رياض البغدادي ||
الذين آمنوا منذ بدء الدعوة ادرکوا أن الانتقال بحياة مجتمعهم الى الصورة المثلى، التي بشر بها الدين الجديد، يقتضي جهودا كبيرة وتضحيات عالية، وقدرات لم تكن موجودة بين ايديهم، ولكنهم كانوا يؤمنون انها ستتوفر عبر الثبات على العقيدة، وعبر مواصلة الجهاد والالتفاف حول النبي الاكرم ص واله...
أن هذه المقارنة التي جعلت التوتر يشتد بين الطرفين النقيضين في المجتمع المكي، المسلمين بقيادة النبي محمد (ص واله) والمشركين بقيادة ابو سفيان، وكان التنافر الحاد يزداد لكي يصل في كثير من الحالات، إلى مواجهات قاسية وحادة، وكانت كل المواجهات، في باديء الأمر ، تبدو ۔ ظاهريا ۔ لصالح العدد الاكبر، وكان العدد الاكبر آنذاك عدد المشركين، ولان اية فكرة ثورية ذات ابعاد تاريخية لابد ان تنتصر، اذا وضعت ضمن شرطين اساسيين لاغنى عنهما : الأول - التحرك ضمن اطاري الزمان والمكان، والثاني - التحرك ضمن الأداة القادرة على تحقيقها لذلك انتصرت الدعوة الجديدة، واستطاعت أن تحقق تغييرا على كل الأصعدة التي تتصل بالحياة الانسانية على هذه الأرض، عدا الاعتبارات والقيم ذات الصلة بالسماء، ولكننا بعد ذلك، نلحظ ظاهرة اساسية، فالدعوة التي بدأت سرية، وبدأت مقصورة على أقرب الناس صلة بالرسول (ص واله) واكثرهم حظوة بثقته، ذاع صيتها الى الحد الذي حول مجتمع مكة، إلى مجتمعين متصارعين، لاسياسيا وعسكريا فحسب، وانما كانا مجتمعين متصارعين قیما وافكارا، هذه الدعوة تحولت - يوما بعد آخر لكي تشمل كل مجتمع مكة، ولكي تستقبل كل مجتمع الجزيرة العربية بعد ذلك، ولم يكن ذلك دائما بصيغة الانتصار العسكري، كما لم يكن ذلك بصيغة التطابق الكامل بين الأفكار التي عبرت عنها الدعوة، وبين افكار الذين انضموا اليها أفواجا كما عبر القرآن الكريم ..
ولكن في كل الحالات، كان هناك تطابق في المحصلة بين الفكرة التي جاءت بها الدعوة، وبين ما تهيأت له النفوس من الفهم والانسجام والرجوع الى الذات، قبل أن تتراكم عليها قيم الزيف والنفاق، وهنا تحولت الفكرة لكي تحل في كل المجتمع، وتحول المجتمع كله لحمل الفكرة ولو ظاهرياً .
وبعيدا عن الغوص في التفاصيل، فاننا نستطيع ان نستنبط مایمکن أن نصطلح عليه بقانون، قد حكم القبائل التي لم تكن تعرف اسلوب الدولة والحكم والقانون، وكانت الأمة تتقدم وكانت تنتصر، تماما على نفس القدر الذي تتصل به بدينها، وبجوهر هذا الدين، بشكل محدد، وكانت تضعف وتتراجع وتخضع كذلك، تماما على نفس القدر الذي تنفصل فيه عن هذا الجوهر، وتنسلخ فيه عن هذه القيم .
واذا كانت في بعض مراحل الضعف تبدو قوية في ظاهرها، كما تمثل ذلك في بعض الانتصارات الموضوعية والمؤقتة، فلأنها كانت تمثل حالة الجريح الذي ينتفض في أوج قوته، ولكنه لا يلبث أن يسقط مثخناً بالجراح، ولئن كان يجبر على الاستسلام لقوى اعدائه، فانما ليتربص الفرصة المناسبة لكي ينقض على هؤلاء الأعداء، ولكنه لا يستطيع ان يحسم الامر لمصلحته الا اذا اصبح حيا معافی قادرا على اداء مهماته، بالمستوى الذي تشترطه طبيعة المواجهة، ولقد ظل النهج يمثل خطا متميزا في حياة الأمة منذ بوادر تداعیها، بعد أن سيطرت عليها قوى النفاق وتأكلها من داخلها، واستطاعت أن تجهز عليها، بعد ان حولتها الى هيكل اجوف، خاو من كل القيم التي ابتدعتها في أوج عطائها وفي أوج رسالتها.
بدأت أمتنا تستجيب لدواعي الجهاد والتحرر في هذا العصر وتنسجم شيئاً ما مع حقيقتها، كأمة منتظرة وممهدة لدولة العدل التي سيقيمها الامام الغائب (ع)، وكلما زاد ارتباط الامة بالامام الغائب، كلما اصبحت اكثر استعداداً للعطاء والتضحية، ولو دون الصيغ والمستويات الأصيلة التي كانت ايام النبيّ (ص واله) حيث كانت في أوج قدرتها على التعبير عن رسالتها الانسانية الرائعة.
ظل هناك سؤال کبیر، لماذا ظلت الامة على مر تأريخها تقارع مختلف قوى الاعداء، ويبدو في كثير من الأحيان انها منتصرة عليهم، ولكنها في النهاية كانت تدفع الثمن كبيرا، وتكون محصلة الحساب لصالح القوى المعادية، الا باستثناءات محدودة ؟ ... يتبع.
https://telegram.me/buratha