أ.د.عبد الرزاق عبد الجليل العيسى
المستشار الثّقافيّ العراقي–المملكة الأردنية الهاشمية razakaa@el-essa.com
وصلتني إشارة من أخٍ صديق ينصحني بضرورة تعريف الثّقافة وعدم مزجها بالتّربويّات والوطنيّات والأخلاق، شافعاً نصيحته بفرضية متفائلة مفادها أن كلّ شخصيّة تربويّة أو أكاديميّة في مجتمعنا هي شخصيّة مثقّفة. لكّنني مجبرٌ إخلاصاً للمصداقيّة على أن أقول بصدق وصراحة وبكلّ أسف إنّ هذا غير متوفّر لدينا في بيئتنا التربويّة والأكاديميّة بالشّكل المطلوب والمرجو. الثّقافة هي السّلوك والذّوق والأخلاق والوطنيّة والتّسامح وحب الآخرين والإدراك السّليم وحسن التّصرف والتمتّع بالقراءة والكتابة والرّغبة في نشر المعلومة ونشر الثّقافة والمساهمة في التّنمية البشريّة مع الطّموح الدّائم للتّسلح بمختلف العلوم والارتواء من منابعها والاطلاع على ثقافات الشعوب وعلى الحضارات الأخرى والاستمتاع بالفنون، بالإضافة إلى التّخصّص المهنيّ أو الأكاديميّ،. أيّ أن المثقّف ليس هو الضّليع في تخصّصه فقط، وإنما هو من يكون مطّلعاً وخبيراً في تخصّصات أخرى بالإضافة لتميّزه بسلوكياته وممارساته الحياتيّة الخّلاقة. ويمكن القول إنّ الأكاديميّ في بلدان العالم المتقدّم هو مثقف بحكم التّحصيل الحاصل، ولكن للأسف كثيراً ما نجد التّربويّ والأكاديميّ غير مثقّفٍ في بلدان العالم النّامي بما فيها العراق،وفي واقع كهذا يجب علينا التّخطيط لاستراتيجيّة لثقافة تربويّة وطنيّة علميّة فنيّة أخلاقيّة .
فالثّقافة كائن ينمو كما ينمو جسم الإنسان،وكما تنمو أعضاؤه، والعقل البشريّ ينمو كذلك عبر تغذيته بشتّى عناصر الثّقافة دون حصرها في منهج دراسيّ أو تعليميّ،وهذه العناصر تبدو مثل ذبذبات أو إشارات أو نسمات غير محسوسة،مثل الرّياح والنّسمات التي تصنعها حركة أجنحة الفراشات. ولإعداد هذه الاستراتيجيّة ينبغي أن يتمّ تبنّيها من قِبَل وزارات التّربية والتّعليم العالي والثّقافة بالإضافة لبعض منظّمات المجتمع المدنيّ وفق بحوث ودراسات واستقصاءات وتحليلات وجلسات عصف ذهنيّ ومشاركات واسعة على المستويين المؤسّسي والفرديّ التي تحتاج جميعها إلى وقت طويل؛إذ لا يمكن لمؤتمر واحد تقدم فيه أوراق بحث أن يخرج وحده باستراتيجيّة كاملة للدّولة على الرّغم من أهمية ما يمكن أن يقدّمه الباحثون في أوراقهم العلميّة . إنّ وضع استراتيجيّة للثقافة ذات أهداف محدودة بمشاركة جميع الدّوائر والمؤسّسات المعنية متضمّنة برامج وآليات خاضعة للمراجعة والتقييم وإعادة النّظر لم يعد ترفاً أو طموحاً غير واقعي أو أمراً فائضاً عن الحاجة في عالمنا المعاصر.
لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الدّور الثّقافيّ في التّنمية البشريّة الشّاملة سوى الجهلة،لذلك يجب أن نؤمن بدور الثّقافة في تهيئة العقول للمساهمة الفاعلة في التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة والبيئيّة،كما نؤمن بدورها الأصيل والأكيد في تطوير القدرات والخبرات،وفي استثمار المبادرات لتطوير الصّناعة والتّجارة والزّراعة الوطنيّة ولتعزيز الاقتصاد الوطنيّ، وفي إثراء الحياة الرّوحيّة لتحقيق السّعادة للمواطنين. ومن الضّروريّ أن يكون هدف الثّقافة هو الحفاظ على قيم المجتمع ونشرها واتخاذ الخطوات لضمان تربية الأجيال المستقبليّة عليها لاسيما قيم الصّدق والأمانة بالإضافة لقيم الحرية والمساواة والعدالة واحترام القوانين وحب العمل والإخلاص فيه والتّسامح واحترام الآخر مهما كان جنسه وشكله وعمله وطائفته ودينه ولاسيما ذوي الاحتياجات الخاصّة،ومنحهم الرّعاية اللازمة ضمن البرامج العالميّة لحقوق الإنسان ووضع الآليات لغرس جذور المواطنة لدى الأطفال والشّباب وترسيخ قيم أكثر تجريداً وموضوعيّة وحياديّة مثل التّعلّم الدّائم والتّفكير الاستقرائيّ والمحاكمة العقليّة للقيم الصّالحة وربط السّلوك بالقدوة . إنّ غياب الاستراتيجيّة الوطنيّة في المجال الثّقافيّ سيكون له شأن في تراجع التّنمية البشريّة وتهديد الأمن الوطنيّ،وسيعرّض المجتمع للتفكيك القيميّ وتفتيت التّماسك الاجتماعيّ بالإضافة إلى ما سيبرز من ظواهر الفساد والعنف المجتمعيّ والتّعّصب وضعف الانتماء الوطنيّ وضعف الوعي السّياسي والإدراكيّ.
إنّ الدّولة -بالتّركيز على وزارات التّربية والتّعليم العالي والثّقافة بشكل أساسيّ بالإضافة لوزارات ومؤسّسات أخرى- هي المسؤولة عن الإعداد لبرامج التّنمية والانتماء الوطنيّ وزرع قيم المواطنة ونشرها وتعزيزها مع قيم أخرى ضروريّة في المجتمع من شأنها أن تشكّل الحاضنة الثّقافيّة المرتبطة بخطط الدّولة التّنمويّة .
ومن الخطأ أن يُلقى عبء ذلك كلّه على وزارة واحدة بعينها مثل وزارة الثّقافة مثلاً لتناط بها مهمة وضع الاستراتيجيّات للبرامج الثّقافيّة للمجتمع،وأنا أصرّ على عدم قدرة وزارة الثّقافة على القيام بمفردها بتحفيز ثقافة المجتمع، بل إنّ هذا الدّور يجب أن يُلقى على عاتق مؤسسات الدّولة جميعها وعلى المجتمع كلّه وعلى مؤسّساته الثّقافيّة والتّربويّة والعلميّة ومثقفيه المحمّلين بالهمّ الثّقافيّ. ولذا سيصبح لزاماً على الوزارة إشراك الأطراف كافّة في صياغة الاستراتيجيّة، على أن تحتفظ وزارة الثّقافة بالإضافة لوزارتي التّعليم العالي والبحث العلميّ والتّربية بالدّور القياديّ والمنظّم والمشرف والمتابع والمراقب والمقيّم للخطوات العمليّة والتّطبيقيّة للخطط والبرامج المخطّط لها ضمن الاستراتيجيّة. إنّ الدّور الرّياديّ لوزارة الثّقافة هو رعاية البرامج والمشاريع الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المتنوّعة في المجتمعات المحليّة وتفعيلها، وكذلك يجب أن يكون دورها فاعلاً في الارتقاء بأداء المبدعين والمثقفين،وتوفير الآليّات المحفّزة لاستقطابهم ورعايتهم، ويجب كذلك أن تؤمن بالدّور التّنويريّ للمثقف وبتنمية قدرات الإنسان الذهنيّة والعقليّة،وبناء المجتمع وتطويره ضمن منظومة القيم الحضاريّة. وفقاً لذلك كلّه يجب أن تكون رؤية وزارة الثّقافة واضحة،وتُحدّد فيها ماهيّة العمل الثّقافيّ انطلاقاً من مفهوم كلمة (الثّقافة)،ثم تحدّد المكوّنات الأساسيّة للجسم الثّقافيّ وآليّات تنفيذ برامجه. كذلك من الضّروري أن تخرج الوزارة من الأطر التّقليديّة،وأن تبني جسوراً من التّعاون مع المؤسّسات التي لها دور في تعليم النّشء وتثقيفه، مثل وزارات التّربية والتّعليم العالي ووسائل الإعلام والأندية الشّبابيّة والرّياضة للتّعاون في غرس أنماط ثقافية ايجابيّة وفي تعزيز النّسيج الاجتماعيّ والحضاريّ لعراقنا العظيم.
وبشكل أكثر شموليّة يمكن القول «إنّ المؤسّسات الشّريكة لوزارة الثّقافة هي منظّمات المجتمع المدنيّ و وزارات التّربية والتّعليم العالي والرّعاية الاجتماعيّة ودوائر الأوقاف والإعلام وباقي المؤسّسات المسؤولة التي لها دور في التّنمية البشريّة،ومن الضّروري أيضاً وضع سياسات للبحث العلميّ للنّهوض بالسّلوك الثّقافيّ وتعديل المناهج الدّراسيّة وخطط التّربية والتّعليم العالي والمؤسّسات الإعلاميّة بما يرتقي بالثّقافة السّلوكيّة والمهنيّة والوطنيّة والعلميّة والفنية ضمن المبادئ التي أقرّتها الأديان السّماويّة جميعها من تعاليم وقيم سلوكيّة وأدبيّة.
إنّ متطلّبات الاستراتيجيّة تستوجب تحديد الأهداف المشخّصة من قبل الأطراف المعنيّة كافّة،وبعدها يتمّ وضع الخطط المتّفق عليها من قِبَل الأطراف جميعهم مع وجود الاستعداد للالتزام والحرص على تنفيذها على أن يتم إعادة تقييم الخطوات المتخذة ضمن فترات زمنيّة محدّدة بعد الاستقصاء والسّؤال عن الشّرائح المستفيدة جميعها، وإعادة النّظر في كلّ مسار متدني التقييم .
ومن الواجب استمراريّة تقديم تحليل موضوعيّ للبيئة الثقافيّة للوقوف على نقاط القوة ونقاط الضّعف وتقييم فرص النّجاح وحصر التّحديات،وذلك بإعداد قاعدة بيانات ومعلومات في كلّ ما يتعلّق بالشّأن الثّقافيّ مثل مستوى التّعليم ودرجاته وأنواعه وتوزيعه حسب الفئات المتباينة في شتّى المناطق،ورصد نسبته بين شتّى فئات المجتمع. وكذلك رصد نتاج التّأليف والتّرجمة والأبحاث والدّراسات العلميّة والنّدوات والمؤتمرات الهادفة والاحتفاليّات بالأيام أو الأسابيع العالميّة والوطنيّة وتقييمها واحتسابها،ورصد الفعاليات الثّقافيّة وأعدادها و حصر أعداد مرتاديها ونسبهم،وتصنيف نوعيّة شتّى النّصوص الثقافيّة الموظّفة في المناهج الدّراسيّة،ورصد نسبها مقارنة بالنّصوص الأخرى الموظّفة في الشّأن نفسه.ومن المهم دراسة برامج النّشاطات والمبادرات اللاصفيّة أو اللامنهجيّة والثّقافيّة ضمن الأيام الثّقافيّة والدّراسيّة في المدارس والجامعات والمعاهد المهنيّة. أمّا العامل والمعيار المهم والمؤشّر لرقي ورفعة الثّقافة هو عدد المراكز أو المدن الثّقافيّة وعدد المتاحف والمعارض الفنيّة والمكتبات والمعالم الأثريّة والتّراثيّة في مختلف المدن الكبيرة والصّغيرة على حدٍ سواء إلى جانب رصد أعداد مرتاديها.
إنّ مستقبل التّنمية البشريّة والنّهوض بالواقع العلميّ والثّقافيّ والاقتصاديّ والصّحيّ والاجتماعيّ منوط بكافة مؤسّسات الدّولة، وهذا العمل يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير ودؤوب ومخلص وخطّة عمل فرق لا فريق واحد مع الاستعانة بالمتخصّصين من الباحثين وبمراكز للدّراسات والإحصاءات لإجراء الاستطلاعات وجمع معلومات وبيانات.ولا شكّ أنّ وضع الاستراتيجيّة الثّقافيّة هي الخطوة الأولى والأكيدة نحو عراق متقدّم مستديم التّنميّة .
18/5/1403010 تحرير علي عبد سلمان
https://telegram.me/buratha