السيد علي الأكبر الحائري ||
· شمولية الأحكام الإلهية(دراسة نقدية لفكرة تغيّر الأحكام الشرعية وفقاً للظروف الاجتماعية)
الخطوة الثانية:
من المسلّم أنّ الأحكام الشرعيّة ـ بحسب ما وصل إلينا من أدلّتها ـ لم تكن تصدر عادة على نحو القضايا الخارجية المرتبطة بموضوعات شخصيّة معيّنةٍ في الخارج، وإنّما كانت تصدر على نحو القضايا الحقيقيّة العامّة، وهذا يعني أنّها منصبّة على عناوين كليّة مأخوذة في متعلّق الحكم تارة وفي موضوعه تارة اُخرى، (وبيان الفرق بين المتعلّق والموضوع موكول طبعاً إلى محلّه) من قبيل عنوان (الفقير) أو (الغني) وعنوان (المرأة) أو (الرجل) وعنوان (طلوع الفجر) أو (غروب الشمس) وعنوان (الاستطاعة للحجّ) وعنوان (ستر تمام البدن عدى الوجه والكفّين) وعنوان (سهم النصف) أو (الثلث) أو (حظ الذكر مثل حظ الاُنثيين) في باب الإرث، وعنوان (دفع العدو) في باب الجهاد الدفاعي، ونحو ذلك من العناوين الكليّة. وهذه العناوين الكليّة لم يخصّصها الشارع تبارك وتعالى ـ بحسب ما يستفاد من الأدلّة الشرعيّة ـ بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة معيّنة إلّا بالقدر المذكور في تلك الأدلّة من القيود الدخيلة في تلك العناوين، من قبيل قيد (السفر) أو (الحضر) وقيد (حال المرض) أو (حال الصحّة) ونحو ذلك.
وبهذا ستكون الأحكام الشرعيّة ملازمةً سلباً وإيجاباً لصدق تلك العناوين الكلية، بمعنى أنّه متى ما صدقت العناوين الكلية الدخيلة في الحكم جرى الحكم عليها، ومتى ما لم تصدق تلك العناوين لم يجر الحكم، ولا يحقّ لنا أن نتصرّف في تلك العناوين الكليّة أو نغيّر شيئاً منها بحسب الظروف الاجتماعية، ما دامها قد وضعت من قبل الشارع تبارك وتعالى من دون اختصاص بزمان معين أو بظروف اجتماعية معيّنة.
فمثلاً ما دام أن الشارع تبارك وتعالى قد جعل نظام الصلاة والصوم منوطاً بالعناوين الكلية الراجعة إلى نظام الشمس، فلا يحقّ لنا أن نغيّر نظام الصلاة والصوم ونجعل لهما عناوين كليّة اُخرى وفقاً لنظام الساعات مثلاً لا وفقاً لنظام الشمس بحجّة كون هذا أنسب للظروف الاجتماعية الحديثة.
وهذا طبعاً بحسب حدود صلاحيّتنا نحن تجاه الأحكام الشرعية بوصفنا فقهاء غير معصومين ولابدّ لنا من الالتزام بموازين استنباط الاحكام الشرعية من الأدلّة الموجودة بين أيدينا، وليس من جملة موازين استنباط الأحكام الشرعية ما يقتضي التصرّف في العناوين الكليّة الواصلة إلينا في الأدلّة الشرعيّة بتغييرها أو بتخصيصها بزمان معيّن أو بظروف اجتماعيّة معيّنة، ما دامت الأدلّة الشرعيّة مطلقةً من هذه النواحي، والظهور الإطلاقي حجة حسب ما هو ثابت في علم الاُصول.
نعم، قد يقوم الإمام الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه) بعد ظهوره بتغيير بعض العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام بناءاً على صلاحيّة مقام الإمامة للتدخّل في التشريعات الإسلامية، أو يقوم بالكشف عن أنّ العنوان المأخوذ في حكم من الأحكام يختلف بحسب الواقع عن العنوان الذي نحن استنبطناه ظاهراً من الأدلّة الموجودة بين أيدينا بحسب ما نملكها من موازين الاستنباط، وهذا لا يبرّر لنا القيام بشيء من هذا القبيل في زمن غيبة الإمام المعصوم عليه السلام.
الخطوة الثالثة:
وسائل تحقيق العناوين الكليّة
لابدّ من التمييز بين العناوين الكليّة المأخوذة في الأحكام، وبين الوسائل والمقدمات الدخيلة في تحقيق تلك العناوين الكلية، فإنّ العناوين الكليّة لابدّ من اتباعها سلباً وإيجاباً كما نبّهنا عليه في الخطوة السابقة، وأمّا المقدّمات الوجوديّة التي لم يأخذها الشارع تبارك وتعالى ضمن تلك العناوين الكليّة رغم كونها ضروريّةً لأجل تحقيق تلك العناوين، فمن حقّنا أن نختار منها ما يناسب الظروف الاجتماعية التي نعيشها.
فمثلاً: قد أمر الشارع تبارك وتعالى بدفع العدو عند مداهمته لبلاد المسلمين، فالعنوان الكلي الدخيل في الحكم عبارة عن (دفع العدو) ولكنّ المقدمات والوسائل التي كانت معروفة في زمان نزول هذا التشريع كانت عبارة عن ركوب البغال والحمير واستخذام السيوف والرماح، ولايجب علينا في زماننا هذا عند مداهمة العدو لبلاد المسلمين أن نتخذ نفس المقدمات والوسائل القديمة لدفع العدو، بل لابدّ لنا من اتخاذ ما يناسب الظروف والملابسات الحديثة لتحقيق عنوان (دفع العدو) وليس ذلك إلّا لأنّ تلك المقدّمات والوسائل ليست داخلةً في العناوين المأخوذة في متعلّق الحكم، فلابد من تحقيق العنوان المأخوذ في متعلّق الحكم بالوسيلة التي تحقق ذلك في كل زمانٍ بحسبه.
وكذلك يقال أيضاً في الوسائل التي يتّخذها الحاج للتوصّل إلى الميقات لأداء فريضة الحج، حيث إنّ أوّل عنوانٍ كلّي مأخوذ في متعلّق فريضة الحج عبارة عن (الكون في الميقات) أو (القيام بالإحرام من الميقات) وليست وسيلة انتقال المكلّف من بلده إلى الميقات داخلة في العنوان الكلي المطلوب، فلا يضرّه اتّخاذ الوسائل الحديثة للانتقال إلى الميقات.
https://telegram.me/buratha