رياض البغدادي ||
إن السمة البارزة للفكر الجهادي الإسلامي، انه يبني مبدأ المعارضة في فكره على الأصل القرآني -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وكونه فکرا إسلاميا معارضاً، فلابد أن يعتمد الحكم الشرعي في تشخيص تخلف الواقع، وفي سيادة العلاقات العامة المبنية على الاستغلال وإستئثار الأقلية، وهيمنتها على الحياة الاقتصادية وأدوات الحكم، على حساب الأكثرية الساحقة من الأمة، وكونه يعتمد الحكم الشرعي فلابد اذن من قيادة روحية شرعية قادرة على تحليل الحكم الشرعي .
والفكر الجهادي الحقيقي ليس فکرا تجريديا يفترق عن الواقع بطروحاته وتحليلاته و بدائله، بل هو فکر واقعي ورافض للواقع الراهن في الوقت ذاته، فهو واقعي بمعنى التعامل العياني والميداني مع واقع معين دون القفز من فوقه، بل عبر إستیعاب دقيق لمكوناته وتناقضاته ومشاكله الظاهرة والخفية .
وهو فكر رافض لذلك الواقع، وصولا إلى خلق واقع جديد يُبرأ الذمة امام الله تعالى في تلبية طموح الأمة، ويلغي الإستغلال والقهر الطبقي، ويحقق العدالة وتكافؤ الفرص، ويطلق الإمكانات الشعبية في ظل حياة حرة كريمة .
ذلك هو القانون العام لسمة المعارضة في الفكر الجهادي الإسلامي، بيد أن الفكر الجهادي يظل في جوهره دلیلا نظريا، تسترشد به الحركات الجهادية، في عملها بين الأمة وفي جهادها من اجل تحقيق المُثُل الإلهية، ومن هنا يرتبط الفكر الجهادي بالعمل الجهادي .
اذ يكف الفكر الجهادي عن فاعليته وحيويته اذا لم يرتبط بعمل جهادي، ويظل العمل الجهادي دون فکر جهادي ضربا من ضروب المغامرة والتجريبية .
مما تقدم نستنتج المعالم الثلاثة التالية : ۔
( 1 ) الفكر الجهادي الإسلامي الحقيقي، هو فکر معارض وفق مبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى العام، ويعتمد مبدأ - محاسبة النفس - على المستوى الخاص .
( ۲ ) لابد من ارتباط الحركات الاسلامية بفكر جهادي، اكتسب شرعيته من خلال قيادة روحية جهادية، بغض النظرعن موقعها الجغرافي، فالعلماء المراجع يمتد تأثيرهم خارج حدود البلدان التي يعيشون فيها، فالجنسية ومكان الاقامة ليست شرطا من شروط التقليد في الفقه الإسلامي.
( ۳ ) لا يمكن توقع وجود قيادة روحية حقيقية وفاعلة دون أن تعتمد النظرية الجهادية .
ويتبادر إلى الذهن ضمن هذا السياق التساؤل التالي : -
هل يستمر منهج المعارضة لدى الفكر الجهادي والحركة الجهادية بعد تسلمها للسلطة وقيادتها لها وللمجتمع في بلد من البلدان ؟
والجواب هو نعم مع استدراك منهجي يتعلق بطبيعة - المعارضة كوظيفة وتكليف شرعي - في مرحلة الجهاد الإيجابي، اذ ان المنهج المعارض في ظل تلك المرحلة، يختلف نوعيا عنه في مرحلة الجهاد السري ..
كيف .. ؟
يأخذ منهج المعارضة لدى الحركات الجهادية في مرحلة الجهاد السلبي، صيغ الرفض الجذري للواقع الراهن المخالف للشرع، بكل مؤسساته وسلطته السياسية المعبرة عن مصالح الأقلية، التي تمارس الظلم والإستبداد بحق الأمة، وهو رفض صِداميّ يستهدف إسقاط السلطة، و تقويض نظامها السياسي والاجتماعي، والتبشير بسلطة شرعية ونظام جديد قائم على مبدأ العدل .
في حين أن منهج المعارضة كتكليف شرعي في مرحلة الجهاد الايجابي، اي في وقت قيادة الحركات الجهادية للمجتمع والدولة في بلد من البلدان، وظيفة تعبوية لصالح تكريس القيم الدينية والمفاهيم الاسلامية، والدفاع عنها وعن الدولة ضد كل وسائل التآمر والتخريب والالتفاف، وبؤر الفساد والتفسخ الاخلاقي وإشاعة الكفر والإلحاد .
فمنهج المعارضة كتكليف شرعي في تلك المرحلة يكون : ۔
1. مع الدولة وضد الأمراض الناشئة من تجربة قيادة الدولة .
2. مع البناء الديني للمجتمع وضد التخلف والتطرف والطائفية .
3. مع الحزم ضد أعداء الدولة وضد اهدار كرامة الانسان المخلص والنزيه باسم الدفاع عن الدولة .
4. مع الديمقراطية وضد الإستعلاء على الأمة .
5. مع إشاعة صيغ وقيم المنهج الديني الأخلاقي وضد القسرية والكبت للمبادرة الفردية غير المتقاطعة مع المنهج الاسلامي •
6. مع الديمقراطية المدعومة بالقوانين، وضد الارهاب الفكري لممارسة المعارضة ضمن الضوابط القانونية السليمة .
7. مع فتح الأبواب للعناصر الكفوئة والنزيهة الملتزمة، لتولي المسؤوليات في مرافق الدولة ومؤسساتها، وضد الإخلال بمبدأ الاخلاص للدولة .
8. مع الحرص على تكريس الإلتزام بقضايا الأمة، ورسالتها الاسلامية وتطلعاتها وأهدافها في التحرر، وضد النمطية الفجة في الفكر والثقافة والأدب والفن .
9. مع التربية الاخلاقية وضد التوجيه القطيعي الذي يلغي او يضعف النزعة الانسانية وحرية التفكير .
المجاهد ومنهج المعارضة :
وبحكم الطبيعة المزدوجة، لجهاد جبهة المقاومة والحركات المنظوية فيها، وهو جهاد إسلامي ساحته جميع الدول الاسلامية ومادته الأمة الاسلامية، يأخذ المنهج المعارض في فكر و جهاد جبهة المقاومة وظيفتين مختلفتين ومتلازمتين في آن واحد .
کیف ۰۰ ؟
أن تسلٌم الأحزاب الاسلامية القيادة في الدولة والمجتمع، في ( العراق مثلاً ) بلور وظيفة وضوابط المنهج المعارض، ضمن الإطار الذي تحدثنا عنه قبل قليل في المنهج الاسلامي في ظل مرحلة الجهاد الإيجابي ، في حين أن وظيفة المنهج المعارض في الأجزاء الأخرى تظل ( بشكل اجمالي وليس تفصيلي تماما وفي كل الاحوال ) في اطار ممارسة منهج المعارضة في ظل مرحلة الجهاد السري .
ولكن هل يعني ذلك أن انتقال الاحزاب الاسلامية، من مرحلة الجهاد السري الى مرحلة الجهاد الايجابي قد ضيق من مهمة ودور المنهج المعارض ؟
ان الإجابة على هذا التساؤل لا تقف عند كلمتي نعم او لا ، إذ يمكن القول أن طبيعة المنهج المعارض في مرحلة البناء الجهادي، تأخذ أبعادا ومديات اساسية وجوهرية وفاعلة، ضمن ضوابط الحرص الشديد على تعميق الركائز المركزية لعملية التحول الإسلامي، وهو يستدعي إشاعة أوسع لقنوات ممارسة المعارضة، لكل مظاهر الخلل والقصور والهدر والتسيب، ما دمنا نجاهد من أجل الوصول الى الطموح إسلامياً ووطنيا وإنسانيا، وتأسيسا على ذلك، فالذي يتصور من الاحزاب والحركات الاسلامية، أنه وصل الى مستوى الكمال، قطعا سينتهي ويأفل تأثيره بمجرد إستقرار وثبات هذا الشعور لديه، لان مثل هذا الشعور سيوصله الى الحافات النهائية، مما يعني إنعدام القدرة على التطور، وسيصبح مجترا لافعاله السابقة، من دون مراعات التغير الزمني ، وهذا يعني تخلفه عن الركب العالمي الذي هو في حالة تغير دائمة . فما دام التطور مطلوب، فالسعي باتجاه الكمال مطلوب ايضا، اذ ان إفتراض النقص مسألة أساسية ، حتى وان كان النقص جزئيا أو ثانوية، بإعتبار أن مثل هذا الافتراض هو أحد الشروط، والدوافع الاساسية لضمان إتساق وإستمرارية العمل المثابر من أجل التطور .
من هنا ندرك بوعي كامل، أن المنهج المعارض في مرحلة البناء الجهادي، يصبح أداة من أدوات الاستمرارية والنجاحات في نقل المبادىء الاسلامية الى ساحة التطبيقات العملية، وصمام أمانٍ لفضح مؤديات ومزالق الإنحراف والإبتعاد عن جادة مبادىء الاسلام .
الخوف من المعارضة :
من المظاهر السلبية التي نلمسها في التجربة العراقية في العمل اليومي، ارتباك بعض المسؤولين في الاحزاب الاسلامية او الدولة، من ممارسة المعارضة، واحيانا لا يقف هذا الخوف والارتباك عند حدود الامتعاض، او الرد المتزمت، بل يتعداه الى ممارسة نوع من الإرهاب الفكري، الذي يصل أحيانا الى الموقف الكيدي، ضد العناصر التي تمارس المعارضة الموضوعية، في إطار افكار ومبادىء الاسلام . ان هذا السلوك يؤشر ضعفا بينا في حصانة هذا المسؤول او ذاك، وفي سلامة بنيانه العقائدي، فلابد من تدارك الامر معه قبل إستفحاله .
لقد علمنا الاسلام ممارسة محاسبة النفس والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقرآن والسنة النبوية المطهرة وسيرة أهل البيت (ع) حافلة بنماذج بارزة من العمل بمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكفي الرجوع الى القرآن وكتب الحديث والسيرة لمعرفة مدى حرص القيادات الاسلامية على ممارسة اعلى وارقى معارضة النفس وتقويم عملها فضلا عن معارضة السلطة ومنهج الحكومة في ادارة المجتمع .
واذا كانت ممارسة المعارضة ضمن الضوابط التي تطرقنا لها فيما تقدم، مطلوبة وضرورية فإن ثمة فرقا جذريا بينها وبين اساليب التشهير والتشويه والتشكيك، بهدف إضعاف روح الأمة على ممارسة الجهاد، فتلك ظواهر منحرفة، لا يمكن أن تعامل بأي حال من الأحوال، معاملة الممارسة النقدية النزيهة والمخلصة وان كانت قاسية وشديدة .
إن حرص الإسلام على إشاعة أجواء الممارسة النقدية وجهاد المعارضة، بما يعزز من مسيرة البناء الإسلامي للدولة والمجتمع، ويجتث كل مظاهر الخلل والهدر والتسيب، ينبع من إدراك عميق لضرورات تمكين الأمة، من ممارسة حقها في المعارضة الايجابية، وإسهامها المباشر في المتابعة والمراقبة، وفضح كل السلبيات وصولا الى ارتقاء حقيقي، في الشعور العالي بالمسؤولية الشرعية والوطنية .
استقبل آراءكم على الايميل الشخصي riyadh98@gmail.com
https://telegram.me/buratha