د. علي المؤمن||
الصراع الذي حصل خلال ما عرف بعصر التنوير أو عصر النهضة الأوروبية، بين سلطتي الكنيسة والدولة من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، إنما هو صراع بين الجذور الوثنية الإلحادية لأوروبا، ومخرجات التطور الفكري ـ الميداني التراكمي المتمثلة في العقلانية والتجريبية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية، وبين المسيحية الأوروبية السلطوية بجوهرها الثيوقراطي.
وقد مثلت المسيحية السلطوية التي تبلورت في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، خلطة عجيبة، جمعت بين:
1- تعاليم روحية شرقية أسسها النبي الأخلاقي الإنساني عيسى المسيح
2- عقيدة أسسها بولس، تلميذ السيد المسيح
3- شريعة يهودية توراتية
4- أنساق فلسفية يونانية إفلاطونية
5- عرفان غنوصي
6- مثيولوجيا وثنية رومانية
7- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور قسطنطين وكنيسته الرومانية.
هذه الديانة الملفّقة فرضت على أوروبا عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والإستبداد والحروب والإنكسارات، لأنها ديانة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الإجتماعية، ولأنها ديانة متحولة في تعاليمها، ولأنها تحولت الى سلطة قمع للعقل و العلم و المعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية وإستكبارية. وكلها تتعارض مع تعاليم السيد المسيح.
لذلك؛ كان ما عرف بعصر التنوير وعصر النهضة الأوروبية، ثورةً على السلطة الثيوقراطية الإستبدادية الإستعمارية لهذه الديانة الملفّقة، وليس ثورة على دين عيسى الأخلاقي.
وهكذا فإن أوروبا العلمانية الناهضة الجديدة، سلبت من الكنيسة سلطتها المعرفية والسياسية، واحتفظت لنفسها بمنافع السلطة الروحية للمسيحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها. فعلى الرغم من تخلص أوروبا من سلطة الكنيسة والدين، إلّا أنها احتفظت بعنوان التبشير المسيحي كركيزة إستعمارية أيضاً. وهي مفارقة أوروبية أخرى، إذ لم يرض الأوربيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة كجزء من سلطة المستعمر.
هذه الخصوصية المحلية للبيئة الأوروبية ودينها الروماني القسطنطيني، تجعل من غير الممكن نقل تجربة الثورة على المسيحية الرومانية الحاكمة، الى بيئات أخرى، ومنها بلاد المسلمين، فلا البيئة الاوروبية وصيرورتها التراكمية الإجتماعية والتاريخية تشبه بيئة المسلمين ومسارات تكوينها، ولا المسيحية الرومانية وفكرها وفلسفتها وسلوكياتها، تشبه الدين الإسلامي السماوي بعقيدته وشريعته.
وبالتالي، فإن محاولات المقارنة بين المسيحية الرومانية الثيوقراطية وإسلام محمد بن عبد الله، والتي يقوم بها علمانيو البيئة الإسلامية المتشبهين بعلمانية عصر التنوير الأوروبي، بهدف فرض مخرجات عصر التنوير الأوروبي وفكره ونظمه الإجتماعية والسياسية والإقتصادية على بلاد المسلمين، إنما هي مقارنة متهافتة ولا موضوع لها، وتعاني من انسدادات موضوعية نهائية؛ بالنظر للفرق الجوهري بين الدينين، وبين البيئتين
ــــــــــ
https://telegram.me/buratha