دراسات

سلسلة الاربعين المعرفية/ 9/ زيارة الاربعين وكسر قرار المنع  انتفاضة صفر ١٩٧٧م (الأنموذج)


حيدر الرماحي||

 

توالت الحكومات الظالمة على منع اقامة الشعائر على مر التاريخ والعصور وقد بينت في الحلقات الاولى من هذه السلسلة تفصيلا عن مواقف الحكومات واتخاذها قرار المن، ووقف الجمهور المؤمن والموالي لاهل البيت (ع) في تحدي قرارات المنع وواصلوا زيارة الامام الحسين(ع) في اقسى ظروف المنع.  وفي هذه الحلقة ساقدم للقارئ عرضا عن كسر قرار منع السلطة في ابرز تحد ضد حكومات الاستبداد والجور، وهي انتفاضة صفر الخالدة.    في عام ١٩٧٧ فرضت السلطات البعثية احكاما تقتضي منع الشعائر ومعارضة أقامتها، ومنع ممارسة مراسيم زيارة الأربعين كما منعت جميع الشعائر المتعلقة بالإمام الحسين(عليه السلام) لكن هذه الشعائر لها ميزة خاصة في العراق، فقد بذلت معظم الحكومات المتعاقبة على البلاد جهودا كبيرة لأجل القضاء عليها لانها تعتقد ان الجماهير تتغذى بالروح الثورية من خلال استلهامها من مواقف الامام الحسين(عليه السلام) وثورته في كربلاء سنة ٦١ هجرية، اذ تتحول معظم المدن العراقية -بالأخص النجف وكربلاء المقدستين- في شهري (محرم وصفر) الى انتفاضة مشتعلة تهابها السلطة وتخشى تصعيدها. في عام ١٩٧٧ فرضت السلطات البعثية حزب البعث العربي الاشتراكي لحكم العراق في السابع عشر من تموز عام ١٩٦٨م اثر انقلاب قاده عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود والذي اطيح بهما في الثلاثين من شهر تموز من العام نفسه، وصفى الحكم في العراق لـ (احمد حسن البكر) و(صدام حسين) لتبدأ أسوء صفحة عرفها التاريخ لبدء حكم دكتاتوري لا يعرف معنى الرحمة أو الأخلاق ويحمل شعار (الغاية تبرر الوسيلة)، ويسير اتباعه بـ نفذ ثم ناقش. واجهت الحوزة العلمية ومرجعيتها الدينية التي عمرت في النجف الأشرف اكثر من ١٠٠٠ عام وبعناية الهية مضايقات حزب البعث العربي الاشتراكي في محاولة لانهاء حراكها ونشاطها (الرجعي) على حد تعبير التعميم الصادر من القيادة القومية من الحزب في ٤/٤/١٩٦٩، الذي أكدت فيه على ضرورة القضاء على المرجعية الدينية باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب والثورة. بعد ان استنفذ البعث اغراضه في السنة الأولى من تسلطه على الحكم، وبعد ان اضهر احتراما للشعائر الدينية والحسينية وبث الخطب الدينية والرواية الكاملة لمقتل الامام الحسين(ع) في العاشر من محرم، من الإذاعة العراقية، فإنه ما لبث ان ظهر على حقيقته في السنة اللاحقة مباشرة، ففي محرم ١٩٦٩م قامت السلطات بالتضييق على مراسم العزاء والمواكب الحسينية، فمنعت بعضها وأمنت شروطا على الأخرى، اول موكب استهدف هو (موكب الطلبة). وفِي ١٩٧٦كشرت السلطة عن انيابها القبيحة عندما أقدمت على منع الناس من زيارة الامام الحسين(ع) مشيا على الأقدام كعادتها الجارية في كل عام بمناسبة أربعينية الامام الحسين وكذلك منعت المواكب العزائية في يوم الاربعين في كربلاء المقدسة، لكن الجماهير آلت ان لا تخضع لأي ظالم، وتحدت قرارات منع السلطة للذهاب لأداء الزيارة وحددت ساعة الصفر لانطلاق موكبها الكبير فأعلنت موعد الانطلاق بعدة ايّام ان موعد تحرك المسيرة هو الخامس عشر من شهر صفر في تمام الساعة الواحدة ظهرا في خطوة لإعلان تحدي السلطة، وسارع أصحاب المحلات الى اعلان استنكارهم للسلطة وتأييدهم ومساندتهم للجماهير المنتفضة التي أخذت تجوب شوارع المدينة فقاموا باغلاق محلاتهم ثم واصلت الجماهير مسيرها باتجاه كربلاء المقدسة برغم العدد الكبير من أعوان النظام الذين كانوا منتشرين في المدينة وبين المتظاهرين، بعد ان حطت الجماهير رحالها (في خان الربع) الذي يبعد عن مدينة النجف الأشرف ما يقارب عشرة كيلومتر عن النجف الأشرف وكانوا يرددون شعاراتهم الشعبية المعادية للنظام.  وفِي الْيَوْمَ الثاني وعندما أرسلت السلطة مجموعة من مرتزقيها لضرب الحصار على مدينة النجف الأشرف من اجل منع ما تبقى من الناس للذهاب لزيارة الامام الحسين(عليه السلام)، وهذا أدى الى حدوث تظاهرة صاخبة طافت الناس فيها شوارع النجف الأشرف وحاولوا تفريقها بواسطة استخدام خراطيم الماء، الا ان إرادة الجماهير كانت أقوى من تلك الأساليب ووصلوا الى الصحن الحيدري الشريف وكسروا صور البكر وصدام التي كانت عند مدخل الصحن الشريف واشتبكوا مع عناصر الأمن والشرطة كما ان اغلب الأسواق والمحلات قد عطلت وحركة العمل شلت، وخيم الظلام والحزن على المدينة وسادها توتر وقلق شديدان.  وهكذا في محرم ١٣٩٧هجرية في ليلة العاشر من محرم الحرام خرجت مجموعة فدائية للأمام الحسين(ع) كانت قد تعاهدت فيما بينها على مكافحة أعداء الله والشهادة في سبيل ذلك، فخرجت وتتقدمها راية مدماة ترمز للتضحية والفداء وشهر أفراد المجموعة السلاح  الأبيض متحدين السلطة واصطدموا مع جلاوزة النظام وأصابوا عددا منهم بجروح، وفر ازلام النظام من امام المجموعة تلك.  هذه المجموعة من الثورات والمواجهات المتواصلة للجماهير كانت قد مثلت مقدمة ضرورية لانتفاضة صفر الكبرى التي حدثت في الفترة من ٤-٧ شباط ١٩٧٧م، في البداية عممت السلطة -كما في العام السابق- قراراتها المشددة بمنع المسيرة الحسينية السنوية الراجلة الى كربلاء استكمالا لتلك الإجراءات، واجتمع محافظ النجف الأشرف والمسؤولون الحكوميون والحزبيون بوجهاء المدينة ورؤساء المناطق والمواكب في قاعة الإدارة المحلية في مطلع شباط/فبراير لابلاغهم قرار قيادة الحزب الحاكم المذكورة الا ان الاجتماع فشل فشلا ذريعا.. وفشل معه ممثلوا السلطة وخرج زعماء المسيرة اكثر عزما وتصميما على تنفيذ مخططهم الذي تم اعداده منذ الأيام الأولى من شهر صفر (أواسط كانون الثاني/يناير ١٩٧٧م)، لعلمهم المسبق بنوايا السلطة.  حينما أزفت ساعة الصفر المحددة في الرابع من شباط، بدأت طلائع الانتفاضة بالظهور في شوارع النجف الأشرف، أعقبها خروج جماهير المدينة عن بكرة ابيها لتشارك في التظاهرات العارمة، حيث اتجه ما يقارب اكثر من (٢٥٠ الف شخص) بين رجل وامراة وطفل وشاب وشيخ، صوب الطريق الرئيسي الذي يربط النجف الأشرف بمدينة كربلاء المقدسة في مسيرات هادرة بالغضب والحزن وهم يحملون اللافتات والإعلام الكبيرة والصغيرة ويهتفون بسقوط حكم البعث ويعاهدون الامام الحسين(ع) على التضحية في سبيله حتى الرمق الأخير.  وسارت الجموع الغفيرة وهي ترفع شعارات اسلامية ثورية وحماسية الى ان استقرت في خان الربع(خان المصلى) الذي يبعد عن النجف الاشرف حوالي (10كم) كعادتها في كل سنة، واستقرت بالقرب من الخان سيارات الامن والنجدة والشرطة وسيارات المخابرات التي ارسلها النظام لعرقلة المسيرة الحسينية ومراقبة العناصر المتحركة والقيادية لها، ومنذ الساعات الاولى لوصول الثوار الى الخان سارعوا لوضع التدابير والاحتياطات اللازمة وحماية الزوار من أي هجوم قد يقوم به عناصر النظام الذين انتشروا حول الخان فشددوا الحراسة على مدخله وهم يحملون السلاح والحجارة تأهبا لاي هجوم مفاجئ تقوم به البعثية وسلطات النظام. هجم المنتفضون على القوة البعثية التي باشرت بالهجوم على الخان ففروا من امامهم، وفي غضون ذلك التحق جماهير غفيرة، سيطر المتظاهرون بعدها على الطريق الرئيسي الرابط بين النجف الاشرف وكربلاء المقدسة، ودخلت المسيرة ناحية الحيدرية بهتافات معادية لنظام البعث الحاكم محبطين كل المحاولات الرامية الى اجهاضها والقضاء عليها. ان التطورات والاحداث المتلاحقة وقوة الانتفاضة اربكت النظام بشكل كبير، بحيث اعلن النفير العام في صفوف حزب البعث وحالة الطوارئ القصوى في القوات المسلحة العراقية، واصدرت القيادة البعثية اوامرها للجيش والجيش الشعبي والشرطة والامن والمخابرات بسحق الانتفاضة بلا رحمة، واعتبرت ان هذا تمرد يستهدف الاطاحة بالنظام، وان (المتمردين) يتلقون الدعم من جهات اجنبية! وبالرغم من ذلك فقد وقف العديد من العكسريين (جنودا وضباطا) مواقف ايجابية تجاه الثوار، مما ساهم بالتحفيف عليهم. وحاصرت القوات الامنية والجيش المتظاهرين بالدبابات والمدرعات وقوات المشاة التي وصلت خان النخيلة، كما اشتركت القوة الجوية بطائراتها المقاتلة والعمودية في التصدي للانتفاضة وحدثت الاشتباكات العنيفة سقط على اثرها العديد من الجرحى، كما اعتقل الالاف من الثوار، فيما استمرت جموع ضخمة –تتقدمها راية الانتفاضة الخضراء التي كتب عليها (يد الله فوق ايديهم)- بالتوجه نحو كربلاء فوصلتها وهي تهتف بشعارات حسينية ثورية بالشكل الذي احدث ارباكا في المدينة واشتباكات محدودة مع قوات السلطة، اعتقل خلالها عددا اخر من الثوار.  وعندها انتهت الانتفاضة في يومي 17 و18 صفر (6و7 شباط/فبراير) عند نقطتي خان النخيلة وكربلاء. وكان الامام السيد محمد باقر الصدر (قده) قد منح الانتفاضة مباركته وتأييده منذ بداية انطلاقتها وتابع تفاصيل تطوراتها وجزئياتها وشملها برعايته واوكل السيد محمد باقر الحكيم (قده) بالذهاب الى ساحة الانتفاضة لاعلان دعم السيد الصدر لزعمائها ومحاولة اقناعهم بعدم اعطاء السلطة مبررا لقمعهم وضرورة ان تكون الشعارات التي يطلقونها حسينية وتجنب التعرض المباشر للنظام، بعد ان وصلت السيد الصدر معلومات سرية مفادها ابادة المنتفضين. كانت هذه الانتفاضة التي انطلقت لمواجهة نظام البعث الظالم الذي فرض سيطرته على الدولة من خلال قمع الشعب وممارسة ابشع الجرائم بحق الشعب العراقي عن طريق الاعدامات والمقابر الجماعية والسجون وممارسة شتى انواع التعذيب الا ان التيارات الاسلامية المنظمة والجذور الحسينية لدى الشعب وقفت امام كل اساليب العنف والتهديد التي مارسها النظام البعثي لاجل منع الشعائر الحسينية والزيارة الاربعينية بالذات التي كان يدرك انها ليست فقط مسيرة اعتيادية وانما تهدف لمواجهة الظلم، ووقفت الجماهير تلك متحدية القرارات والتهديدات وقدموا العديد من الشهداء والجرحى من دون امتلاكم السلاح، انما واجهوا اجهزة الدولة القمعية واسلحتها بالروح الثورية الحسينية. ان هذه الانتفاضة حققت العديد من النتائج على ارض الواقع على الصعيد السياسي في العراق، فقد كشفت حقيقة النظام البعثي الذي حكم العراق وظلمه ومحاربته للدين وكسرت حاجز الخوف عند الجماهير.  كما عبرت تلك الانتفاضة عن عمق ارتباط الشعب العراقي بالشعائر والقضية الحسينية وانهم يرفضون أي تهديدات او اساليب عدوانية لثنيهم عن اداء تلك الشعائر وقطع هذه الرابطة، اضافة الى ذلك اعطت نتيجة مفادها ان المؤسسة الدينية الشيعية تقف وتساند الامة في جميع الظروف واقساها وان لها دورها وموقفها السياسي فضلا عن البعد الديني والشرعي.     ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المصادر:  1- علي المؤمن، سنوات الجمر (مسيرة الحركة الاسلامية في العراق 1957-1986)، المركز الاسلامي المعاصر،بيروت، ط3. 2- لتفاصيل اكثر حول انقلاب 17/7/1968 ينظر: حنا بطاطو، العراق الكتاب الثالث الشيوعيون والبعثيون والضباط الاحرار، ترجمة عفيف الرزار، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت، 1999م، ص389-393. 3- احمد حسن البكر (1968-1979) رئيس وزراء اسبق ،ورئيس الجمهورية العراقية، عضو القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث الاشتراكي، اصبح رئيسا للوزراء بعد انقلاب 1963،تمكن في17 تموز 1968 ان يسترد سلطته بعد انقلاب دبره عبد الرزاق النايف وابراهيم الداود، فاصبح رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية عام 1979 والذي اطاح به صدام حسين بانقلاب ابيض اجبره فيها على الاستقالة، وتوفي عام 1983م في بغداد. ينظر :طالب الحسن، حكومة القرية.  4- بشرى ناصر هاشم الساعدي، الانتفاضة الاربعينية 1977 دراسة تاريخية في الاسباب والنتائج، زيارة الاربعين مسيرة للتكامل الانساني، ج1. 5- ناصر حسين الاسدي، شيعة العراق دولهم واثارهم، مكتبةالعامة ابن فهد الحلي، كربلاء المقدسة.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك