سعد الزيدي
-- قديما قال أحد فلاسفة الغرب: تَقدم الغرب بِتركِهم دينهم وتأخر الشرق بِتركهم دِينَهُم--
منذ وجود الإنسان في كوكب الأرض وهو يمثل ساحة صراع لعوامل الخير والشر فهو يعيش حالة الكر والفر بين مفاهيم الظلام ومفاهيم النور ، أن طبيعة هذا الصراع واستمراره يجعل نتائجه نسبية، وهي عرضة لانقلاب موازين القوى فكلما حصلت إضافات نوعية في جبهة تغلبت مفاهيمها وهذه توجد حالة تطور وتكامل في سلم الوصول إلى الله سبحانه وتعالى وحالة النكوص والابتعاد عن سبيله ( أنا هديناهُ السّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفوراً )، وتظهر في هذا الصراع تحولات نوعية في حقب زمنية مختلفة تشكل فاصلة بين عصر وعصر . فعند ظهور الإسلام في القرون الوسطى مثَّل نقلة نوعية متفردة في تاريخ الإنسانية ، كان الإنسان الشرقي ابن الديانات السماوية في حينها يعيش جاهلية جهلا نتيجة تغلب عوامل الشر والظلام والجهل فكانت أغلب أفعاله لا يحكم فيها العقل وهي متخلفة وبمعزل عن ابسط النظم الاجتماعية للشرائع السماوية وبالتالي ليست كما أرادته السماء للإنسان حقا ، وما أن أخرجه الله من الظلمات إلى النور ببركة الرسالة الإسلامية، حتى رجحت كفة الخير ونفض عن كاهله غبار حقبة طويلة من التخلف، فبنى حضارة أُساسُها قيم السماء العقائدية والأخلاقية من العدالة والمساوات والحرية الشخصية والاجتماعية وسيادة العقل واحترام العلم ، وأصبحت منارا يهتدي به في وقت كان يُخيم الظلام على أخيه الإنسان الغربي تحت تعاليم الكنيسة.
غير أن أصحاب أرادة الشر من الوثنية الجاهلية والديانات التي نقضها الإسلام، وبمؤازرة قوى الردة والظلام وضعاف الأنفس الذين لم يدخل الإيمان إلى قلوبهم، تحالفوا جميعا على إعاقة انتشار الإسلام ومنع ترسيخ قيم السماء في النفس البشرية، فكان تأثير هذا التحالف أن تغلبت عوامل الشر والخداع على عوامل الخير والصدق ثانيةٍ، وتراجع الإنسان المؤمن وتزايد ألانحراف في مسيرة الأمة عن جادة الصواب شيئا فشيئا، حتى فقدت بريق حضارتها وتوقف التطور.. إن انكفاء الشرقي راجعا إلى جاهليته، فأصبح عبدا لأخيه الغربي الذي كان يعتنق رؤيا هلامية بعد تحرره من سيطرة الكنيسة ـ أن صح التعبير ـ (غير ذاهبين إلى التفاصيل).. فهو قد خرج من رق الكنيسة ليقع في رق نظريات الراسمالية والإقطاعية والطبقية والشيوعية، فهذا يسلب منه الحرية الشخصية والملكية الفردية، وذاك يُسيد رأس المال ويسترق الانسان.وهنالك مؤشر يستحضره كل باحث حيادي هو أنه لم يكن تحرر الإنسان الغربي من عبودية الكنيسة تحررا ناجزاً، لأنه نظر إلى ما حوله فكانت حاجته يسدها الإفلات من سيطرة الكنيسة.. لكن إلى أين ؟ لا يدري..
لم يحسم ذالك الى اليوم تتقاذفه النظريات الوضعية والاحتمالات ، وعندما أستعرض مسيرته في نهايات القرن العشرين على يد علماء الاجتماع، ولملم بضاعته لم يجدها غير سراب بقيعة، هذه الحقيقة كان الإنسان الشرقي قد تحسسها بعد الحرب العالمية الأولى، فتيقن فشل صنوه الغربي في تحريره وحتى في إسعاد نفسه، سيما وأن تواجده على ساحة الشرقي بجيوشه غازياً مستعمراً له، لا محررا ولا فاتحاً، وأنه ساعد عصابات الصهاينة على احتلال أرض العرب المسلمين وتدنيس مقدسات الإسلام ،عندها استرجع شيء من تاريخه وتنبه إلى أنه أولاً كان قد سبق غيره في اكتشاف حقيقة علة الوجود الإنساني في هذا الكوكب على يد الأنبياء عليهم السلام، وأنهم بنوا له حضارة تكفلت بإسعاده ،وثانياً أنه أستُعبدَ نتيجة ابتعاد فعله عن منهج السماء ،وثالثاً لا خلاص له إلا بالعودة لجذوره وقواعده ومنظومته المعرفية السماوية ، وقد مهد لذلك من خلال الجمعيات السرية فكان الغذاء الروحي للشباب المؤمن آنذاك هو العمل الثقافي من أجل تنمية روح التحرر لدى الإنسان الشرقي من الاستعمار والتبعية من خلال مناهج وخطب علماء الدين الثوريين المتواجدين في ساحات الفعل يؤثرون ويتأثرون بها، حتى تنامت هذه الروح الثورية فجاءت ردة فعله بصيغة العمل الجهادي الثوري الثقافي والعسكري رافعة شعار التحرر ومن الطبيعي أن تكون ردة الفعل في بداياتها عشوائية وضيقة ومحدودة الأهداف.
يضاف إلى ذلك طبيعة الإنسان الشرقي ،فهو أما قد استعجل النصر فلم يدركه، أو قد استحوذ المستعمر على تفكيره وذلك أكثر الاحتمالات، فأنساه الحالة التجسيدية لمعتقده وصلته الثقافية بحضارته فأفقده الأصالة والموضوعية، وهذا يتضح من خلال بقاء الإنسان الشرقي في آلياته واستراتيجيات تحرره، يحاكي ما يعتقده حضارة غربية ،حيث استمر يقلد ويعتنق هذه النظرية أو تلك التجربة ردحا من الزمن حتى كثرت خسائره، ورغم أن بعض ردة الفعل كانت وليدة تضحيات وثورات أو انقلابات عسكرية من جماعات ثائرة، لكنها تحولت فيما بعد إلى أنظمة دكتاتورية مرتبطة بشكل مباشر بمصالح صهيونية، أو استطاعت الصهيونية النفوذ إليها فأبعدتها عن مصالح الجماهير، إلى أن جائت حركة الشباب المؤمن بحتمية نصر الله لعباده المؤمنين فشكل الطلائع الإيمانية لقيادة جماهير الأمة، فكسر حاجز الخوف وحشد إمكانات الجماهير الفطرية التي تريد العودة إلى ذاتها، فالتغير لن ينتظر إلى مالا نهاية، أو يتوقع أن يأتي من جانب النخب والأحزاب والقيادات التقليدية، ولذالك كان تغييرا حقيقيا .. وبنظرة موضوعية فإنه ليس بالضرورة تجسيدا حيا للشريعة الإسلامية، بل هو تعبير عن عودة الناس إلى فطرتهم، وبدا المسلمين في الصفوف الأولى.
أن الصحوة قد تجاوزت مرحلة التأسي وأن التغير قادم إلى كل الأنظمة المستبدة، والصحوة تسير بخطوات واعية، وقد وضعت الإنسان التواق الى الحرية مهما كان معتقده بمواجهة مسؤولياته التاريخية،وهو أمام طريقين أما إتباع المعرفة وذلك طريقه العملي الشريعة الإسلامية السمحاء المجربة، وإما أتباع غيرها فلن يحصد غير الندم كما حصد أسلافهم.. أن معيار الحقوق والواجبات في الشريعة الإسلامية هو المواطنة، وهي الأساس للتصاعد رقياً بالعمل والعطاء، لا بالانتماء الولادي وفيها ( لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى)..أو كما صرح بذالك المؤتمن على شريعة رسول الله صل الله عليه وآله وسلم خليفته علي بن ابي طالب عليه السلام: (والإنسان أما أخوك في الدين أو نظير لك في الخلق).
هذه هي الشريعة، لأن المسلم ينظر إلى بني جنسه بمنظار الإنسانية ، وفي مفردات هذه الشريعة آليات العمل على تحرير الإنسان من رق آخيه الإنسان، وهدايته إلى إعمار الطبيعة التي مهدها الله له ومن اجله وفقا لمبدأ الأستخلاف الذي هو مفهوم أساس من مفاهيم الشريعة الأسلامية..
وعلى هذا فإن التحرك الشبابي تحت راية الإسلام لإسقاط الأنظمة الإستبدادية، والتي إستعبدت الأمة مفشية فيها الفقر والتخلف، هو عودة إلى ضمير الأمة وتصحيح مسارها الجهادي. لأن هذه الأنظمة لم ترقى يوما قط إلى مستوى تمثيل ضمير الأمة ومصالحها ( أن الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم ) أن هذا المسلسل لحراك الشعوب المسلمة خلال أكثر من نصف قرن رافعا راية الإسلام، والذي يعبر عنه اليوم أو ما اصطلح عليه محليا وعالميا بالصحوة الإسلامية ،هو تعبير عن حالة الوعي العميق لمفاهيم النظرية الإسلامية وتأكيداً على أنها تتكفل الحكم والإدارة لتلك الشعوب مهما تعددت وتنوعت مكوناتها ، وهو تعبير أيضا لحالة النهوض في صفوف الأمة الإسلامية، ويعد تطورا اجتماعيا نوعيا في المنطقة، لما يحمل من مفاهيم الأصالة ،وهو مشروع ستراتيجي تشترك في فعالياته كل مكونات الأمة، وبالتالي هو ثورة عالمية تضم كل عناصر القوة والديمومة والمعالجة الآنية والإستراتيجية لمشاكل الإنسانية..
لا يقدح بصحة وقوة التوجه الإسلامي لدى شباب الثورات الإسلامية في مختلف الأقطار العربية لأنه لم يحمل برامج معلنة وليست بأيدي قيادات تقليدية، حيث أن الذي يعرف عناصر القوة الحركية في المجتمع الإسلامي والمتتبع لتطور الحركات الإسلامية، يعي تماما نوع ومعنى وقوة المفردات التي يستحضرها الشباب المسلم في حراكه المجتمعي..فمادام الإسلام هو العقل الجمعي الذي يوجه تحركهم، فعدم وجود البرامج المستقبلية أو عدم وجود الاستحضارات أو كون قياداتهم من غير المعروفة في ساحة العمل السياسي لا يشكل حالة ضعف وعدم استعداد لمواجهة المستقبل، فهو مستحضر دائما ولكن لا يحسب بحسابات الأيدلوجيات الوضعية هذا أولا ، وقد تعتبر هذه عوامل قوة وصحة لنوع التوجه والتحرك لمباغتة الأنظمة الفاسدة وإسقاطها ثانياً وهو لم يبدءا من الفراغ أو نتيجة ضغط عوامل الجوع كما صوره بعض الاعداء، وهذا ما أفصحت عنه شعارات الثوار وتوجهاتهم...
أن الطلائع المؤمنة بحق الأمة بالعيش الكريم تحت الشمس وبين الأمم، يحسبون العمل الثوري تحت راية الإسلام امتدادا طبيعيا و تجسيدا لمنهج أصيل قديم تربت عليه الأمة، وفيه من الوضوح بخصوص التظاهر والاعتصام ورفع الشعارات وغيرها من مظاهر الرفض للحاكم الظالم أو المنحرف ما لا يوجد في غيره، ولأن العمل الثوري يشكل تراث حي متفاعل، وشعور عام متحرك بممارسات يومية يردده الإنسان المسلم جيلا بعد جيل، معتقداً بصحته وبأهميته ، فهو تجسيد للعقيدة الإسلامية في قيادة الأمة ومعالجة متطلبات الحياة الإنسانية، كما أن الإيمان بصحته قد ترسخت في عمق الإنسان المسلم، بعد فشل المنظمات العالمية في إيجاد الحلول الجذرية لمشكلات العالم، والبحث عن سبل واقعية للتعايش السلمي بين البشر، وهو دليل على نفوذ الوعي الإسلامي إلى أعماق الطبقات المثقفة، تلك التي كانت يوم ما تعتقد وتصفق للنظريات المستوردة، وهذا ضمان للقوة و دليل على فشل الأيدلوجيات الوضعية في معالجات التراكمات السلبية التي تركتها النظريات الغربية..أن أخفاء العمل بموجب الشريعة الإسلامية ضمن أجواء مضغوطة من مراقبة القوة المعادية لهذا التوجه فهو حالة من الاحتياط الضروري..
ان رفع شعار الإسلام للعمل الجماهيري في الساحة العالمية بقدر ما يحمل من مخاطر تحالفات كل القوى المعادية، يحمل من القوة أضعافا مضاعفة. لأنه يعني تحالف كل مكونات الأمة، ويسهل على الفصائل الشبابية مهما ابتعدت من حيث المسافات على توحيد برامجها، وتحالف الفصائل الثورية في الأمة هو استنفار لكل عوامل القوة التي يخشاها الأعداء ،وهم لن يستطيعون مواجهتها، ومن المحتم سيبتعدون عن حالة التصادم المباشر معها ،فإذا كان التحرك العفوي للشباب واعتماد الإسلام دستورا ومنهجا قد فوت على الأعداء بتوفيق الله فرصة القضاء على هذا التوجه الإسلامي، فعلى الشباب بعد ان أصبحت ثوراتهم واضحة بوضوح النهار زيادة التمسك بحبل الله والتحرز من أساليب الأعداء، فهم إن لم يستطيعوا الاستحواذ على الثوار وإفراغ المضامين الحقيقية للثورات، فأنهم يحاولون استبدال بعضها تدريجيا وبالتالي يصلون إلى مرامهم من سرقة الثورة أو توجيهها بعيدا عن أهدافها...
إن من المخاطر التي تهدد الثورات الإسلامية إقليميا، هو التحالف الصهيوني مع الرجعية العربية الحاكمة في بلدان العرب، وتحالفهما مع بقايا التخلف والاستعمار بدعم معلن وغير معلن من أمريكا والحركة الصهيونية والماسونية. أن إفشال هذه المشاريع المضادة والتصدي للعقبات والإخطار يأتي من أولاً التواجد المستمر والفاعل في الساحة الجهادية والاستعداد الدائم للعطاء والتضحية وثانياً الابتعاد كل البعد عما يفرق الصفوف ويجب ترك الخصوصيات كل في ناديه لأنها تولد صراعات طائفية وقبلية ، وثالثاً التركيز على حالة التقارب من خلال تفعيل المشتركات والاهتمام بقضايا الأمة الأساسية واعتبارها أهداف مركزية مثل تحرير الاقتصاد وتحرير القرار وتحرير الأرض والمقدسات ورابعاً الاعتماد على القدرات الذاتية للأمة ومصارحة الشعوب .هنالك واجبات على الشعوب والقيادات الإسلامية اتجاه هذه الثورات وعليها أن لا تعتذر بما يروج له الأعداء من أكاذيب تحت عنوان تستنكر التدخل بالشؤون الداخلية وما إلى ذالك .أن المؤتمر الذي انعقد مؤخرا في الجمهورية الإسلامية في إيران أوضح معالم الخطر الذي يغشى منه على الصحوة الإسلامية وبقسميه الداخلي وهو الكامن في المناهج الثقافية أو الذي يفتعله المتصيدون في المياه العكرة من النفعيين والانتهازيين والخارجي الذي تغذيه الصهيونية والقوى المعادية لتطلعات الشعوب في العيش الكريم والذي يحيكه الأعداء في ضوء النهار وأمام أنظار العالم .
https://telegram.me/buratha