جاسم محمد الصافي
المثقف السياسي هو الضمير الحي داخل الامة كما انه الوعي القادر على استيعاب تاريخها وثقافتها وسياستها العامة وبهذا فهو لا يضيق افقه العلمي والعملي مع اتساع المواريث والتقاليد والاعراف والتشريعات السياسية والدينية والانجرار وراء خديعة المرحلة وظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، فالمثقف ليس مخزون او كسب للمعرفة ، بل هو منظم ومحرك لرصيد الثقافة ومفعل لها في تجربتة العامة لتصبح انموذج معرفي يعني الجميع ، وهذا يتم من خلال وعيه المتأمل والكاشف لما هو مخبئ من معارف لا تظهر الا مع تفاعل الادراك والمكتسب ليكون طاقة تتبرعم بمرور الوقت , وهذه الطاقة لابد أن تترجم الى فعل اجتماعي او سياسي يواكب ويوازي الفعل الثقافي الذي يمتهنه المثقف , ليجعل من صفته السياسي مثمرة لا تقبل الاندثار أو التسويف أو حتى الضياع بين ضبابية الادلجة والتحزب والعنصرية كما يجري مع البقية ، وتبقي روح المثقف متمردة ومتعالية على أي انتمائه وتنفر من التحيز ومع هذا لا يمكن أن تتغلب على طفيليات العقل السياسي المخادعة والمراوغ الذي يتسبب بانهيار طاقة التمرد والتشكيك وهما راس مال المثقف ، بل ان تلك الطفيليات السياسية تحول المناعة والاعتراض والثورية المكتسبة من درع المعرفة الى مرض يسعى من يصاب به للبحث عن مكاسب ومغانم سلطوية وحزبية وبهذا ينحدر الى درك الرغبات التي تقتل المثاقفة ، حتى يتحول من مشروع انساني الى مجرد مشروع ضمني لتبرير وتمرير ادلجة السلطة او الحزب , وتتلاش فيه حالات النقد والتصحيح أو التغيير بل يكون اداة للتبرير ، بمعنى انه يصبح مجرد ترس في ماكنة الحكومة أو الحزب ، وهذا هو اهم الفروق العديدة ما بين المثقف السياسي والمثقف المسيس وهو لا يعني فرقا شكليا او نوعيا بل هو فرق في جوهر ومحتوى الذات , ويعتمد هذا على نسبة التفاوت وميل المثقف نحوى تلك التوجهات والادلجات فهو لايني ان لا نمتلك من فكر الاخرين بقدر ما ان لا يكون توجهنا بمعزل عن التنوع والثقافة المكتسبة ، ان المثقف بالشكل العام يبقى المرادف لتصرفات السلطة والند لأغلب قراراتها بل هو المصحح والسلطة الحقيقة والعاقلة والمديرة للسلطة الحاكمة ، كما أن للمثقف ميزة اخرى هي أنه لا يعتمد في ردة فعله على مؤثرات محيطه ، بل أن له خلق وابداع ونضوجا يومي تشعلها المعارف والشكوك ويحركه دوافع الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع مع نكران الذات , ضمن حدود تفاعلات الواقع المتغير , وعكس ذلك هو ما يجري مع المثقف المسيس أو المثقف الاختصاص أو ( المثقف المختص ) الذي ينقاد وراء علم ما , وينتظم ادركه لهذا المسلك او تلك المهني الموكل اليه ، دون ان يبحث عن ما وراء هذا المعنى أو الاسباب والمسببات لنتائجها والغاية من انجازها ، لذا تكون مقدرات الابداع ضمن ادوات ما تعلمة فقط , لذا نجد فردريك انجلس يقول من ( ان العالم خارج مختبره نصف أمي ) أو كما يقول العقاد ( لقد لحست ادمغتنا الكتب وجعلتنا نعيش على هامش الحياة نحس وجعا واغترابا زمانا ومكانا ، اذ تجد البون شاسعا بين اهتماماتك ومشاغلك الثقافية واهتمام الناس ) وهذا الامر ينطبق على السياسي فهو ايضا لديه فكر لكنه مشروط بضوابط وأدوات المختبر السياسي ، في حين اننا نجد المثقف في تطلعه الى المعرفة وهي مهنته وطوق نجاته الفكري والأخلاقي يجد في تصديه للعمل السياسي , انه يمتلك سلطة اخرى تقوي تمرده واحتجاجه وثوريته بل توسع مداركه فهو متعلم ومعلم وليس لاحدهما الانفصال عن الاخرى والا كان مثقف اختصاص او سياسي ، لذا فهو يستمد منها قوته على مواصلة التحدي والعناد لتصحيح وهذا ما يجعل السلطة تحاول انتزعها منه بكل السبل حتى وان كان في اشركه داخل السلطة ، وهو ما يجعلنا نسمع من المثقفين صراخا مدويا ( لا تدنسوني أريد التمتع بإرادتي الحره )
ولتوضيح حقيقة هذه السلطة اذكر ما قاله الغزالي في أحياء علوم الدين ( ان الفرق بين العلماء والسلاطين هو في دائرة سلطتهم وحكومتهم فالعلماء يحكمون على القلوب والسلاطين يحكمون على الأجساد وحكومة القلوب أعلى مرتبة من حكومة الأجساد بل ان الحكومة على القلوب تمهد الأرضية للحكومة على الأجساد وتوحي لها بالطاعة فالمشروعية الأساسية هي الحكومة على القلوب فيجب ان يكون القلب مطيعا حتى يكون البدن مطيعا أيضا بالتبعية ) لهذا كانت سلطة الكيلاني مثلا أقوى من الخليفة اذ كان يهدده في كل مرة وهو يخاطب نخلة تتوسط مجلسهم ( يا نخلة لا تجوري ...اقطع راسك ) ولعل هذا من أهم الإجابات عن تساؤلات تتردد من البعض : لم السلطات على مر الزمان تحارب المثقف بدلا من ان ترعاه ؟
أن السلطة تريد ان يكون الكل تحت وصايتها , ليكون بذلك المثقف مثقف مسيس أو مثقف تبعي او تبريري يبني أفكاره على ثوابت لا تتحرر عن فكر السلطة لذا فهي تتبع كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافها وهذا ما نص علية مبدأ ميكيافيللي ( الغاية تبرر الوسيلة ) وهو من أكثر الاسباب التي تبعد المثقف عن العمل في المجال السياسة فهذا المبدأ الميكيافيللي يرفض خضوع السياسي لأي قاعدة أخلاقية كما وانه يوصي بان النجاح من اجل الوصول الى السلطة هو باستخدام المصانعة والرياء معتمدا بذلك في فصل السياسة عن الأخلاق ( لان السياسة لا تقوم على الأخلاق أنما تقوم على المصلحة العامة او الخاصة ) لذا فهو لا يهتم كثيرا الى النواحي الشرعية او الأخلاقية بقدر ما يهتم للمنافع وللغايات التي تحقق أهدافه وكما يقول (لاروشيفوكو) الفرنسي ( أن المصانعة هي الجزية التي تدفعها الرذيلة للفضيلة ) وهذه هو الشكل او الوجه الذي يجب ان يظهر فيه السياسي ، وكما اكده لينين بقولة ( إننا من اجل أعداد أكلة أملت لابد من كسر عدة بيضات ) ويعني بذلك أن السبيل لانجاح العملية السياسية هو في إسقاط بعض من المبادئ لاجل الوصول لتلك الاهداف وهذا ما يوسع فجوة الفارق ما بين المثقف المسيس والمثقف السياسي وهنا يطرح على اذهاننا سؤالا مهم : هل السلطة تملك أخلاقا خاصة بها وان كانت كذلك فما هي هذه الاخلاق ؟
يجيب عن هذا السؤال ماكياولي العالم السياسي الايطالي بقوله من ( أننا نملك نوعين من الأخلاق أخلاق السادة وأخلاق العبيد أخلاق الحاكمين وأخلاق المحكومين ) ويضيف في تبريره لهذا الجواب ( ان الحاكم يجب عليه إتباع سياسة الثعلب ومنهج الأسد لان الأسد لا يمكنه الفرار من المصيدة والثعلب لا يمكنه التخلص من الذئب ومن هنا ينبغي على الحاكم ان يتصف بالثعلبية لمعرفة مكان المصيدة والفخ ولابد ان يتسم بالسباعية ليدفع شر الذئاب وعلى ضوء ذلك فالحاكم الذكي لا يمكنه ان يلتزم دائما بعهوده ومواثيقه حتى في صورة الضرر فلا دليل على ضرورة التزامه بهذه المواثيق إلا أذا كانت تصب بمصلحته ) لاحظ الضرورة التي دفعة العالم السياسي الايطالي ماكياولي الى تمديد الاخلاق وجعلها مزدوجة ما بين طبقتين في المجتمع الحاكم والمحكوم بينما نعلم جميعا أن الاخلاق هي علم منفرد وقد ثبت منذ القديم هذا العلم مثالي وهو معياره لتدني ورقي الانسانية لكل البشر ، اذ يمكن أن نسقط بعض الفروض والواجبات التي تتطلبها المرحلة من اجل ما هو اسمى واكبر فمعلوم أن لكل عمل سياسي هدفه العام الذي يسقط بفرضه الخاص أو يجمد بعض من فروعه مما يوهم الاخرين من أن كل الوسائل اللاأخلاقية مقبولة في العمل السياسي وهي مغالطة كبيرة .
ولو نظرنا الى الوجه العام للحضارة الإنسانية في صراعها الروحي والمادي لوجدنا أنها تترك فواصل مرحلية في نهاية كل منها جوهر من الثبات لاصطفاف القيم الإنسانية من جديد ، مما يشكل استفهام كبيرا حول معنى التناقض الأخلاقي الذي ينمو مع اي صراع سياسي ، والحقيقة أن السياسة تعتاش على ازمات استبداديه واستيلاءيه على القيم والأخلاقي من اجل دحض الثابت بالقوة الاقتصادية والقهرية ، لهذا نجد تزاحم في هذا الاجتزاء ينتج صور ورؤى وأفكارا ومفاهيم روحية من جهة ومادية ايديولوجية من جهة أخرى وهذا سر تظافر الديماغوغي السياسية والاقتصادية للتضيق على الجماهير في ظل اي صراع سياسي ليتسبب ذلك في عطب ارده الجمهور لتستسلم لرغبات الحاكم والتي مع التظليل الاعلامي والتعود الزماني تصبح مشروعة ، ان ميكيافيللي اعطى صورة جزئيه او مرحلية من وعي التجربة الانسانية من اجل أن يتم له فصل الأخلاق عن السياسة بحجة انها خاضعة لتقلبات الحاضر والمستقبل دون أن يلتفت الى ان هذه التجربة الانسانية ستكون بمجموعها تحت وصاية التاريخ العام ولهذا يكون حجز الاخلاق ما هو الا حجزا للجانب الدين عن الجانب السياسة الذي يتوجه نحوه فكر وفلسفة العصر الحديث
https://telegram.me/buratha