أ.د.عليّ الدّلفيّ||
يمثّلُ مفهومُ الثّنائياتِ الصّوريّةِ الضّدّيّةِ في جوهرهِ في أيِّ مجتمعٍ منِ المُجتمعاتِ كما صاغهُ العالمُ السّويسريّ الفذّ (فرديناند دي سوسير): الرؤيةَ الثّنائيّةَ المُزدوجةَ للظّواهرِ، وإدراج هذهِ الظواهرِ في سلسلةٍ من المقابلاتِ الثّنائيّةِ؛ للكشفِ عن علاقتها التي تحدّدُ طبيعتها وتكوّنها، فهي تخلقُ التّوازنَ والتّآلفَ بينَ الصّفاتِ المُتضادّةِ أوْ المتضاربةِ في مجتمعٍ ما. وتوفّق بينَ (المُقدّسِ) و(المُدنّسِ)؛ والمُؤتلفِ والمُختلفِ؛ والعامِّ والمحدودِ؛ والمحسوسِ والفكرةِ والصّورةِ؛ والفردِ والنَّموذجِ.
وهذا (التّقابلُ الضّدّيُّ) هو ما يمثّلُ (جوهرَ المعرفةِ الإنسانيّةِ)؛ وبدونهِ تبدو لنا غير منسجمة"؛ كما يحدثُ؛ الآن؛ في الحياةِ الإجتماعيّةِ اليوميّةِ في العراقِ!
ومنَ المعلومِ لنا جميعًا أنَّ العلاقاتِ بأنواعها المُتعدّدةِ يصنعها الإنسانُ بينَ كلِّ الثّنائيّاتِ الضّدّيّةِ في الحياةِ؛ بحيث يكونُ الإنسانُ مركزَ الكونِ.
وإنَّ العلاقةَ العدائيّةَ بينَ اللهِ والشّيطانِ أساسها الإنسان، فلو لَمْ يخلقْ الله الإنسانَ ما انحرفَ إبليس (الشيطان)؛ وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ إلى هذهِ الجدليّةِ.
وعلى اعتبارِ أنَّ الله أصلُ كلِّ خيرٍ، والشّيطانَ أصلُ كلِّ شرٍّ من النّاحيةِ النّظريّةِ، فكلّ ثنائيّةٍ متعارضةٍ إنّما هي فرعٌ عن الثّنائيّةِ الأصليّةِ، النّور خير، والظلام شرّ، الحقّ خير، والباطل شرّ... وهكذا.
والإنسانُ؛ بطبيعةِ الحالِ؛ هو الصّلةُ بينَ هذهِ المتضادّاتِ...
وهذا ما ذهبَ إليهِ عالمُ الاجتماعِ السّويسريّ (إميل دوركايم)، وقد حدّدَ علاقةَ العداءِ بين (المقدّسِ) وضدّه (المُدنّسِ) في كتابهِ (الأشكالُ الأوليّةُ للحياةِ الدّينيّةِ)؛ إذْ يرى أنَّ (المُقدّس) وضدّه (المُدنّس) لا يجتمعانِ؛ إطلاقًا؛ في مكانٍ واحدٍ أو بيئةٍ ثقافيّةٍ واحدةٍ؛ إلّا في حالةِ توقّفِ موازينِ العقلِ الفكريّةِ عندَ الفردِ والمُجتمعِ؛ وهذهِ الحالةُ لا تحدثُ يوميًّا! وليس فجأةً!! وإنّما يتمُّ التّخطيطُ إليها مسبقًا! كتهيئةِ الأرضيّةِ المناسبةِ عنِ طريقِ الإعلامِ المُنظّمِ المؤدلجِ؛ واستغلالِ فشلِ السّلطةِ في توفيرِ بيئةٍ اجتماعيّةٍ صالحةٍ للعيشِ بالاعتمادِ علىٰ موروثاتٍ اجتماعيّةٍ!! ويبقى عاملُ (الغزو الثقافيّ والاجتماعيّ) المؤثّرَ الأهمَّ في ذلكَ كلّهِ؛ أوْ هذا ما نراهُ؛ الآن؛ في المُجتمعِ العراقيّ.
وقد يسألُ سائلٌ! ما الهدفُ من خلطِ هذهِ الثّنائياتِ الصّوريّةِ الضّدّيّةِ معَ بعضها؟
أقولُ: إنَّ (المُقدّس) في تصوّرهِ متماثلٌ معَ الدّينيّ، لذا فهو مميّزٌ بالتعالي عنْ حياةِ الأفرادِ، وهو الوجهُ المفازُ والمتعالي لحياةِ الجماعةِ الدّنيويّةِ؛ وبسببِ سماتهِ وخصائصهِ تلكَ لا يستطيعُ التّعايشَ معَ ما يعارضهُ ويهدمهُ؛ وهو (المُدنّسُ).
ويرى (دوركايم)؛ أيضًا؛ أنَّ (المُقدّسَ) هو كلُّ ما تقومُ بهِ النّواهي الدّينيّة لحمايتهِ وعزلهِ. أمّا (الأشياءُ المدنّسةُ)؛ فهي تلكَ التي تنطبقُ عليها هذهِ النّواهي، والتي يجبُ أنْ تبقى بعيدةً عن الأشياءِ الأولى.
و(الأشياءُ المقدّسةُ) يجبُ أنْ تنفصلَ؛ تمامًا؛ عنِ (الأشياءِ المُدنّسةِ) وليس ذلكَ حسب؛ وإنّما تبعدُ عنْ كُلِّ ما بصلةٍ منْ بعيدٍ أو منْ قريبٍ بالمُدنّسِ. والحياة الدنيويّة يجب ألاّ تتدخّل بأيّ شكلٍ منَ الأشكالِ في الحياةِ الدّينيّةِ. للمحافظةِ على الموازينِ الفكريّةِ والدّينيّةِ والاجتماعيّةِ بالاعتمادِ على القيمِ العاليةِ: الموروثةِ، والبيئةِ، والمجتمعِ.
إذنْ يتّضحُ مِمّا تقدّمَ أنّ وجهةَ نظرِ (دوركايم) تتّسقُ معَ ما تذهبُ إليهِ الثّقافةُ الشّعبيّةُ، من أنّ الطّاهرَ لا يلتقي معَ النّجسِ؛ والمُقدّسِ لا علاقةَ لهُ بالمُدنّسِ.
وبناءً على ما ذهب إليه (دوركايم) يمكنُ أنْ نتحدّثَ؛ نحنُ الشّيعة؛ في ضوءِ (الزّمانِ؛ والمكانِ؛ والبيئةِ) عنِ المعجزاتِ والكراماتِ باعتبارها تجليّاتٍ للمُقدّسِ، وأكبرُ تجلٍ (للمُقدّسِ) لدينا هو (الإمامُ الحُسين) (عليه السّلام) الذي يقرُّ المذهبُ الجعفريّ بإعجازهِ وقداستِهِ؛ و(كربلاءُ) جزءٌ لا يتجزّأُ منهُ؛ فلفظةُ (كربلاءَ) في الثّقافةِ السّاميّةِ تعني معبدَ الإلهِ؛ وهي أرضٌ مقدّسةٌ وطاهرةٌ مُنْذُ أنْ خُلِقَت؛ لذا لزامًا على الجميعِ المحافظةَ على قداستها وأنْ نبعدَ عنها كلّ ما يدنّسها؛ لأنّ هنالكَ منْ يحاولُ إسقاطَ فكرةِ (المُقدّسِ) منَ الثّقافةِ العراقيّةِ الشّيعيّة؛ لإلغاءِ الهُويّةِ وطمسها إلى الأبدِ... .
إنّ الثّقافةَ الشّيعيّةَ العراقيّةَ لا يمكنُ أنْ تحيا إلّا في ظلِّ (المُقدّسِ)؛ وهذه قناعةٌ بُنِيتْ على أسسٍ معرفيّةٍ (سوسيولوجيّةٍ) لا تحتملُ الخطأ أوْ الوهمَ أوْ الافتراضَ؛ إذْ لا يمكنُ إلغاءُ رمزيّةِ (المقدّساتِ الدّينيّةِ) وسيميائيّتها منَ المذهبِ الشّيعيّ العراقيّ؛ مثل: (العتبات؛ والأضرحة؛ والمرجعيّة الدّينيّة)... .
أخيرًا: إنَّ فكرةَ (المُقدّسِ) راسخةٌ في كُلِّ المجتمعاتِ الإنسانيّةِ العالميّةِ القديمةِ والحديثةِ؛ ولكنْ نجد سيميائيّةَ (المُقدّسِ) هي (الأقدسُ) في مجتمعنا العراقيّ الشّيعيّ؛ لأسبابٍ كثيرةٍ؛ لا يسعُ المقامُ لذكرها الآن.
ــــــــ
https://telegram.me/buratha