د. غانم المحبوبي
ألحدث ألتأريخي: بُعيد إنتصار ألإسلام على حياة ألجاهلية في جزيرة ألعرب، بما فيها من إستعباد وتخلف أخلاقي، وما تبع ذلك من إستقرار وعدالة إجتماعية عامة جاءت خلافة عثمان بن عفان كمُنتخبٍ بألشورى ومُبايَع من قبل عامة ألمسلمين، وبغض ألنظر عنما يختلف عليه ألشيعة ألإمامية. ومن ألحقائق ألنادرة في موروثنا ألديني وألتي لايختلف عليها ألمسلمون هي تفشي ألفسادُ ألإداري وألمالي في مفاصل ألدولة ألإسلامية في عهد عثمان أدت إلى خروج ألرعية من ألمسلمين من أغلب ولايات ألدولة كمصر وألكوفة وألبصرة وغيرها (عدا ألشام) ثائرين على إدارة ألخلافة ألإسلامية ومطالبين بحقوق مشروعة ضد ألفاسدين. كذالك يتفق جميع ألمسلمون على مصداقية وشرعية ألثوار ألسلميين مطالبين بألعدالة ألإسلامية وألرجوع إلى سنة ألرسول (ص) في إدارة أموال ألمسلمين.
مع شديد ألأسف ونتيجة لثقافة ألعنف وألوحشية ألجاهلية أدت بأغلب ألثوار، وبتحريض من قبل إحدى أمهات ألمؤمنيين بفتواها ألشهيرة "أقتلوا نعثلاً (أي عثمان) فقد كفر" وبقيادة بعض من ألصحابة "ألمبشرين بألجنة"، أن حاصروا بيت ألخليفة عثمان مطالبين بإزاحته وإلا فمصيرهُ ألقتل. رفض ألخليفة ألتنحي وتمسك بشرعية خلافته، معتمداً على أقرب حاشيته من ألأمويين ألطُلَقاء وأللذين هم بؤرة ألفساد وألنفاق.
وبين هذين ألطرفين ألمتحاربين ألمتطرفين هناك طرف ألحكمة وألتعقل رافضاً ألفساد وألعنف معاً وألإنحراف عن قيم ألسماء بدلاً عن ألعدل ألقضائي. ويتمثل هذا ألتيار ببني هاشم وبيت ألنبي (ص) وفي مقدمتهم ألإمام علي وأولادهُ. حاول ألإمام علي مراراً أن يقدم ألنصح للخليفة لكي يحد من ألفساد وأن ينزل عقاب ألله بألفاسدين لكنه لم يأخذ ألنُصح على محمل ألجد مما إضطر ألإمامُ أن يقول "وأللهِ لقد دفعتُ عنهُ (أي عثمان) حتى خشيتُ أن أكونَ آثماً". وعندما وصلت ألإحتجاجاتُ إلى ذروتها في ألعنف وألتطرف أمر عليٌ أولادَه ألحسن وألحسين أن يحرسا بابَ بيت عثمان من أن يقتحمها ألمتضاهرون ألغيرسلميون.
ولكن ومع ألأسف حدثَ أللذي حدثَ فأوهينتْ حُرمةَ دار ألخليفة ألمُنتخب وقُتلَ ألخليفةَ ألصحابي أبشع قتلة بغياب عدالة ألقضاء وشرع ألله. نعم كان إحتجاج "ألثوار" شرعياً ومحقاً ولكن إسلوب بعضهم إللاسلمي وعملهم ألبشع ألتخريبي كان مخالفاً للشرع وألقضاء وألقيم ألإنسانية، حيث لم يُثبتَ قضائياً جُرمَ عثمان شخصياً، وإن ثبتَ ذالك إفتراضاً فعقابه بحكم ألقانون (شرع ألله حينها) وليس بيد ألغوغاء من ألناس. ولم تنتهي ألمأساة بألقتل ألبشع للخليفة ومنع دفنَهُ إلا في مقبرة أليهود وبعد أن تفسخَ جسدهُ، بل وبعدما قُتِلَ من قُتل ظلماً نجى ألفاسدون أنفسهم كمروان بن ألحكم ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم ليقودوا بعدها ألفتنةَ ألكبرى وبشكل أوسع وأقبح حتى إنتهت بحروبٍ داخلية بين ألمسلمين (ألجمل وصفين وألنهروان) راح ضحيتها عشرات ألآلاف من ألمسلمين ألأوائل وإنتهت بقتل ألخليفة ألجديد ليتسنى للفاسدين ألطغاة تأسيس دولة ألوراثة ألعنصرية ألأموية بدلاً من ولاية ألشورى، وحكم ألسيف وألمال بدلاً من حكم ألقرآن وألعدل ثم تصفية ما بقيَ من ألمسلمين ألمعتدلين وتدمير قيم ألإسلام وإلى يومنا هذا.
ألحدث ألراهن: بعد هذا ألسرد في قراءة ألتأريخ نستلهم بعض ألدروس وألعبر وعلاقتها بما يحدث حالياً في عراقنا ألحبيب من أحداثٍ مؤسفةٍ. كذلك وبعيد ألتغير ألكبير في إلعراق في ٢٠٠٣ من حكم ألإستبداد وألعنف وألتخلف ألفكري إلى نظام حكم ديموقراطي دستوري يسمح بتداول ألسلطة بشكل سلمي حضاري، نرى ألبعض أو لربما ألكثير من ألعراقيين لم ينبذوا ثقافةَ ألعنف وألثأر ألقبلي بل إستخدموها "ديموقراطياً" في إختيار قادتهم ألفاسديين ومحاصصتهم لحكوماتهم ألسيئة. وعندما إنتفضَ ألمستضعفون ضد ألفساد، ركبَ هؤلاء ألأشرار موجة إنتفاضة ألأبرياء لينشروا ألعنف وألتخريب وصولاً لمآربهم ألسلطوية مستغليين مساحة ألحرية في ألنظام ألديموقراطي ألحالي.
في ألحدث ألتأريخي، لم يكن ألعيب في قيم ألإسلام عندما وَهبَ ألعربَ روحَ ألتسامح وألرحمة وألمحبة وألعدالة بدلاً عن جاهليتهم ألمقيتة، بل كان ألعيبُ في منافقي ألأعراب وعدم إستيعابهم بل إستغلالهم لهذه ألقيم ألسمحاء للوصول إلى مطامحهم ألجاهلية في ألسلطة وألنفوذ. كذالك لم يكمن ألعيبُ في مبدأ ألنظام ألديمقراطي ألحالي، وألمفترضِ أن يُتيحَ للعراقيين إدارة أمور دولتهم ألجديدة نحو ألأمان وألإزدهار، بل ألعيبُ فينا شعباً وسلطة وذالك بعدم قدرتنا أن نرتقي إلى مستوى هذا ألإنجاز ألحضاري
ولتوضيح ألصورة أكثر دعنا نلغي ١٤ قرناً من ألزمن ونسقط أحداث ألماضي على حدث أليوم:
ـ كما سبقَ وأنْ أصَرَ ألخليفة عثمان على مسك ألخلافة "بألشورى"، فإن سياسيو ألصدفة ألحاليين في ألعراق يصرون على مسك ألسلطة "ديموقراطياً" وبدون معالجة جادة للفساد وإنجازات فعالة لخدمة ألمواطن.
ـ وكما أنتُهكت حرمة ألدولة ألإسلامية وقُتل ألخليفةَ خارج شرع ألله من قبل ألمنافقين وتم بعدها ألترويج للثأر وألحروب ألداخلية ليتسنى لهم إنتزاع ألسلطة ثانيةً، نرى ألآن ألمحاولات جادةً لأُختراق شرعية ألمتضاهرين وخطفِ هدفَها ألنبيل من قبل أعداء ألعراق بإتجاه ألعنف وألفوضى للإطاحة بألمنجز ألحضاري ألديموقراطي وألرجوع إلى دكتاتورية ألتخلف.
ـ وكما جزعَ ألإمامُ علي يومها من دوره ألحكيم ألإصلاحي حتى خَشِيَ أن يتهمَهُ ألسُذجُ بإثم ألفاسدين، تُكَرِرُ أليوم ألمرجعيةُ ألدينيةُ ألرشيدة بأن صوتَها قد بُحَ من كثرة ألنُصح وألدعوة للسلمية وألإصلاح.
ولنكن واضحين أكثر، بدون أي شك إن ثورة ألرعية ألمسلمة ضد ألفساد في ألخلافة ألراشدة ألثالثة في ألقرن ألسادس ومضاهرات ألعراقيين ألبائسين ضد حكم ألفاشلين وألفاسدين في ألقرن ألحادي وألعشرين سلوك مشروعٌ بل يجب ألقيام به أو على ألأقل مساندته حتى تحقيق أهدافه ألسامية ولكن بشرط لا يقبل ألمساومة عليه ألا وهو وضوح ألهدف لمصلحة ألشعب وألوطن وألتصرف ألحضاري ألسلمي للحفاض على أرواح ألناس ومنجزات ألنظام ألديمقراطي وألممتلكات ألعامة وألخاصة. وألا فألحذر كل ألحذر من أشباه مروان بن ألحكم ومعاوية بن أبي سفيان من أن يأخذوا ألدولة ثانية إلى جاهلية "جمهورية ألرعب" وذالك بحصد ألثمار ثم حرق ألأشجار.
فإلى شيعةِ ألعراق ألعقلاء أقول (ولست معنياً بألغوغاء)، ألتأريخ يعيد نفسه وبوضوح وعليكم ألإقتداء بسلوك إمامكم عندما حاول ما بإستطاعته تقويض ألفساد وألإنحراف لكنه بقيَ سلمياً محافظاً على دولة ألإسلام ألفتية وأرواح ألمسلمين. وإلى سنة ألعراق ألشرفاء (عرباً وأكراداً) أقول (ولست معنياً بألخبثاء)، يدهشني صمتكم وحيادكم "فألساكت عن ألحق شيطان أخرس". أتقفون على ألحياد وحرمةُ ألدولة ألعراقية تُنتَهك وتُزهقُ ألأرواحُ ويُشعلُ فتيلَ ألفتنة كما جرى سابقاً في عهد ذو ألنورين عثمان وإن عمَ ألفسادُ فترة حكمهِ؟ "أجاهليةُ بعدَ إسلام؟
وأخيراً لكل ألعراقيين أقول، إن من يتطلع إلى ألتطور وألإزدهار عليه أولاً أن يتحلى بألفكر وألسلوك ألمتحضر ونبذ ألعنف وألفوضى. لا سبيل إلى ألتحضر (ولا أعني ألتمدن) وألإزدهار إلا بنور ألعلم وبمتاع ألعمل ألجاد وبألسلوك ألإنساني. ومن سلك غير هذا ألسبيل فلا يصل إلا للاشيء سوى ألتأخر عن ركب ألحضارة.
ألدكتور غانم ألمحبوبي
ملبورن، أستراليا
https://telegram.me/buratha