أ.د. عليّ الدّلفيّ ||
كَانَ للعَالِمِ الأمريكيّ اللِّسانيّ الكبيرِ والفيلسوفِ الشّهيرِ والمفكّر السّياسيّ نعوم تشومسكيّ الأثرُ البالغُ في تغييرِ قناعاتِ الشّعبِ الأمريكيّ في أغلبِ الولاياتِ الأمريكيّة من خلالِ حواراتِهِ الثّقافيّةِ والفكريّةِ وتصريحاتِهِ ووجهاتِ نظرهِ الاجتماعيّةِ وآرائِهِ السِّياسيّةِ؛ لقد استطاعَ أنْ يوجّهَ المجتمعَ الأمريكيّ الوجهةَ (الصّحيحةَ) منْ أجلِ إسقاطِ (ترمب)؛ وعدمِ السّماحِ لهُ بالفوزِ بولايةٍ ثانيةٍ. فهو القائلُ عامَ (٢٠١٧): (الرئيسُ الأميركيّ الخامسُ والأربعونَ هو حصيلةُ مجتمعٍ متداعٍ وماضٍ بقوّةٍ نحو الانهيارِ). وهو القائلُ: (ترمب ظاهرةٌ فريدةٌ من نوعها؛ لم تتكرّرْ مطلقًا في أيٍّ من الأممِ الصّناعيّةِ الغربيّةِ المُتحضّرةِ، بمعنى أنَّ قواعدَ الحزبِ لطالما كانتْ تعمدُ إلى إقصاءِ المرشحينَ الشّعوبيّينَ).
لَقَدْ ركّز المفكرُ الأميركيّ على مبدأِ الإقصاءِ والتّهميشِ الذي اعتمدهُ (ترمب)؛ وإهمالِهِ لعامّةِ الشّعبِ؛ إذْ قالَ: (إنَّ أغلبَ من يؤيدونَ (ترمب) ليسوا من الفقراءِ؛ بَلْ هُمِ الأغنياءُ الذينَ دعمهم طوال مدّةِ ولايتِهِ! وهو عنصريّ يؤمنُ بالعنصريّةِ ويتّخذها شعارًا له! ومن أهدافهِ تعزيز الشّعبويّةِ والقوميّةِ المُتطرّفةِ).
وَقَدْ تحدّثَ المفكّرُ اليساريّ عن ثلاثةِ أرباعِ المجتمعِ؛ وقال: ترمب لا يكترثُ لهم؛ خاصّةً الشّريحة ذات الأجورِ المتدنّيّةِ!
ثُمّ جاءَتْ جائحةُ (كورونا)؛ ليعرّيَ تشومسكي (ترمب) وفريقَهُ الصّحّيّ وسياستَهُ واجراءاتَهُ في مواجهةِ الجائحةِ؛ فهي قَدْ أظهرتْ هشاشةَ الأنظمةِ الصّحّيّةِ في أمريكا في ظلّ (ترمب)؛ فضلًا عن تدنّي القيمِ الإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ؛ والانهيارَ الّلاحقَ بالأسواقِ الماليّةِ؛ قائلًا: (إنَّ الوباءَ العالميّ مؤشّرٌ إلى وجودِ مشكلاتٍ أساسيّةٍ في النّظامِ الاقتصاديّ والاجتماعيّ الأمريكيّ)!.
يُخبرُ تشومسكي المُجتمعَ الأمريكيّ أنّ التّعاملَ مع جائحةِ (كورونا) يجبُ أن يُشبه (التعبئة بعد الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ التي ذهبَ ضحيتها عددٌ من القتلى أكبر بكثيرٍ ممّا يتمّ الحديثُ عنهُ اليوم؛ وكانتْ ناجحةً وضاعفتِ الإنتاجَ الصناعيّ الأميركيّ أكثر بأربعِ مراتٍ وأنهتِ الكسادَ الاقتصاديّ)؛ يقول: إنَّ الولايات المتّحدة؛ بالمقوّمات التي تملكها؛ لديها المواردُ لـ(التّغلّبِ على نتائجِ الأزمةِ المباشرةِ). صحيحٌ أنَّه (لا إجراءات بحجمِ إجراءاتِ ما بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ، ولكنّنا نحتاجُ إلى تلكَ العقليةِ: (التّعبئة الاجتماعيّة)؛ كي نحاولَ أنْ نتغلّبَ على الأزمةِ الشّديدةِ، القصيرةِ المدى في عالمٍ متحضّرٍ؛ الدّولةُ الغنيّةُ تساعدُ من هُم بحاجةٍ إلى المساعدةِ، بدلًا من أنْ تقومَ بخنقهم، وهو ما تقومُ بهِ الولايات المتحدة في زمن (ترمب).
وَقَدْ وصفَ تشومسكي الوضعَ الاجتماعيّ الأمريكيّ (الكورونيّ) بأنَّه يعيشُ تحتَ وطأةٍ إيديولوجيّةٍ كان يُجسّدها (رونالد ريغان). كانَ يقرأ خطاباتٍ يتسلّمها من أسيادهِ أصحابِ الشّركاتِ الكُبرى، ويقول مع ابتساماتهِ المُشرقةِ: إنّ الحكومةَ هي المشكلةُ دعونا نتخلّصُ منها؛ ما يعني تسليمُ القراراتِ إلى (ديكتاتوريّةٍ) خاصّةٍ لا تخضعُ للمُساءلةِ؛ كما يتمنّى (ترمب) الآن! وعلى الجانبِ الآخرَ من المحيطِ الأطلسيّ كانت (مارغريت) تاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا الرّاحلة) تُعلّمنا أنَّه لا يوجدُ شيءٌ اسمه مجتمعٌ، بل يوجدُ؛ فقط؛ أفرادٌ، يُرمونَ في السّوق، ليحاولوا البقاءَ على قيدِ الحياة! وتبقى الولايات المتّحدة هي أسوأ نموذجٍ على الإطلاقِ في مكافحة (كورونا).
لَقَدْ تحدّثَ تشومسكي عن طريقةِ مكافحةِ الولاياتِ المُتّحدة لـ(كورونا) بالقولِ: هي أسوأُ نموذجٍ على الإطلاقِ، يُقادُ؛ اليوم من قبل شخص (دونالد ترمب) عدائيٍّ مهووسٍ. قالَ؛بدايةً؛ إنّه لا وجودَ لأيِّ أزمةٍ؛ وكورونا مثله مثل الرشح؛ ثُمَّ قالَ: إنّها أزمةٌ مروّعةٌ، ثُمَّ قال: إنّه كان يعلم بالأمرِ مُنْذُ البدايةِ، ثُمَّ قال: إنّه علينا أنْ نعودَ إلى العملِ؛ لأنّ: (عليَّ أنْ أفوزَ في الانتخاباتِ). بالنسبةِ إلى تشومسكي أنْ يكونَ مثل (ترمب) من يقودُ العالمَ (هو أمرٌ صادمٌ)؛ ولكنّ الفكرةَ أنَّ (الأزمةَ بدأتْ بفشلٍ هائلٍ من قِبلِ اقتصادِ السّوقِ، ما يشيرُ إلى مشكلاتٍ أساسيّةٍ في النّظامِ الاقتصاديّ والاجتماعيّ، والذي يزدادُ سوءًا بوجودِ ترمب!! واستمرار (كورونا) هو نتيجةُ انهيارِ المؤسساتِ التي كان يمكنها أنْ تتعاملَ معهُ لو كانتْ تلعب دورها).
وبغيابِ دواءٍ، حتّى السّاعةِ، فعّالٍ لعلاجِ (كورونا)، باتَ خيار أمريكا شبه الوحيد هو العزل. وما علينا أنْ نتذكّره هو أنّنا شهدنا في السّنواتِ القليلةِ الماضيةِ نوعًا من أنواعِ العزلةِ الاجتماعيّةِ المؤذيةِ جدًّا؛ يقولُ تشومسكي؛ شارحًا هذهِ العزلةِ: (أدخل إلى مطعم ماكدونالدز؛ على سبيل المثال؛ وأنظر إلى عدد من المراهقين يتناولون الهمبرغر. ما تلاحظه هو حصول حوارين متوازيين، حوار سطحي بينهم، وحوار يُجريه كلّ واحد على حدة على هاتفه الذكي مع شخص يتحدث معه عن بعد). هذه الظاهرة عزلتِ النّاسَ عن بعضهم البعض بطريقةٍ مذهلةٍ. وفكرةُ (تاتشر) عن عدمِ وجودِ مجتمعٍ تبرزُ في أنّ الاستخدامَ الخاطِئَ لوسائلِ التّواصلِ جعلَ من النّاسِ كائنات معزولة بعضها عن بعضٍ؛ خصوصًا الشّباب. وهناك جامعات أميركيّة تكتبُ على رصيفها (انظر إلى فوق)؛ لأنّ كلّ الشّبابِ يمشونَ في الشّارعِ ملتصقينَ بشاشاتِ هواتفهم. وهذا نوعٌ من العزلِ الاجتماعيّ (المقرّر ذاتيًّا).
ما الذي نتعلمه إذًا من أزمةِ (كورونا)؟
قالَ تشومسكي: (قد نعدّ أنّ الأزمةَ تنبيهٌ ودرسٌ لنا في التعاملِ مع أزماتنا لمنعها من الانفجار والتفكير في جذورها؛ ولا سيّما أزمة القيادة التي ستقودنا إلى المزيدِ من الأزماتِ الأشدّ سوءًا)!.
بهذهِ الآراءِ والتّصريحاتِ والحواراتِ السّياسيّةِ؛ والثّقافيّةِ؛ والاجتماعيّةِ استطاعَ تشومسكي أنْ يؤثّرَ في النّاخبِ الأمريكيّ ويفرضَ قناعاتهُ على المُجتمعِ الأمريكيّ... من أجلِ إسقاطِ المُهرّج (ترمب)؛ وقد نجحَ!
https://telegram.me/buratha