة قلوبهم، فإن البكاء على الحبيب هو المنطلق الحضاري حيال ما يتعرض له المؤمن من إخفاقات، وهو المصباح المضيء في نهاية ذلك النفق المظلم لحياتنا المادية الكالحة، ولعله الأمل الوحيد في إيصال الغارق إلى شاطئ الأمان.
أورد الشيخ محمد جواد مغنية في ( الشيعة في الميزان ) كلمة قيمة للسيد محسن الأمين العاملي رحمهما الله حيث قال: أما الحسين فقدم نفسه، وأبناءه، حتى ولده الرضيع، وقدم إخوته، وأبناء أخيه وأبناء عمه، قدمهم جميعاً للقتل، وقدم أمواله للنهب، وعياله للأسر، ليفدي دين جده. هذا، إلى ما يرجوه المسلم من الثواب يوم الحساب على الحزن والبكاء لقتل الحسين، فلقد نعاه جده لأصحابه، وبكى لقتله قبل وقوعه، وبكى معه أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، فيما رواه الماوردي الشافعي في ( أعلام النبوة ). وقد حث أئمة أهل البيت الطاهر شيعتهم وأتباعهم على البكاء وإقامة الذكرى والعزاء لهذه الفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير من اتبع، وأفضل من اقتفي أثره، وأخذت منه سنة رسول الله، لأنهم أحد الثقلين، وباب حطـة الذي من دخله كان آمناً، ومفتاح باب مدينة العلم الذي لا يؤتى إلا منه. وإليك الأدلة الخاصة التي تدل على فضل البكاء والنوح على سيد الشهداء (عليه السلام) سنذكرها فيما يلي:البكاء على الحسين من سنة الرسول (صلى الله عليه واله) العلاقة بين الرسول والحسين علاقة وطيدة لا ينكرها إلا معاند، فالرسول ما ترك مناسبة ولا حدثا إلا وعرّج إلى ذكر مناقب الحسين وفضله على سائر البشر، ويكفي الحسين فخراً أنه تقلد وسام المحبة الإلهية من فخر الكائنات، إضافة إلى أنه الامتداد الطبيعي للرسالة التي خطها بدمه الطاهر، ولا يزال المؤمنون يغترفون من نميره الفياض بقلوب تعتصرها الحرقة والألم على المصائب التي ألمت بقلب الحسين الذي هو قلب الرسول الذي هو قلب الدين والمبادئ والأخلاق، فالخسارة في قتله عليه السلام فادحة والخطب جلل يستدعي المواساة لصاحب الرسالة وأنها في حقيقة الأمر تجديد بيعة للقيم والمثل التي ضحى من أجلها.
لهذا كله فقد كان الرسول (صلى الله عليه واله) أول من أخبر بواقعة شهادة الحسين (عليه السلام) وأول الباكين عليه عند ولادته (عليه السلام): روى ابن حبان في صحيحه ج6 ص 203 عن أنس بن مالك قال: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي(صلى الله عليه واله) فأذن له فكان في يوم أم سلمة فقال النبي (صلى الله عليه واله): أحفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد فبينا هي على الباب إذ جاء الحسين بن علي فظفر فاقتحم ففتح الباب فدخل فجعل يتوثب على ظهر النبي (صلى الله عليه واله) وجعل النبي يتلثمه ويقبله فقال له الملك: أتحبه ؟ قال: نعم قال: أما إن أمتك ستقتله إن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه؟ قال: نعم فقبض قبضة من المكان الذي يقتل فيه فأراه إياه فجاءه بسهلة أو تراب أحمر فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها.
وأما بكاءه (صلى الله عليه واله) عليه فقد روى أحمد في مسنده ج2 ص78 عن نجي أنه سار مع علي وكان صاحب مطهرته فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين فنادى علي: اصبر أبا عبد الله اصبر أبا عبد الله بشط الفرات قلت: وماذا ؟ قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه واله) ذات يوم وعيناه تفيضان؟
قال: بل قام من عندي جبريل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات، قال: فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته؟ قال: قلت: نعم فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضتا.وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين ج3 ص176 ( 194 ) عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله (صلى الله عليه واله) فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلما منكرا الليلة قال: ما هو قالت إنه شديد قال: ما هو قالت: رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري فقال رسول الله (صلى الله عليه واله): رأيت خيرا تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فيكون في حجرك، فولدت فاطمة (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) فكان في حجري كما قال رسول الله (صلى الله عليه واله) فدخلت يوما إلى رسول الله (صلى الله عليه واله) فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاتة فإذا عينا رسول الله تهريقان من الدموع. قالت: فقلت يا نبي الله بأبي وأمي مالك ؟قال: أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا فقلت: هذا فقال: نعم وأتاني بتربة من تربته حمراء.روي عن أسماء أنها قالت: لما ولدت فاطمة (عليه السلام) الحسين (عليه السلام) جاءني النبي (صلى الله عليه واله) فقال: هلم ابني يا أسماء.فدفعته إليه في خرقة بيضاء، ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام) قالت: وبكى رسول الله (صلى الله عليه واله) ثم قال: إنه سيكون لك حديث، اللهم ألعن قاتله، لا تعلمي فاطمة بذلك.قالت أسماء: فلما كان في يوم سابعه جاءني النبي (صلى الله عليه واله) فقال: هلمي ابني، فأتيته به ففعل به كما فعل بالحسن (عليه السلام)، وعق عنه كما عقَّ عن الحسن كبشاً أملح وأعطى القابلة الورك ورجلاً، وحلق رأسه وتصدق بوزن الشعر ورقاً، وخلّق رأسه بالخلوق وقال: إن الدم من فعل الجاهلية، قالت: ثم وضعه في حجره ثم قال: يا أبا عبد الله عزيز عليّ، ثم بكى.فقلت: بأبي أنت وأمي فعلت في هذا اليوم وفي اليوم الأول فما هو؟ قال: أبكي على ابني، تقتله فئة باغية كافرة من بني أمية لعنهم الله لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، يقتله رجل يثلم الدين ويكفر بالله العظيم.ثم قال: اللهم إني أسألك فيهما ـ الحسن والحسين (عليه السلام) ـ ما سألك إبراهيم (عليه السلام) في ذريته، اللهم أحبهما وأحب من يحبهما والعن من يبغضهما ملء السماء والأرض. ( بحار الأنوار: ج44 ص250-251 ب31 ح1).هذه روايات صريحة في أن البكاء على الحسين هي سنة رسول الله (صلى الله عليه واله) والشيعة يتبعون سنته
(صلى الله عليه واله) في البكاء على سيد الشهداء الحسين (عليه السلام).حث رسول الله والأئمة المعصومين على البكاء على الحسين وإحياء أمره ومصيبته، والروايات في ذلك كثيرة جداً، منها: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت على مصاب الحسين، فإنها ضاحكة مستبشرة. ( الاثنى عشرية في الرد على الصوفية، للشيخ الحر العاملي).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يتأذى من بكـاء الحسين السبط، وقد جاء في الصحيـح فيما أخرجه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ( المعجم الكبير ) من طريق يزيد بن أبي زياد قال: خرج النبي صلى الله عليه من بيت عائشة رضي الله عنها فمر على بيت فاطمـة فسمع حسينـاً يبكي رضي الله عنه فقال: ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني. تراه صلى الله عليه وآله وسلم يتأذى من بكاء ريحانته فما ظنك به صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجده قتيلاً بالقتل الذريع، مرملاً بالدماء، مجدلاً على الرمضاء، مكبوبـاً على الثرى، معفّر الخدين، دامي الوريدين، محزوز الرأس من القفا، مسلوب العمامة والرداء، سفّت الريح عليه السفا والعفا.البكاء على الحسين (عليه السلام) عند الأئمة لا يزال الرسول ينعى الحسين ويذكر المؤمنين مناقبه وعظمته حتى جاء دور الأئمة من بعده فواسوه قبل شهادته وبعدها، وهم الذائبون في ذات الله الدالون إلى مرضاته، تراهم قد نصبوا سرادق العزاء والبكاء على سيد الشهداء، وأنهم وحدهم يعرفون عظمة هذا المولى المقدس، وما قدمه للدين والمثل والفضيلة من خدمات جليلة تعجز الكلمات من وصفها أو حتى الدنو منها والاقتراب إزاءها لما تحمله من مكنونات تفوق قدرة البشر من تصورها وإدراكها، فكيف يحيط المحدود باللامحدود والناقص بالكامل؟! فالإمام الحسين هو المصداق الأتم للمثل الإلهية العليا، الذي باع لله كل شيء فأعطاه الله كل شيء، وهذا المعنى لم يقف أحد على حقيقته غير الأئمة، فأدركوا عمق الجريمة التي اقترفتها الطغمة الأموية العاتية باغتيالها القيم والمثل الراقية بقتلهم الشائن للغريب المظلوم، فاذرفوا تبعاً لذلك الدموع غزيرة سخية حزناً عليه وعلى من مضى معه من أهل بيته وأصحابه النجباء، وإنها قد شكلت سواقي رفدت وما زالت بساتين الحرية والإباء لتظهر الأشجار فيها باسقة وعلى مدى العصور.ورد في الروايات: عن أبي عمارة المنشد قال: ما ذكر الحسين (عليه السلام) عند أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) في يوم قط فرئي أبو عبد الله في ذلك اليوم متبسماً قط إلى الليل (كامل الزيارات: ص101 ب32 ح5).
عن ابن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كنا عنده فذكرنا الحسين بن علي (عليه السلام) وعلى قاتله لعنة الله فبكى أبو عبد الله (عليه السلام) وبكينا قال: ثم رفع رأسه فقال: قال الحسين بن علي (عليه السلام): أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى. (راجع كامل الزيارات ص 108 و 109).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتك فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأضرمت النيران في مضاربنا، وانتهب ما فيها من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله (صلى الله عليه واله) حرمة في أمرنا، إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثتنا يا أرض كرب وبلاء أورثتنا الكرب البلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإن البكاء يحط الذنوب العظام، ثم قال (عليه السلام): كان أبي (عليه السلام) إذا دخل شهر المحرم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام). ( الأمالي للشيخ الصدوق: ص128 المجلس 27 ح2).وكان الأئمة من بعد الحسين عليه السلام، ينتهزون الفرص ويستغلون المواقف لإحياء ذكراه، نذكر من ذلك موقفين: أ- سمع الإمام السجاد عليه السلام ذات يوم رجلاً ينادي: أيها الناس ارحموني أنا رجل غريب في السوق. فتوجه إليه الإمام السجاد وقال له: لو قدر لك أن تموت في هذه البلدة، فهل تبقى بلا دفن؟! فقال ذلك الرجل الغريب: الله أكبر، كيف أبقى بلا دفن، وأنا رجل مسلم وبين ظهراني أمة مسلمة، فبكى الإمام السجاد وقال: وا أسفاه عليك يا أبتاه ! تبقى ثلاثة أيام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله. ( مأساة الحسين، للشيخ عبد الوهاب الكاشي ). ب- لما أمر المنصور الدوانيقي عامله على المدينـة أن يحرق على أبي عبد الله الصادق عليه السلام داره، فجاءوا بالحطب الجزل ووضعوه على باب أبي عبد الله الصادق، وأضرموا فيه النـار، فلما أخذت النار ما في الدهليز تصايحن العلويات داخل الدار وارتفعت أصواتهن. فخرج الإمام الصادق وعليه قميص وإزار وفي رجليه نعلان وجعل يخمد النـار ويطفئ الحريـق حتى قضى عليها فلما كان الغد دخل عليه بعض شيعته يسلونه فوجدوه حزيناً باكياً. فقالوا: مما هذا التأثر والبكاء أمن جرأة القوم عليكم أهل البيت وليس منهم بأول مرة؟.
فقال الإمام الصادق عليه السلام: لا… ولكن لما أخذت النار ما في الدهليز نظرت إلى نسائي وبناتي يتراكضن في صحن الدار من حجرة إلى حجرة ومن مكان إلى هذا وأنا معهن في الدار، فتذكرت لوعة عيال جدي الحسين عليه السلام يوم عاشـوراء لما هجم القوم عليهن ومناديهم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين. ( مأساة الحسين للشيخ عبد الوهاب الكاشي ).
وقد ورد في الأخبـار عن النبي صلى الله عليه وآله وعن الأئمـة الأطهـار عليهم السلام أنـه يستحب في تسلية المصاب أن يظهروا عند صاحب المصيبة الحزن والكآبة، حيث أن ذلك من السنة المؤكدة. فكيف إذا أردنا أن نسلي صاحب الرسالـة صلى الله عليه وآله وهو شاهد علينا بنص القرآن، ونعزيه في مصاب قرة عينه وفلذة كبده في مصابه الجَلَل التي ما أتت مصيبة كمثلها من أول الدنيا ولا تأتي إلى آخر الدهر، وهي مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتهـا في الإسـلام وفي السماوات والأرض. الأنبياء يواسون الحسين (عليه السلام)لقد شارك الأنبياء والأوصياء (عليه السلام) الإمام الحسين (عليه السلام) في مصيبته وواسوه ببكائهم عند ذكره (عليه السلام) وربما بدمائهم أيضاً عند وصولهم إلى أرض كربلاء المقدسة، وذلك محبة منهم للسبط الشهيد (عليه السلام) ومواساة لجده الحبيب (صلى الله عليه واله) مع أن واقعة عاشوراء لم تكن حدثت بعدُ، وربما كان الفاصل بين مواساة الأنبياء (عليه السلام) والواقعة آلاف السنين، ولكن وعلى الرغم من ذلك ولعظمة الفاجعة فقد واسوه (عليه السلام) وشاطروه بالمصاب.وهناك روايات عديدة في هذا المجال تدل على أن الكثير من الأنبياء قاموا بمواساة الإمام الحسين (عليه السلام) بمختلف أنواع العزاء، وقد أفتى الفقهاء والمراجع باستحباب ذلك.مواساة آدم (عليه السلام) بدمه ففي الروايات: إن آدم (عليه السلام) لما هبط إلى الأرض لم ير حواء فصار يطوف الأرض في طلبها، فمر بكربلاء فاغتم وضاق صدره من غير سبب، وعثر في الموضع الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)، حتى سال الدم من رجله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي هل حدث مني ذنب آخر (كان الذنب الأول ترك الأولى. انظر بحار الأنوار: ج11 ص85 ب4 عصمة الأنبياء (عليه السلام) ). فعاقبتني به؟ فإني طفت جميع الأرض، وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض.فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم ما حدث منك ذنب، ولكن يُقتل في هذه الأرض ولدك الحسين (عليه السلام) ظلماً، فسال دمك موافقة لدمه.فقال آدم: يا رب أيكون الحسين (عليه السلام) نبياً؟ قال: لا، ولكنه سبط النبي محمد (صلى الله عليه واله).فقال: ومن القاتل له؟ قال: قاتله يزيد لعين أهل السماوات والأرض.فقال آدم: فأي شيء أصنع يا جبرئيل؟ فقال: العنه يا آدم، فلعنه أربع مرات ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك. ( بحار الأنوار: ج44 ص242-243 ب30 ح37).نوح (عليه السلام) ومصيبة الحسين (عليه السلام) وروي: أن نوحاً لما ركب في السفينة طافت به جميع الدنيا، فلما مرت بكربلاء أخذته الأرض وخاف نوح الغرق، فدعا ربّه، وقال: إلهي طفت جميع الدنيا وما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض..فنزل جبرئيل (عليه السلام)، وقال: يا نوح في هذا الموضع يقتل الحسين (عليه السلام) سبط محمد خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء.فقال: ومن القاتل له يا جبرئيل؟ قال: قاتله لعين أهل سبع سماوات وسبع أرضين، فلعنه نوح أربع مرات، فسارت السفينة حتى بلغت الجوديّ واستقرت عليه. (بحار الأنوار: ج44 ص243 ب30 ح38).إبراهيم (عليه السلام) ولعن يزيد وروي: أن إبراهيم (عليه السلام) مر في أرض كربلاء وهو راكب فرساً فعثرت به وسقط إبراهيم وشج رأسه وسال دمه، فأخذ في الاستغفار، وقال: إلهي أي شيء حدث مني؟ فنزل إليه جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا إبراهيم ما حدث منك ذنب، ولكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه.فرفع إبراهيم (عليه السلام) يديه ولعن يزيد لعناً كثيراً، وأمّن فرسه بلسان فصيح، فقال إبراهيم لفرسه: أي شيء عرفت حتى تؤمّن على دعائي؟ فقال: يا إبراهيم أنا أفتخر بركوبك عليّ، فلمّا عثرت وسقطت عن ظهري عظمت خجلتي وكان سبب ذلك من يزيد لعنه الله تعالى. (بحار الأنوار: ج44 ص243 ب30 ح39).إسماعيل (عليه السلام) ولعن قاتل الحسين (عليه السلام) وروي: أن إسماعيل (عليه السلام) كانت أغنامه ترعى بشط الفرات، فأخبره الراعي أنها لا تشرب الماء من هذه المشرعة منذ كذا يوماً، فسأل ربه عن سبب ذلك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا إسماعيل سل غنمك فإنها تجيب عن سبب ذلك..فقال لها: لم لا تشربين من هذا الماء؟ فقالت بلسان فصيح: قد بلغنا أن ولدك الحسين (عليه السلام) سبط محمد (صلى الله عليه واله) يقتل هنا عطشاناً فنحن لا نشرب من هذه المشرعة حزناً عليه.فسألها عن قاتله فقالت: يقتله لعين أهل السماوات والأرضين والخلائق أجمعين.فقال إسماعيل: اللهم العن قاتل الحسين (عليه السلام). (بحار الأنوار: ج44 ص243-244 ب30 ح40).موسى (عليه السلام) يواسي الحسين (عليه السلام) وروي: أن موسى (عليه السلام) كان ذات يوم سائراً ومعه يوشع بن نون (عليه السلام)، فلما جاء إلى أرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، ودخل الخسك في رجليه وسال دمه، فقال: إلهي أي شيء حدث مني؟ فأوحى الله إليه أن هنا يقتل الحسين (عليه السلام)، وهنا يسفك دمه، فسال دمك موافقة لدمه.فقال: رب ومن يكون الحسين (عليه السلام)؟ فقيل له: هو سبط محمد المصطفى وابن علي المرتضى (عليه السلام) .قال: ومن يكون قاتله؟ فقيل: هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء.فرفع موسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه وأمن يوشع بن نون على دعائه ومضى لشأنه. ( بحار الأنوار: ج44 ص244 ب30 ح41).سليمان (عليه السلام) في كربلاءوروي: أن سليمان كان يجلس على بساطه ويسير في الهواء، فمر ذات يوم وهو سائر في أرض كربلاء، فأدارت الريح بساطه ثلاث دورات حتى خاف السقوط فسكنت الريح، ونزل البساط في أرض كربلاء.فقال سليمان للرّيح: لم سكنتي؟ فقالت: إن هنا يقتل الحسين (عليه السلام).فقال (عليه السلام): ومن يكون الحسين؟ فقالت: هو سبط محمد المختار، وابن عليّ الكرار.فقال: ومن قاتله؟ قالت: لعين أهل السماوات والأرض يزيد.فرفع سليمان يديه، ولعنه ودعا عليه وأمّن على دعائه الإنس والجن فهبت الريح وسار البساط. ( بحار الأنوار: ج44 ص244 ب30 ح42).عيسى (عليه السلام) وقصة الأسد وروي: أن النبي عيسى (عليه السلام) كان سائحاً في البراري ومعه الحواريّون فمروا بكربلاء، فرأوا أسداً كاسراً قد أخذ الطريق، فتقدم عيسى (عليه السلام) إلى الأسد، فقال له: لم جلست في هذا الطريق؟ وقال: لا تدعنا نمر فيه؟فقال الأسد بلسان فصيح: إني لم أدع لكم الطريق حتى تلعنوا يزيد قاتل الحسين (عليه السلام).فقال عيسى (عليه السلام): ومن يكون الحسين (عليه السلام) ؟ قال: هو سبط محمد النبي الأمّي وابن علي الوليّ (عليه السلام).قال: ومن قاتله؟ قال: قاتله لعين الوحوش والذباب والسّباع أجمع خصوصاً أيام عاشوراء.فرفع عيسى (عليه السلام) يديه ولعن يزيد ودعا عليه وأمّن الحواريّون على دعائه، فتنحى الأسد عن طريقهم ومضوا لشأنهم. (بحار الأنوار: ج44 ص244 ب30 ح43).بكاء الكون بأجمعهعن ميثم التمار عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: أنه يبكي عليه ـ أي على الحسين (عليه السلام) ـ كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحر، والطير في السماء، ويبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجن وجميع ملائكة السماوات والأرضين، ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورمادا. ( علل الشرائع: ج1 ص228 ب162 ح3).وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: إن أبا عبد الله (عليه السلام) لما مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، ومن فيهن وما بينهن، ومن يتقلب في الجنة والنار من خلق ربنا، وما يرى وما لا يرى. (كامل الزيارات: ص197-198 ب79 ح2).وعن عمار بن أبي عمار قال: أمطرت السماء يوم قتل الحسين (عليه السلام) دما عبيطا. ( بحار الأنوار: ج45 ص217 ب40 ح41).وعن نضرة الأزدية قالت: لما قتل الحسين أمطرت السماء دماً وحبابنا وجرارنا صارت مملوءة دماً. ( المناقب: ج4 ص54 فصل في آياته بعد وفاته (عليه السلام) ).وقال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): يا زرارة، إن السماء بكت على الحسين (عليه السلام) أربعين صباحاً بالدم، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وان الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت، وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين (عليه السلام)، وما اختضبت منا امرأة ولا ادَّهنت ولا اكتحلت ولا رجَّلت حتى أتانا رأس عبيد الله بن زياد (لعنه الله)، وما زلنا في عبرة بعده، وكان جدي (عليه السلام) إذا ذكره بكى حتى تملأ عيناه لحيته، وحتى يبكي لبكائه رحمة له من رآه، وإن الملائكة الذين عند قبره ليبكون فيبكي لبكائهم كل من في الهواء والسماء من الملائكة. (مستدرك الوسائل: ج10 ص313-314 ب49 ح12077).نوح الملائكةوسُمع نوح الملائكة في أول منزل نزل جيش يزيد قاصدين إلى الشام، ومعهم الأسرى والرؤوس الطاهرة:أيها القاتلون جهلاً حسيـــــنا*** أبشروا بالعـــــذاب والتنـــــكيلكل أهل السماء يدعو عليكم*** من نبي ومــــرسل وقبـــــيـــــلقد لعنتم على لسان ابن داود*** وموسى وصاحب الإنجيل(المناقب: ج4 ص63 فصل في آياته بعد وفاته (عليه السلام)).نوح الجنولما قتل الحسين (عليه السلام) بكت عليه الجن وسُمع لهم هذه الأبيات:يا عين جودي بالعـــــبــر*** وابــكي فقـــــد حق الخـــــبرابكـــــي ابن فاطمة الذي*** ورد الفـــــرات فـــــما صدرالجن تبكـــــي شجـــــوها*** لما أتـــــي منـــــه الخـــــبــرقتل الحســـــين ورهطــه*** تعـــــسا لـــــذلك مـــــن خـبرفـــــلأبكيـــــنك حـــــرقــة*** عــند العـــــشاء وبالسحـــــرولأبكيـــــنـــــك مــا جرى*** عرق وما حمل الشجر(كامل الزيارات: ص97-98 ب29 ح11).وحتى الحيواناتقال أمير المؤمنين (عليه السلام): بأبي وأمي الحسين المقتول بظهر الكوفة، ولكأنِّي أنظر إلى الوحش مادة أعناقها على قبره من أنواع الوحش، يبكونه ويرثونه ليلاً حتى الصباح، فإن كان ذلك فإياكم والجفا. (مستدرك الوسائل: ج10 ص258 ب27 ح11965).وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: بكت الإنس والجن والطير والوحش على الحسين بن علي (عليه السلام) حتى ذرفت دموعها. (بحار الأنوار: ج45 ص205 ب40 ح8).وقال الإمام الصادق (عليه السلام): اتخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فإنها تلعن قتلة الحسين (عليه السلام) ولعن الله قاتله. ( الكافي: ج6 ص547-548 باب الحمام ح13).الإشكال على تكرار البكاء على الحسين (عليه السلام) في كل سنة أولا: يرد هذا الأمر بأن يعقوب (عليه السلام) قد أشكل عليه أبناؤه كما ينقل عنهم القرآن الكريم ( تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ) (يوسف: 85)، فقوله تفتأ دليل على تكراره ذلك الأمر، فحسب الشيعة فخرا أن تقتدي بأنبياء الله (عليه السلام) حينما يبكون على أوليائه.ومكانة الحسين لا ينكرها إلا معاند، فشأنه عند الله تعالى يتجلى بما سبق ذكره من العلامات التي ظهرت في الكون وعبرت عن الغضب الإلهي على قتلته (عليه السلام)، وكذلك في الحديث الذي مر ذكره من أن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه (صلى الله عليه واله) بأنه عز وجل إذا كان قد انتقم لدم يحيى (عليه السلام) بقتل سبعين ألف فسوف ينتقم لدم الحسين (عليه السلام) بسبعين ألف وسبعين ألف.ثانيا: وقد أجاب الإمام زين العابدين (عليه السلام) بما دل من القرآن على استمرار حزن يعقوب عند رده على من أشكل عليه باستمرار حزنه على أبيه كما أورده أبو نعيم الأصفهاني عن الحسين (عليه السلام) في ( حلية الأولياء ) ج3 ص 162عن كثرة بكائه - أي بكاء زين العابدين (عليه السلام)- فقال: لا تلوموني فإن يعقوب فقد سبطا من ولده فبكى حتى ابيضت عيناه ولم يعلم أنه مات وقد نظرت إلى أربعة عشر رجلا من أهـل بيتي في غزاة واحدة أفترون حزنهم يـذهب مـن قلبي؟. وهذا الإشكال من السلفيين هو نفس الإشكال على إحياء ذكرى المولد النبوي من التكرار السنوي للذكرى، فالأمر محبب، وهو مثل تكرار دراسة الفقه أو الحديث أو القرآن الكريم.وقضية عاشوراء لا تقل أهمية عن بقية الأحداث الإسلامية إن لم تفقها بمراتب كما مر عليك سابقاً، وإقامة عزاء الحسين في كل عام يصب في هذا الاتجاه.والغريب في الأمر أن من يورد هذا الإشكال تعج كتبهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. (صحيح البخاري: ج8 ص 17 ، وإتحاف السادة المتقين للزبيدي: ج9 ص 547).وتبعاً لذلك قال الله عزّ وجلّ لنبيه: ( قُل لا أَسألُكُم عَليهِ أَجراً إلاّ المَودَّةَ في القُربَى ) (سورة الشورى: الآية 23). فهل مودة القربى لرسول الله صلى الله عليه وآله هي السرور بما يحزنه، والفرح بما يسوؤه، وهل محبة الرسول شماتته بما يصيبه، أما علم المخالف أن الحسين عليه السلام هو قرة عين الرسول، وثمرة مهجته كان يركبه ظهره، ويحمله على عنقه ويقبله في نحره ويقول: حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً. (مسند أحمد بن حنبل: ج4 ص172) يدعي الإسلام ومحبة الرسول ولا يواسيه في مصيبته ويشاركه في أحزانه! لا بل يريد مشاركة يزيد وأتباعه باتخاذهم يوم قتل الحسين عيداً، وجعلهم إياه يوم فرح وسرور وتوسعة على العيال، ولكن لا ألومه لأنه لا يعرف القيم ولا يقدر الحقوق.أليس قد جرت العادة بإقامة الذكرى لعظماء الرجال، وذكر مآثرهم، وأحوالهم وذكر سيرهم، لترغيب الشعوب في اقتفاء آثارهم، والسير على طريقهم ليكونوا عظماء مثلهم.فما أنكر من إقامة ذكرى الإمام الحسين عليه السلام في كل عام ليقتدي به الناس في المكارم، ويسلكوا نهجه للإنسانية الحقّة والرجولة الصحيحة، فيبذلوا النفس والنفيس في سبيل الحرية، وليتعلموا منه إباء الضيم وعزة النفس حيث الشرف كل الشرف، وحيث الفخار، وحيث العلاء، كما قال ـ صلوات الله عليه ـ من جملة كلام له: ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام(مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي : ج2 ص7). وقوله عليه السلام:وإن تـكـن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل أمريء بالسيف في الله أفضل(مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي: ج2 ص 33) قال الشيخ الأميني: تستجد المآتم بتجدد الأجيال، وتبقى خالدة مع الأبد لا تبلى جدّتها، ولا تنسى بمر الدهور، وكرّ الملوين، ما دام الإسلام يعلو، واسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم يذكر، وسنته تتبع، وأعلام الدين ترفرف، وكتاب الله غير مهجور يتلى، وفي لسانـه الناطق آية محكمة بودّ عترة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وذي قرباه، وأجر الرسالة واجب محتم، وحب الآل فريضة لا منتدح عنها ولا محيص ولا محيد ولا مهرب، وحقوق محمد وآله صلوات الله عليه وعليهم لا تخص بجيل دون جيل، وبفينة دون فينة، وأجيال الأمة المسلمة فيها سواسية، والحزن بالحسين الشهيد دائم سرمد ما دامت الجوانح بحبه معمورة، والأضلاع بولائه مغمورة. مصيبة كلّ بقدرهالسلفي الذي ينكر البكاء على الحسين عليه السلام أو ما علم أن الحسين كان يمثل شعور شعب حي مرهق بالظلم، معني بالاستبداد من أمراء فسقة، شأنهم محق الحق بالقوة، وسحق المعنويات بالماديات، عروا من الأخلاق، وخلوا من المعارف، فمرقوا من الدين مروق السهم من الرمية، وراحوا ـ باسم الدين ـ يردّون الناس عن الدين القهقرى، ولكن رمز الفضيلة، ومثال الحق والإخلاص، سيد أهل الإباء، الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام نهض نهضته المباركة لينقذ الحق من براثن الباطل يدافع عن عقيدته، عن حجته، عن مبادئه، عن شريعته، عن اُمّته، عن أولئك المستضعفين.. قدم نفسه قرباناً في سبيل الحق، لا يلتمس أجراً ولا يطلب مالاً ولا نوالاً، ولا جاهاً ولا بالتماس من صديق، أو مخافة من عدو، بل غيرة على الدين وانتصاراً للحق:قضى ابنُ علي والحفاظ كلاهما*** فلست ترى ما عشت نهضة سيّد(ديوان السيد حيدر الحلي رحمه الله : ج 1 ص 72).أما علم أن قتل الحسين عليه السلام كان بعثة ثانية للشريعة الغراء، وإشراقاً آخر لذلك النور البهي الإلهي، بعد أن مات الشعور الإسلامي السامي من النفوس أو كاد، وغلّت الأيدي وكمّت الأفواه، ولم يعد أحد يشعر بالمسؤولية عن مظلمة أخيه، ولذلك لكثرة المظالم، وغشم الأمراء، لقد قام في وجه الجور والفجور، وثار على المنكر والبغي، فقاتل وذهب شهيداً، لقد قتل، ولكنه المنصور، فقد خفف الويلات عن المسلمين، وذلك بتخفيف غلواء الحاكمين، وشل حركات المعتدين، حيث أسفر الصبح لذي عينين، وظهر للناس ما اقترفته تلك الطغمة وما اجترحته من آثام، فتنبه الأحرار إلى أن الشرف في التضحية، وفي الموت تكون الحياة، بل الموت أفضل من حياة تنافي الإيمان والكرامة، وتناقض الوجدان والشهامة، وخير للإنسان أن يموت من أن يعيش ـ كالنعم السائمة ـ متحجر الفكر لا يدري ما الكرامة.وإذا لم يكن من الموت بدّ *** فمن العجز أن تعيش جبانا سيما والحسين سبط الرسول الأعظم، والقيِّم على حكم الكتاب. ووجد صرح الدين تنهار وأركانه تتداعى، وناداه منادي الواجب ـ من داخل الضمير ـ حي على الجهاد، وهَّيا لقمع الطغيان، فقد بلغ السيل الزبى، وشعر بعظم المسؤولية فنهض منتصراً للفضيلة، ثائراً للكرامة، صادعاً بالحق داعياً إليه وإلى طريق مستقيم، هذا وإن سلاحه الصبر وحسن اليقين ولسان الحال يقول:إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي فيا سيوف خذيني (للشيخ محسن أبو الحب ).واعلم أن أعظم المصائب هي مصيبة الرسول صلى الله عليه وآله وهي التي يجب أن تقدم على كل مصيبة، وأن المسلم ليجدر به أن يحزن لحزن الرسول صلى الله عليه وآله ويفرح لفرحه، ومن لا يحزن لحزن الرسول صلى الله عليه وآله ويفرح لفرحه فليس بمسلم.وإلى من يقول أن هذه المصيبة مرَّ عليها أربعة عشر قرناً، ومن العوائد أن مدة بقاء الحزن لغاية أربعين يوماً، ولو تعاظم الأمر فإلى الحول، فما معنى هذا التجديد دائماً، وقد مرَّ على واقعة الطف عشرات بل مئات من الأعوام. قلت له:لقد أسمعت لو ناديت حيّاً *** ولكن لا حياة لمن تنادي أما علمت أن مصيبة كلٍ بقدره، وإذا كان محمد صلى الله عليه وآله، هو سيد الكائنات فلا جرم أن مصيبته أعظم من جميع الكائنات، أو ما علمت أن محمداً صلى الله عليه وآله له الفضل كل الفضل على جميع المسلمين، من أول بعثته إلى يوم القيامة، فيجب على كل مسلم أن يشاطر الرسول همومه، ويؤدي له الحق من الحزن لحزنه وإقامة المآتم لولده.ولو أن الحسين عليه السلام قتل في حياة جده هل كان الرسول صلى الله عليه وآله يحزن لقتله أم يفرح؟ بالطبع كان يحزن لقتله فيما لو كان حيّاً ويقعد لإقامة العزاء، بيد أن السلفيين يجعلون يوم قتله عيداً، ويتباركون به، ويستعملون الزينة فيه والدهن والكحل والتوسعة على العيال، ويستحبون صومه، لأنه يوم بركة كما يزعمون عناداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وشماتةً به، هذا مع اعترافهم ـ كما في صحيح البخاري(صحيح البخاري: ج3 ص 57 )، أن اليهود كانت تجعله عيداً، وأن اليهود والعرب في الجاهلية كانوا يصومونه، فهم في هذا قد قلدوا اليهود وأعراب الجاهلية، ورغبوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وتركوا سنته وقد قال: من رغب عن سنتي فليس مني (صحيح البخاري : ج7 ص2 ) اعترفوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما فُرض عليه صيام شهر رمضان ترك صوم يوم عاشوراء(صحيح البخاري : ج3 ص 57 ).وهم يصومونه خلافاً عليه، كأنهم أعلم من الرسول صلى الله عليه وآله بموارد الطاعات، أو أحرص على مرضاة الله منه، فذلك هو الكفران المبين.ثواب البكاء على مصيبة الحسين عليه السلام إن البكاء والإبكاء والتباكي كله حسن وله أجر وثواب. وذكرت للبكاء على الحسين فضائل كثيرة منها: إن الدموع تطفئ لظى جهنم، والجزع على مصيبة سيد الشهداء أمان من العذاب فيها إذا لم تكن ذنوب الإنسان بالقدر الذي لا يمنع بلوغه الفيض الإلهي، والدموع التي تظهر الارتباط الروحي والعقائدي والعاطفي مع خط الأئمة وسيد الشهداء لابد وأنها تخلق لدى الإنسان الأرضية لتصبح لديه حصانة من الذنوب.قال الشهيد المطهري في هذا المجال: البكاء على الشهيد مشاركة له في ملحمته وتجاوباً مع روحه، وانسياقاً وراء نشاطه وحركته.. والإمام الحسين عليه السلام بشخصيته الجليلة وشهادته البطولية ملك قلوب ومشاعر مئات الملايين من الناس، ولو انتدب جماعة على هذا المخزن الهائل والنفيس من المشاعر والمعنويات، أي أن الخطباء لو استثمروا هذا المخزون العظيم بشكل صحيح لأجل إيجاد حالة من الانسجام والتناسق والتناغم بين الأرواح الحسينية الكبيرة لأصلحوا قطاعاً مهماً من العالم.إذن فالمهم هو معرفة فلسفة البكاء على طريق إحياء عاشوراء، والشعائر الحسينية، وثقافة كربلاء وليس ارتكاب الذنوب على أمل محوها بعدّة قطرات من الدموع! وليس من المؤكد أن القلب الغارق بالذنوب يبكي على الإمام الحسين عند استذكار مصائبه.البكاء في ثقافة عاشوراء سلاح جاهز على الدوام يمكن رفعه عند الحاجة بوجه الظالمين. الدموع هي لغة القلب، والبكاء هو صرخة عصر المظلومية. ورسالة الدموع تنطوي أيضا على حراسة دم الشهيد. قال أحد العلماء: إن البكاء على الشهيد إحياء للثورة، وإحياء لمفهوم أن فئة قليلة تقف بوجه إمبراطور كبير... إنهم يخشون هذا البكاء، لأن البكاء على المظلوم صرخة بوجه الظالم.ومع مطلع فصل المحبة والمودّة النابعة من العشق الذي أودعه الله في قلوب الناس وجعلها تنجذب للحسين بن علي عليه السلام. وطبقاً للحديث الوارد عن رسول الله صلّى الله عليه و آله أنّه قال: أنّ لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا...واليوم فإن الدموع و البكاء هي الصلة مع الحسين، ونحن نجلس على مائدة الحسين ونترّبى في مدرسته بفضل ما نسكبه من دموع. وهذا يعني أننا قد أطعمنا هذه المحبة مع حليب أمهاتنا، وهي لا تخرج منا إلاّ مع خروج أرواحنا. لا شك أن القلب الطافح بمحبّة الحسين يبكي عند ذكر مظلوميته واستشهاده. فالدموع لسان القلب ودليل المحبة. هذه العقيدة ورثناها عن بناة الدين وركائز الرسالة وأكّد الأئمة كثيراً على البكاء على الحسين عليه السلام، قال الإمام الرضا عليه السلام: إن المحرم شهر كان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتال، فاستحلّت فيه دماؤنا، وهتكت فيه حرمتنا، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيه من ثقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا. إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين عليه السلام فليبك الباكون. فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام.عن أحمد الهمداني، عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا، كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب ( أمالي الصدوق المجلس 17 الرقم 4).عن المفيد، عن ابن قولويه، عن أبيه، عن سعد، عن البرقي، عن سليمان بن مسلم الكندي، عن ابن غزوان، عن عيسى بن أبي منصور، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة وكتمام سرنا جهاد في سبيل الله. ثم قال أبو عبد الله: يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.عن أحمد الهمداني، عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه، عن الرضا (عليه السلام) قال: من ترك السعي في حوائجه يوم عاشورا قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشورا يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه، ومن سمى يوم عاشورا يوم بركة وادخر فيه لمنزله شيئا لم يبارك له فيما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار.عن علي، عن أبيه، عن الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا (عليه السلام) في أول يوم من المحرم فقال لي: يا ابن شبيب أصائم أنت فقلت: لا، فقال: إن هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا ربه عز وجل فقال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء. ( آل عمران: 38).فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى، فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عز وجل استجاب الله له كما استجاب لزكريا (عليه السلام).ثم قال: يا ابن شبيب إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته، وسبوا نساءه، وانتهبوا ثقله، فلا غفر الله لهم ذلك أبدا.يا ابن شبيب إن كنت باكيا لشئ فابك للحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) فانه ذبح كما يذبح الكبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا، ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره، فوجدوه قد قتل، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم، فيكونون من أنصاره، وشعارهم ( يا لثارات الحسين ).يا ابن شبيب لقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده أنه لما قتل جدي الحسين أمطرت السماء دما وترابا أحمر، يا ابن شبيب إن بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا، قليلا كان أو كثيرا.يا ابن شبيب إن سرك أن تلقى الله عز وجل ولا ذنب عليك، فزر الحسين (عليه السلام)، يا ابن شبيب إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (صلى الله عليه واله) فالعن قتلة الحسين.يا ابن شبيب إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.يا ابن شبيب إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله معه يوم القيامة ( أمالي الصدوق المجلس 27 الرقم 5، عيون أخبار الرضا ج 1 ص 299).إن البكاء على مصيبة سيّد الشهداء تجديد للبيعة مع عاشوراء وثقافة الشهادة، واستمداد الطاقة الفكرية والروحية من هذه المدرسة. وسكب الدموع هو نوع من إقرار العهد وتصديق على ميثاق المودة مع سيّد الشهداء. وقد أكد أئمة الشيعة كثيرا على البكاء على مظلومية أهل البيت. واعتبروا شهادة الدموع كدليل على صدق المحبّة. قال الإمام الصادق عليه السلام: من ذُكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.البكاء يجلي القلب وينير الدربلا يزال المؤمنون يرتشفون من نبع العز والكرامة الذي فجره الإمام الحسين بدمه الطاهر دروس التصدي لكل أشكال الظلم والجور، والبكاء بمثابة جلاء القلب من الأدران وإنارة الدرب من الأوهام، فهو الذي يزيل تراكمات الذنوب والآثام، التي تجثم على القلب بمرور الأيام، ويصقله ويجعله ناصعاً متلألأً يضيء للمرء دربه في انتخاب الطريق السوي الذي يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، وشاء الله عز وجل أن يبقى مصاب الحسين عليه السلام في قلوب الشيعة والأحرار في شتى أصقاع العالم .. يذكرونه ويبكون ألماً لما جرى عليه وأهله وأصحابه منذ نشوب واقعة كربلاء عام 61 هـ حتى يومنا هذا، وستبقى حرارتها في قلوب المؤمنين لا تزول أبداً. وفيما يلي بعض النقاط المهمة رداً على كل من يتعرض لشعيرة البكاء التي ثبتت عقلا ونقلا: 1- عندما يتذكر المسلم ما جرى في ذلك اليوم من مصائب على ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من عطش الحسين عليه السلام وأهله وأصحابه، ورؤية الحسين لأهله وأحبائه صرعى أمامه وبقائه وحيداً، وذبْح الحسين كما يُذبح الكبش وهو سبط النبي وريحانته وسيد شباب أهل الجنة .. ورفع رأس الحسين ورؤوس القتلى على الرماح .. وحرق الخيام وإيذاء النساء والأطفال وسبيهم وكأنهم ليسوا ذرية رسول الله. عندما يتذكر المؤمنون كل ذلك، فإنه من الطبيعي أن ينبعث من قلوبهم ما لا يتمالكون أنفسهم.. فتحترق قلوبهم ألماً وتسيل دموعهم حزناً على هذا المصاب الجلل الذي لم يشهد التاريخ مثله. 2- إن الشيعة عندما يظهرون العزاء ويجددون هذه الفجيعة، فإنهم أيضاً يتعلمون منها دروساً جمة .. فمن كربلاء تعلمنا إباء الضيم والظلم، والشهامة والشجاعة، وحرية الرأي والفكر، والتنفر من الأخلاق الدنيئة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف مع الحق والتضحية بكل شيء من أجله، والإيثار ... وغيرها من الدروس والعبر. 3- البكاء على الإمام الحسين وتجديد مصابه يعتبر نوع من التأييد لنهضته والإقرار بهدفه، وما ورد في الروايات من أن من بكى أو تباكى أو تظاهر بالحزن فأن أجره الجنة، إنما يفسر بكون هذا الشخص يساهم في صيانة نهضة الإمام الحسين عليه السلام. والبكاء يُعدُ إبقاءً على اتقاد جذوة الثورة وتأججها في النفوس ضد كل طواغيت الأرض.4- قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى). (الشورى 23) إن من أبرز مصاديق مودة قربى النبي هو البكاء والحزن على ما أصابهم من ظلم وغدر وأذى. 5- روت كتب السنة والشيعة، أن رسول الله بكى على الحسين وهو طفل صغير، وقد تكرر هذا البكاء والتنبؤ بالمصيبة في مواقف متعددة .. فإذا كان صاحب الرسالة قد بكى على الحسين مراراً وتكراراً .. فكيف لا نواسيه نحن – التابعين لرسالته – في مصيبته ونشاركه في أحزانه؟ ولماذا لا نتأسى برسول الله في البكاء على الحسين؟!! 6- ونحن نعيش عصر التكنولوجيا والمعلوماتية وما يتشعب منها من أمور مادية بحتة، فإننا بحاجة إلى مد جسور المودة إزاء المعنويات لإحداث الموازنة المطلوبة التي تنتشل الإنسان من حضيض المادة الآسرة إلى رحاب المثل الزاهرة، فالبكاء على الحسين عليه السلام هي البوابة المشرعة للدخول إلى تلك الرحاب بقلوب مطمئنة واثقة، فالقلوب الحزينة هي أكثر عرضة لشآبيب الرحمة الإلهية من القلوب المتحجرة القاسية.7- بعد استعراضنا للأدلة العقلية والنقلية وكل ما يتعلق بشأن إظهار البكاء والنياحة على مأساة الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، تبين بالدليل القاطع أن ظاهرة البكاء ليس بدعة كما ذهب إليه السلفي فحسب، بل أنها لوعة انتابت الأنبياء والأئمة والصالحين، كيف لا والإمام هو وارثهم والتعاطف معه والتواصل إزاء ثورته المباركة إنما هو تعاطف وتواصل مع جميع الرسالات السماوية. ومن هنا حري بحملة الكتاب والسنة التأسي بنبيها صلى الله عليه وآله وهو الأسوة والقدوة، وقد قضى صلى الله عليه وآله حياته كاسف البال، خائر النفس، حليف الشجى والأسى، وما رؤي صلى الله عليه وآله مستجمعاً ضاحكاً حتى توفي (أخرجه بهذا اللفظ الحافظ الكبير البيهقي في دلائل النبوة، وذكره جمع من الأعلام آخذين منه ) منذ رأى بني أمية ينزون على منبره كما تنزو القردة. قال الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله: إننا في المأتم الحسيني نسمع تصويراً تاريخياً لفاجعة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، قتل فيها أشخاص مقدسون، وارتفعوا إلى أعلى المراتب الإنسانية بذلاً وتضحية وفداء في عملية عطاء محض، وقتل فيها أطفال ونساء، عطاشى غرباء متوحدين، وحملت رؤوسهم، وسبيت نساؤهم، كل هذا ليس من أجل أشخاصهم وإنما من أجل أمتهم وعقيدتهم، أمتهم التي نحن منها، وعقيدتهم التي نعتنقها ـ فمن حقنا ـ كبشر أسوياء أن نحزن، وان نعجب وان نشكو وقد يتعاظم بنا الحزن فنبكي دموع الحزن والإعجاب وعرفان الجميل.
https://telegram.me/buratha