د. عباس حنون الأسدي
لو راجعنا التظاهرات الاحتجاجية التي تجري في العراق سنلاحظ استراتيجية القدم الخفية واضحة بشكل كبير، فالأحداث المريبة التي تحدث يوميا يصعب الوصول للقائمين بها، او حتى تحديدهم بشكل حقيقي، وكل ما نقوم به تحليلات، وجمع شواهد، وربط تصريحات في محاولة للوصول للفاعل على الرغم من كثرة الأجهزة المتخصصة.
احداث تثبت هذه الاستراتيجية:
تمكن المتظاهرون في السودان من اسقاط النظام، وتولى إدارة البلد (مجلس عسكري)، ويتخوف المتظاهرين من هذا المجلس، ويخشى المجلس من المتظاهرين. ويقدم كل منهما حججا مقبولة، ومقنعة في شكه بالأخر، وتوجسه منه، ويقف المتابع موقف (المحايد) وهي إشارة لهذه الاستراتيجية إذ تكون الصورة ضبابية تحجب إمكانية الرؤية بشكل واضح، وقاطع في زمن الصورة، والاختزال، لا زمن الكلمة، والاسترسال إذ يبحث الجمهور عن التواصل السريع عبر الصورة، والفيديو، وما يجري فيهما من اختراق عميق عبر التلاعب بالمحتوى ليظهر بما يناسب، واهداف (القدم الخفية). وهو ما يجري في لبنان، وما يجري في العراق فعلى الرغم من طول المدة منذ بدأ التظاهرات في 1/ 10/ 2019 الا ان الأمور تتحول من سيء الى أسوأ يوما بعد أخر، وتكيل الجهات السياسية، والمدنية فيما بينها سيلا من الاتهامات، ويتبادل الجمهور معلومات مشوشة، ومضللة دون تدقيق في المحتوى، ويتحول بمزاجه من وطني الى فئوي، او حزبي، ومن ثم الى مزاج انفعالي.
وثبتت المؤسسات الامريكية ان العراق بعد سقوط نظام البعث سيكون (إسلاميا)، بمعنى ان الصراع (قيمي)، وعليه لابد من اظهار عبودية المسلم، لا حريته، ولابد من تكرار الحديث عن تعدد الزوجات، لا احترام المرأة، وتمكينها، ولابد من التذكير ان الإسلام انتشر بالسيف، والدم، لا بالديمقراطية، وعليه يجب ترويض العراق، وتجويعه، وتفكيكه بالفساد، وتضخم الحاكم، وظلم المواطن وصولا الى تنامي علاقة كراهية بين الاثنين ليتم تجزئة المجزأ، واحياء مفاهيم مغمورة في الذات العراقية كالطائفية، والقومية، والجهوية، والحزبية.
ولابد من إعادة الحديث عن اتفاقية سايكس بيكو، وحدود الدول وتنفيذ مخططات المعاهد، والمؤسسات الامريكية في تفكيك المنطقة واحياء (الشرق الأوسط الجديد)، و(صفقة القرن) فالقرار في أمريكا يصنع في مراكز الدراسات ويتحدث به الساسة، وينفذه شخصيات، ومنظمات. وتشبه صناعة القرار في أمريكا عمل (الساعة) التقليدية إذ تقوم مجموعة (تروس) بأعمال يكمل بعضها البعض في سبيل انتاج الوقت الصحيح.
وكانت (الأسلحة) بمختلف أشكالها هي الأداة الأولى بيد (القدم الخفية) ويستهدف بها القطعات العسكرية أولا، والبنى الارتكازية ثانيا، ولكنه تحول الى استهداف القطاعات غير العسكرية من خلال مجموعة إجراءات متسلسلة، ومترابطة ما أن تبدأ واحدة بتحقيق نتائج على الارض، حتى يأتي دور الثانية لمواصلة العمل، وهكذا تباعا وصولا للدولة (الفاشلة)، والإجراءات هي:
1. (الإرهاب): قيام مجموعات مدعومة من (القدم الخفية) بالتدريب، والتمويل، والتسليح، والمعلومات، والعمليات النفسية بهدف احتلال أجزاء من أراضي الدولة المستهدفة، وتهديد النظام، وتفكيك العلاقات المجتمعية، وإحداث الشلل بالقطاعات المدنية، ونشر الخوف، والرعب بين المواطنين، وما يرافق ذلك من تهويل، وما يدعم ذلك من عمليات نفسية استراتيجية.
2. (العمليات النفسية): استهداف القطاعين المدني، والعسكري للدولة المستهدفة بعمليات نفسية استراتيجية، وتركيز الضغوط بمختلف اشكالها بهدف ايصال المواطن الى الإحساس ان أمس أفضل من اليوم، والمستقبل مجهول، والنظام مسلوب الإرادة، ويمارس افعالا صورية، وتزداد المسافة بينه وبين مواطنيه يوما بعد أخر، واستغلال أدوات النظام، من وزارات، وأحزاب، وحركات، واعلام في تفكيكه.
3. الحشود في الشوارع: نزول المواطنين الى الشارع بسبب تكرار المعاناة من تغول الأحزاب، وفساد الادارات، والبطالة، والحرمان، للمطالبة بحقوق مشروعة مكفولة دستوريا، واستغلال (القدم الخفية) للتظاهرات بوسائل يصعب تحديدها لضعف الدولة المستهدفة، ولتضارب مصالح القوى السياسية، وجهل المواطن بما يقوم به من ممارسات إذ يعتقد انه يحاول الحصول على حقوقه، ولا يعلم انه يهدم النظام، ويفكك بنيته، وشيوع عمليات ترهيب، وخطف، واغتيال منظمة، والتحول من المطالب الحقيقية الى اهداف فرعية بعيدة عما كان يفكر به، ويسعى اليه.
4. منظمات المجتمع المدني: وتقوم بتحديد الدولة المستهدفة وعرض برامجها التي تحاكي مشاعر المواطن، وتجعله يهرول نحوها بحثا عن تحقيق ذاته، وهي في حقيقتها اختراق لمنظومة الدولة المستهدفة، وتمهد الأرض لتدخل أممي.
5. الدولة المستهدفة: تشديد الضغوط بمختلف اشكالها على الدولة المستهدفة من خلال حرب ناعمة تركز على أخطاء النظام، والمسؤولين، وتستعر فيها الشائعات، ويتداول فيها المواطن معلومات بأسلوب ساخر بعيدا عن محاولة التوثق من صحتها.
العراق هو الدول المستهدفة:
طرحت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت مشروع (مستقبل العراق) عام 2003 كأنموذج للقوة الناعمة من خلال اعتماد (الدين) كمنظومة أخلاقية، واجتماعية، وسياسية. وهو ليس الدين الذي نعتقد به، بل دين يناسب (القدم الخفية). وطرحت مؤسسة (راند) مشروع (الإسلام الديموقراطي المدني) عام 2005 ليمثل الإسلام الحضاري المطلوب من (القدم الخفية) وهو بعيد عن الأصول ويكتفي بالمسمى دون المضمون. وطرحت شيرين برنارد مشروع (التطبيق العملي للإسلام المدني في العراق) عام 2007 تحت هدف استراتيجي هو (كيف نصنع اسلام يناسب اهدافنا).
وتستهدف المشروعات الثلاثة ما يلي:
1. المواطن: من خلال تمكين الفرد لأن يكون صاحب القرار على نفسه، وليس لأحد مهما كان سلطة عليه، فهو (حر) فيما يريد.
2. الاسرة: تحويل دور الوالدين المركزي، وسلطتهما الابوية على الأبناء الى دور فرعي، او استشاري بلا سلطة.
3. المجتمع: تفكيك العلاقات المجتمعية بمختلف اشكالها بين أبناء المجتمع، وتهميش الروابط، والصلات، وجعل المواطن يفكر بنفسه دون غيره تحت شعار (حقق ذاتك، وطموحاتك).
وحدد منظرو (القدم الخفية) نوع العلاقة مع الإسلام بمعركة (هوية)، ولابد من إلغاء الاخر، فسبب وجود أمريكا الحقيقي كونها (ارض الميعاد) فكولمبس أشار عند اكتشافه لقارة امريكا (اننا بحاجة الى أراض شاسعة، واقوام وافدة لإحياء أرض الميعاد لمواجهة امبراطورية محمد). وليس الإسلام سوى مثلث يسكن في قمته التطرف، ويسكن في جانبيه الإرهاب، والإلحاد. وعلينا تغيير الظروف المحيطة بالإسلام لجعله غريبا، وفارغا، ومكروها وهو ما قامت به القاعدة، وداعش الارهابي.
وعلينا التركيز على الواقع الافتراضي (الاحلام)، وتغريب المواطن عن شبكة علاقاته، ومقوماته، واصوله ليتحول من الواقع الحقيقي حيث (الدولة، والنظام، والمؤسسات، والمجتمع، والاسر، والافراد). الى واقع مفترض ليس فيه (دولة، ولا نظام، ولا مجتمع، ولا أسر، ولا افراد) بالمعنى الحقيقي إذ يقوم (المواطن العالمي) باختيار ما يناسبه من نظم، ومجتمعات، وافراد افتراضيون، ويوما بعد اخر ينزوي، ويبتعد عن عائلته، ويحلق بعيدا عبر الانترنت في عوالم سحرية يختارها لنفسه غير مدرك للواقع، ولا الوقت، ويكتفي بالأحلام، ويطالب بما يشعر دون عمل، ويكيل التهم للأخر، ويتحول الى أداة تدمير لنفسه، واسرته، ومجتمعه، وهو هدف (القدم الخفية).
الله موجود
https://telegram.me/buratha