رياض البغدادي||
قانون الاحوال الشخصية ... قضية لا يحق للباحث في تاريخ العراق الحديث ان يتجاوزها , ما لم يقف عندها وقفة المتامل المنصف , الناظر اليها من مختلف ابعادها الدينية و الاجتماعية و السياسية و غيرها , وحتى الفكرية و الفلسفية ..
فمن المعلوم ان المجتمع العراقي و منذ بداية القرن الماضي و الى عصرنا الحاضر, أي فيما قبل نشوء هذه المشكلة و الى الان نشات فيه افكار وتيارات وحركات واحزاب مختلفة, ولكنها كلها ــ و لعلها كلها تعترف بذلك لو انصفت نفسها ــ لم تلامس واقعه الحي ولم تقترب من مشكلاته الحقيقية , وانما راحت تتجاذب الصراع على رؤؤس ابناء هذا الشعب يمينا تارة وشمالا اخرى,و تقدمية مرة ورجعية مرة,قومية او وطنية او اممية,الحادية او اسلامية او غيرها,و الملفت المثير للانتباه ان كل تلك التيارات كانت محشوة بالتطرف فيما هي فيه حشوا مبالغا فيه, ولم تعتمد الحوار والتفاهم , والرجوع الى ارض الواقع والاعتراف بما فيه من تنوع و تلون متعدد الاطياف.
فكل منهم كان ياخذ (مسطرته) الخاصة, التي لا يمكنه انكار حقيقة انها مستوردة من بيئة او مجتمع اخر تمثل تجربة خاصة له,ومن غير المعقول تطبيقها في مجتمع اخر كالعراق, الا انهم ــ كلهم ــ اعتمدوها مقاييس للحق والباطل, او الخطا والصحيح, او التطور والتاخر, او الرجعية والتقدمية, وغيرها من المصطلحات , وتحولت في اخر الامر الى سيوف يضعها كل منهم في وجه الاخر, ليكون ذلك بداية الى نهاية غير مشرفة في تاريخ العراق الحديث, هي كثرة القتل السياسي , التي ملات صفحاته ,ولم تتورع بطبيعة الحال عن أي مستوى من مستوياته.
فمن غير المستبعد ان تعرض قضية (الاحوال الشخصية) على هذه (المساطر) المختلفة, كما عرضت كل فئاته وقضاياه عليها, و تتحمل الأحكام والتقييمات المختلفة منهم كل حسب افكاره واهوائه.
القضية باختصار.. ان الحكومات العراقية الحديثة و بعد الاحتلال البريطاني, وبدءا من العهد الملكي حاولت ان تفصل لهذا الشعب قانونا لقضاياه واحواله الشخصية واحدا كما تراه هي, وكما تمليه عليها توازناتها السياسية او الفكرية الحاكمة عليها في حينها , ليكون ذلك حاكما عليه وعلى اختلاف الوانه لعقود او قرون متوالية, الا ان المرجعية الدينية بزعامة المرجع الاعلى السيد محسن الحكيم رحمه الله , وهي المرجعية الاكثر عمقا وتجذرا في وجدان الشارع العراقي من كل تلك الحركات والتيارات, المرجعية التي لا تزال اثارها وماثرها في ذاكرة العراقيين بعد وفاته رحمه الله الى عدة عقود و الى الان , اذ لم يبق من تلك الحركات والاحزاب الا التاريخ الذي لن يجاملها او يتساهل معها, تلك المرجعية الرشيدة رات ان في هذا القانون اجحافا وظلما صريحا بحق الالوان والاطياف المختلفة لهذا الشعب , اذ يهدف الى الغاء خصوصيتها , وتلويثها بلون واحد , هو مستورد بطبيعة الحال .
و كان اقتراحها ان يعطى الفرد الحرية الكاملة في اختيار المذهب الفقهي الديني او العلماني الذي يبني عليه نظام احواله الشخصية, فيكون عليه زواجه وطلاقه وميراثه وسائر اموره, كما يريد هو من دون ان يفرض عليه مذهب خاص من المذاهب الاسلامية او الاتجاهات العلمانية, و اذا اختار ان يكون كل ذلك وفق المحاكم المدنية العلمانية فهو حر فيما يريد,ثم كل يتحمل مسئوليته فيما بينه وبين ربه.
غير ان انصاف المثقفين ممن كانوا يمسكون بامور الدولة في حينها لم يكونوا يخلون من روح الاستبداد الفكري والتسلط,التي تعالج الامور بسيف المسطرة الواحدة كما يرونها هم,من دون ان يضعوا في الاعتبار المشاكل التي وضعتها المرجعية نصب عينيها, فكم واجهت المرجعية من مشاكل في مراجعات الناس لها عندما يكون الرجل المكلف او المراة محكوما بمعيارين مزدوجين, القانون المدني الحاكم عليه بقوة الدولة التي لا تعترف له بخصوصيته الدينية, والشرع الذي يؤمن به من تلقاء نفسه ولا يمكنه ان يتخلى عنه, فهو بحكم احدهما زوج او زوجة وبحكم الاخر مطلق او مطلقة, وبحكم احدهما دائن و بحكم الاخر مدين .. و هكذا في ازدواجية لم يهدأ منها العراقي لقرون طويلة من الزمن.
ولو كان واضعوا هذه القوانين منصفين لأدركوا كما أدركت المرجعية انها كانت مشاكل اضافية تحمّل اعباءها الشعب العراقي الى جانب مشاكله الكثيرة التي لم تكن الحكومات حريصة على التخفيف منها في يوم من الأيام, ولم تكن هذه القوانين حلا لمشكلة قائمة كما يصورها كتابهم و منظروهم, وقد ظهرت انعكاسات هذه المشاكل في فترة الثمانينات و الحرب العراقية الايرانية كثيرا , عندما كانت المحاكم تطلق النساء على اساس هذا القانون والزوج اسير او سجين, ثم بعد فترة تجد المراة نفسها بين زوجين, احدهما شرعي والاخر قانوني, ولكل منهما اولاده وحقوقه و ممتلكاته وتبعاته, و لا حول ولا قوة الا بالله.
و استمرت مطالبات المرجعية الدينية و السياسية بتعديل هذا القانون الجائر حتى بعد تغيير النظام الدكتاتوري, فقد حاول المرحوم السيد عبد العزيز الحكيم تعديله و حصل على قرار من مجلس الحكم في وقته, الا ان الحاكم الامريكي (برايمر) استغل احتجاجات عدد من النسوة المقربات منه فاسرع الى نقضه, بعد ان ظهر الوجه الحقيقي للصراع حول هذا القانون, فقد اعترض على التعديل عضو مجلس الحكم في وقته (محسن عبد الحميد) اعتراضا شديدا لا يمكن تبريره باي شكل من الاشكال, لكون المعترض اخوانيا اسلاميا حتى النخاع, والقانون علماني لا ديني. فكيف لا يرضى بتعديله؟ والتعديل يضمن حقوق جميع الطوائف و الاديان والانتماءات, ومنها طائفته, وهو الاشد تعصبا لقضاياها.
ولكن تفسير ذلك ظهر فيما بعد, فيما كان يخاف ان يحدثه هذا التعديل في داخل البيت السني, و كان ذلك على ما يبدو هو السبب في وضع القانون اولا , وهو ان ذلك يمنح الحرية لبعض السنة ان يتحاكموا الى المحاكم الجعفرية في بعض الامور , كميراث البنت المنفردة من ابيها , وطلاق الثلاث, ونحوها لان فيها عدالة وانصافا اكثر مما هو في المحاكم الاخرى, وذلك ما لا يمكن ان يتحمله زعماء هذه الطائفة الحريصون على الحفاظ عليها الى حد التعصب.
وعلى المنظرين والمتفلسفين في هذه المواضيع ان يقراوا الواقع بعينين لا بعين واحدة, ومن زاويتين لا من زاوية واحدة, الم يسالوا انفسهم: لماذا كانت المرجعية الدينية في النجف الاشرف التي وقفت الى جانب الشعب العراقي في كل قضاياه العادلة.. بدءا من موقفه من الاحتلال العثماني ثم البريطاني ثم كل قضايا التحرر كالقضية الفلسطينية والقضية الكردية و محاربة الدكتاتورية وغيرها هي التي عارضت هذا القانون الجائر, في حين ان قاضي بغداد و مفتيها و علماء وزارة الاوقاف هم الذين تمسكوا اشد ما يكون بهذا القانون, وان كان صدر فيما اسموه بالحقبة الشعوبية, التي لم يطيقوها و لم يهنا لهم عيش فيها.
واما التنظير لهذه الامور بانه نوع من انواع الصراع بين الثابت و المتغير, وان من الطبيعي ان تعارض المؤسسة الدينية كل جديد في المجتمع فهي (شنشنة) قديمة و نغمة مكررة مستوردة نعرفها من عهد (اخزم) ملتنا ومللناها, وهي لا تستهدف هذا القانون فقط و انما تستهدف الاسلام كله , وهو ما عجزوا عن ازاحته اذ لم يجيء الى الان فكر او حركة هي اكثر واقعية منه , او رموز او اشخاص هم اكثر صدقا واخلاصا من رموزه واشخاصه.
وكان الاجدر بالمثقفين والمفكرين او من يسمون كذلك ان يجيبوا على هذا التساؤل: هل من واجبات الحكومات المدنية ان تفرض ايديولوجيتها على الشعوب, وهل يحق لها ان تتدخل في احوالها الشخصية؟ و ماذا يخص الدولة من احكام الزواج و الطلاق و الحضانة والميراث؟ اذا كانت المجتمعات قد نظمت ذلك بنفسها. نعم على الدولة ان تنظم تسجيل ذلك لما يرتبط به من واجباتها الاخرى, كالامن والخدمات والضمان الاجتماعي ونحوه,ثم تترك للمفكرين والباحثين ان يعملوا على تثقيف المجتمع و تطويره, ثم هي تغير قوانينها تبعا لتغير المجتمع
https://telegram.me/buratha