أ.د علي الدلفي ||
نجحتِ (العَلمانيّةُ/ المَدنيّةُ) في العراق وبعضُ مَنْ يمثّلها مِنَ (المُثقّفينَ المأجورينَ والإعلاميّينَ الانتهازيّينَ) في تحريفِ مفهومِ المرجِع الأعلىٰ آيةِ اللهِ السِّيَّد السِّيستانيّ للدولةِ (المدنيّةِ) المُحافظةِ علىٰ الثّوابتِ الإسلاميّةِ؛ وأنْ يجترحوا المفهوم المناسب لخدمةِ توجّهاتهم السّياسيّة والاجتماعيّة ويساعدهم في قصف عقول عامّة النّاس ونشر معرفةٍ مغلوطةٍ؛ بعد أنْ حذفوا الثّوابت الإسلاميّة وغيّروا مفهوم (المدنيّة) من معناه الدّقيق في الموروثِ الإسلامِيّ إلى معناه العامِّ المُرادفِ للعَلمانيّة عبر حملات "البروباغندا" التي فرضتْ نفسها علىٰ الرأي العامّ وجعلته يقبل بفكرةِ أنَّ الدّين الإسلاميّ ينبغي أنْ ينفصلَ عن السّياسة والدّولة برمّتها. ولا شكّ أنَّ وسائل الإعلام الفضائيّ والرّقميّ هي جزءٌ من العملِ المتواصلِ الذي تستطيعُ مراكز الضّغط الدّوليّ والإقليميّ (الاقتصاديّ والسّياسيّ) توظيفه لمصلحتهم مِنْ أجلِ غسل أدمغة النّاس والهيمنة على عقولهم. علمًا أنَّ الفرق بين المفهومينِ المعرفيّينِ كبير جدًّا يصلُ إلى حدِّ الضدِّ والتّقابلِ.
لَقَدْ نجحتِ القوىٰ الكبرىٰ من خلال حربها النّاعمة في التّلاعب بالمصطلحات السّياسيّة العامّة وبعثرة مفاهيمها المعرفيّة بما يتناسب وأهدافهم وَقَدْ خلصتِ الكاتبة اليهوديّة (شيريل بينارد) رئيسة مؤسّسة "راند" البحثيّة(١) Corporation RAND والمتزوجة من (زلماي خليل زاده) في الفصل الأخير الموسوم بـ(استراتيجيّة مقترحة) من كتابها المُهمّ (الإسلام الدّيمقراطيّ المدنيّ) إلى تصوّر الخطوط العريضة للاستراتيجيّة المقترحة لقيام (إسلام ديمقراطيّ أمريكيّ)؛ بحسب تصوّر اليهوديّة (شيريل) ويمكنُ؛ هنا؛ ذكر بعض هذه الخطوط كما يأتي:
🔴 تبنّي مناهج (ما بعد الحداثة) ودعم الحداثيّين وتكريس رؤيتهم للإسلام لإزالة رؤية التقليديّين؛ وذلك من خلال تزويدهم بمنبر للتعبير عن أفكارهم ونشرها. فهؤلاء الحداثيّون هم الذين ينبغي تثقيفهم وتقديمهم للجماهير؛ كواجهة للإسلام المعاصر....كما تقول شيريل: (فالحداثيّون من الناحية الأيديولوجيّة أجدر وأوثق الفئات بحمل رسالة الإسلام الديمقراطيّ !!
أمّا الصّوفيّون فلا يدخلون تحت أيّة من الأطياف الاجتماعيّة لكنّنا سوف نسلكهم هنا مع الحداثيّين ويمثّل التصوّف التفسير الفكريّ المنفتح للإسلام. وينبغي دعم التّأثير الصّوفيّ بالمدارس والقرارات التّعليميّة والمعايير الاجتماعيّة والأخلاقيّة والحياة الثّقافيّة دعمًا فعليًّا في البلاد التي يوجد به تقليد صوفيّ، مثل أفغانستان والعرب. ومن خلال الشّعر والموسيقىٰ والفلسفة، الذين يتفرّد بهم التّصوّف؛ يستطيع التقليد والممارسة الصّوفيّة القيام بدور الجسر الذي ينقل هذهِ المجتمعات خارج نطاق التّأثيراتِ الدّينيّة).
🔴 دعم التّقليديّين الإسلاميّين (متى وحيثما كانوا من اختيارنا)؛ كما تقولُ (شيريل)؛ بما يكفي لاستمرارهم في منافسة الأصوليّين الإسلاميّين، والحيلولة دون أيّ تحالف بين الفريقين. أمّا داخل صفوف التقليديّين الإسلاميّين، فينبغي أن نشجّع بشكل انتقائيّ المتوائمينَ مع المجتمع المدنيّ الحديث وقيمه!!
🔰وردًّا علىٰ ما تقدّم فإنَّ (مفهوم الدّولة المدنيّة من وجهة النّظر الإسلاميّة) مُحْتَشِد في القرآن العظيم مركز الثّقافة العربيّة والاسلاميّة وقُطُب رحىٰ الدّين والأصل الأوّل للتشريع ولا يجوز مخالفة نصوصه وأحكامه. وَقَدْ أشار القرآن الكريم بوضوحٍ إلىٰ الدولة المدنيّة وهي نفسها (الدّولة الإسلاميّة)؛ إنْ صحَّ التّعبير؛ إذْ لا نجدُ في كلِّ نصوص القرآن الكريم خلافًا لفظيًّا أو معنويًّا أو سياقيًّا أو نصيًّا بينَ مفهوم (المدنيّة) و(الإسلاميّة) بل نجد ترتيبًا خفيًّا وانسجامًا كبيرًا بين آياته. ويبقى السّياق القرآنيّ المعيار الأهمّ في تحديد المعنى وكشف ما أُضمر منه..؛ ومهما يكن فالقرآن عبارة عن مجموعة نصوص يجمعها خطاب واحد؛ ومن أهمِّ خصائصه وحدته كونه كلامًا مُنتَجًا من واحدٍ أحدٍ هو الله عزّ اسمه. وكون متلقيه الأوّل واحدًا هو النبيّ المختار (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وكون موضوعاته المتفرّعة تصبّ جميعها في موضوعٍ أساسيٍّ واحدٍ هو التّوحيد وتوجيه العبد نحو ربّهِ وخالقهِ. فضلًا عن كونه خطابًا سماويًّا تثبت الأدلّة العقليّة والنّقليّة واللّسانيّة بأنّه خطاب محكم خالٍ من التفكيك والاختلال.
وَقَدْ حاولتْ مناهج "ما بعد الحداثة" الغربيّة كـ( التّفكيكيّة؛ والتّشكيكيّة؛ والعدميّة؛ واللادينيّة؛ واللاأدريّة؛ واللاهوتيّة الغربيّة؛ والإلحاديّة المُتطرّفة؛ والنّقديّة الثّقافيّة المؤدلجة؛ ... وهلمّ جرّا) أنْ تفكّك النّصّ وتبعثره بعيدًا عن حقيقته اللِّسانيّة وتاريخيته النّقليّة؛ ولكنّها؛ في الأخير؛ فشلتْ فشلًا جسيمًا وخسرتْ خسرانًا كبيرًا وخاب سعيها. وبما أنَّ مقتضىٰ الحال وسياق المقام لا يسعا التّفصيل فلن أُطيلَ الكلام في إثبات الحقائق الثلاث الآتية:
أوّلًا: حقيقة تبنّي القرآن الكريم لمفهوم (المدنيّة).
ثانيًا: حقيقة تماهي السّياسة مع الدّين الإسلاميّ في ضوء النّصوص القرآنيّة.
ثالثًا: حقيقة (لا أصل في القرآن الكريم لمفهوم فصل الدّين عن السّياسة).
ولكن سأختصر علىٰ ما قاله السّيّد محمّد باقر السِّيستانيّ وأسردُ بعضًا ممّا كتبه في كتابه القيّم (اتجاه الدّين في مناحي الحياة)(٢)؛ إذْ رأىٰ أنَّ الدِّين يشتمل علىٰ مبادئٍ حكيمةٍ وتعليماتٍ معقولةٍ تناسب الحقائق الكبرىٰ التي جاء بها من جهةٍ؛ وتستجيبُ لحاجاتِ الإنسانِ من جهةٍ أخرىٰ. وهذهِ التّعاليم في مناحي حياةِ الإنسانِ جزء لا يتجزأ من مضمونِ الدِّين... .
إنِّ سماحة السَّيِّد تحدّث في كتابه (اتجاه الدِّين في مناحي الحياة) عن:
الدِّين والعقلانية العامة
الدِّين والعلم
الدِّين والإلهام
الدِّين والحكمة
الدِّين والأخلاق
الدِّين والإيمان
الدِّين والعدالة
الدِّين والأبعاد الروحيّة للإنسان
الدِّين والسّعادة
الدِّين والحرية الشّخصيّة
الدِّين والقانون
الدِّين والسِّياسة
الدِّين والمعاصرة وقسّمه علىٰ أربعة أقسام:
الدِّين والعقلانيّة المعاصرة
الدِّين والعلوم المعاصرة
الدِّين والأخلاقيّات المعاصرة
الدِّين والتّقنين المعاصر
وَقَدْ فصّل القول في حديثه عن هذه الموضوعات جميعًا في ضوءِ القرآن العظيم ومن وجهة نظرٍ اجتماعيّةٍ عصريّةٍ. ومن يقرأُ الكتاب سيعلمُ مدىٰ العلاقة بين الدِّين والحياة بعمومها؛ والمدنيّة جزء بسيط منها؛ كما أنّه أشار بوضوحٍ إلىٰ مدىٰ العلاقة بينَ الدِّين والسِّياسة.
ولا أريد التّفصيل؛ هنا؛ وإنْ كان مهمًّا ولكن علىٰ وجه العموم أقول:
لَقَدْ تحدّث السَّيِّد محمّد باقر السِّيستانيّ في محور (الدِّين والسِّياسة) عن شؤونٍ ثلاثةٍ هي: الشّأن التّشريعيّ؛ والشّأن التّنفيذيّ؛ والشّأن القضائيّ. وقسّم التّشريعيّ علىٰ أقسامٍ... . وسلّط الضوء علىٰ الشّأن التّنفيذيّ باعتباره الأقرب لمصطلح (الدّولة المدنيّة) من وجهة نظرٍ إسلاميّةٍ. وقد أثبت في صدر حديثه أنَّ من يثبت له الحقّ في التّنفيذ علىٰ وفق القانون الفطريّ والمذاق العقلانيّ العامّ هو اللهُ تعالىٰ . ثُمَّ فصّل القول في مَنْ يحقّ له من النّاس أنْ يتصدّى للتنفيذ؛ وَقَدْ ذكر أنَّ التّشخيص لا الاختيار لا علىٰ سبيل الاختيار الشّخصيّ؛ ولهذا قالتِ المرجعيّة العُليا في مناسباتٍ عديدةٍ قبلَ الانتخاباتِ السّابقة والتي سبقتها (عليكم بالأصلح والأنزه والأكفأ والأفضل والأحسن)؛ وهذا مبدأ تشخيصيّ (مدنيّ) وفي أصلهِ (دِينيّ). ثُمَّ تحدّث عن الحاكم والانتخاب؛ ثُمَّ بعد ذلك تحدّث عن مسؤولية المجتمع في تمكين الحاكم المنصوب. وهو (مبدأ دينيّ في أساسه تمّ تطويره ليكون مبدأً مدنيًّا). وأسرد نصوصًا قرآنيّةً كثيرةً وأقوالَ أمير المؤمنين (ع) بهذا الشّأن؛ ومن الجدير بالذّكر أنَّ أوّل من أسّس مفهومًا مدنيًّا لبناء أسس الدّولة المدنيّة هو أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)؛ وذلك عندما رفض السّعي في التّصدّي بعد النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبيعة أبي بكر؛ لأنَّه وجد أنَّ المجتمعَ (المهاجرين والأنصار) أعرضوا عنه رغم تعيينه فترك الأمر. ثُمَّ الإمام الحسن (ع) عندما وجد أنَّ المسلمين سَئِموا الحروب. (وهنا ألتمس منكم قراءة نصّ أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة خطبة ٢١٦ في ص ٣٣٣).
لَقَدْ خلص السَّيِّد محمّد باقر إلىٰ أنَّه ليس هناك من تعليماتٍ دينيّةٍ مجافيةٍ للفطرة في المجال السّياسيّ؛ بل التّعليمات الدِّينيّة في هذا المجال مبادئ قريبة إلىٰ الفطرة مناسبة معها.
وبذلك يجب عدم لوم الدِّين علىٰ إناطة تنفيذ الأحكام بعامّة النّاس.
إنَّ التّشريع الدِّينيّ يجري علىٰ احترام المقتضيات الفطريّة والحكميّة في شأن من يحقّ له تنفيذ الأحكام ولا تصحّ الانطباعات التي فسّرتِ النّصوص والأحكام الدِّينيّة علىٰ وجهٍ آخرَ. معنى هذا أنَّ السِّياسة ذائبة في الدِّين حدّ التّماهي.
وخير ما يمثّل الحياة المدنيّة في الدِّين هي الحرّيّة الشّخصيّة؛ فَقَدْ فصّل السَّيِّد مُحمّد باقر السِّيستانيّ الكلامَ في هذا الموضوع وتناول حدود الحرّيّة وأنواعها؛ والنّظرة الجامعة للحرّيّة؛ ومحدوديّة المستوى الفطريّ من الحرّيّة وتحديد الحرّيّة بحقوق الآخرين وتحديدها بمقتضىٰ الحكمة وتحديدات متوهمة وخاطئة للحرّيّة.
اتّضح لي بعد قراءة هذا الكتاب القيّم والثري في مفاهيمه الإسلاميّة ومعارفه الاجتماعيّة العامّة وعلاقاتها بالحياة والدِّين والدّولة؛ أنَّ المرجعيّة لا تفصل بين الدِّين والسّياسة قيد أنملة؛ بَلْ أنَّ الدّولة المدنيّة الحقّة هي الدّولة القائمة على التّعاليم الدِّينيّة الحقّة.
هذه المقالة بمثابة دعوةٍ صريحةٍ لعامّةِ المثقّفينَ الباحثينَ عن الحقيقة ممّن وقفوا علىٰ الأسئلة التي توجّه في شأن مضمون الدِّين وأنْ يرتقوا في تأمّل الدِّين إلىٰ هذا المستوىٰ من الخطاب للاستقرار علىٰ رؤيةٍ صائبةٍ؛ ولقراءة نتاجات السَّيِّد باقر السّيستانيّ الفكريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والتّأمّل فيها؛ ومعرفة الحقيقة النّاصعة بعيدًا عن الزّيف والتّضليل والتّشويش والتّدليس.
——————————————————
(١) مؤسّسة "راند" الأمريكيّة من أهمّ مراكز الدّراسات الإستراتيجيّة علىٰ الإطلاق؛ وهي بمثابة ”العقل الاستراتيجيّ الأمريكيّ” والذراع البحثيّ شبه الرّسميّ للإدارة الأمريكيّة بوجهٍ عامٍّ والبنتاگون علىٰ وجه الخصوص. ولمن يريد معرفة تفاصيل خطط الهجوم ضدّنا فليقرأ كتاب (الإسلام الدّيمقراطيّ المدنيّ) لـ(شيريل بينارد).
(٢) كتاب (اتجاه الدّين في مناحي الحياة) هو أحد أهمِّ كتبه التي أصدرها ضمن سلسلة كتبه البحثيّة العامّة الموسومة بـ (منهج التّثبّت في الدِّين) والتي لم يسعَ فيها إلىٰ التّوغّل في المساحات التّخصّصيّة؛ بل هي نتاج تأمّلات مستفيضة في نصوص القرآن العظيم؛ ودراسات تفصيليّة في كثير من المسائل الدّينيّة (الفقهيّة والعقائديّة) وعلاقتها بنواحي الحياة المتعدّدة؛ ومقارنات متنوّعة بين الاتجاهات التّشريعيّة المُختلفة. لَقَدْ توصّل المؤلِّف في خاتمة كتابه هذا إلىٰ أنَّ المنظومة المعرفيّة الدّينيّة منظومة فطريّة وراشدة وناضجة ومستقيمة؛ وهي مبنيّة علىٰ أصولٍ متينةٍ واتّجاهات صائبة في مناحي الحياة كلّها. ومنسجمة مع ما يُليق ويُتوقّع من الدِّين بحسب المجسّات المتاحة للإنسان بالرّشد العقلانيّ العامّ الذي يُوجب قيام الحجّة الكافية علىٰ عامّة النّاس. علمًا أنَّ الكتاب مؤلَّف مِنْ (٧٠٠) صفحة.
https://telegram.me/buratha