تبارك راضي ||
"إن الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في المحيط الهادي والهندي" . هذا ما أعلنه بايدن ضمن إستراتيجيته المؤقتة ، ولم يكد يمضي الشهرين على تنصيبه ، لكن يبدو أن الوضع في تلك المنطقة خطير لدرجة التخلي عن الحلفاء ومواجهة تبعات غضبهم فيما بعد .
لقد فاقت الصفعة التي تلقاها حلفاء الولايات المتحدة بعد الإعلان عن الاتفاقية الأمنية في المحيطين الهادئ والهندي (اوكوس )، تلك التي تلقوها قبل مدة قريبة نتيجة الانسحاب دون التشاور الكافي مع الأعضاء في (الناتو) ، الأمر كان أشد وطأة على فرنسا من غيرها ، وهي التي كانت قد أبرمت منذ العام ٢٠١٦ صفقة غواصات تقليدية مع أستراليا تفوق قيمتها ٦٥ مليار دولار ، ماطلت بها كونبيرا حتى أنكشف أمر (اوكوس) .
تجمع الاتفاقية الامنية الدفاعية في المحيط الهادي والهندي (اوكوس) ، ثلاثة دول هي الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا ، وتقوم على أساس تزويد كومبيرا بالتكنولوجيا النووية لبناء غواصات متقدمة ، لا تتوفر هذه التكنولوجيا سوى لست دول في العالم هي (الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا) ، هذا فضلاً عن التعاون في المجال السيبراني والذكاء الصناعي والحرب في أعماق البحر وغيرها ، لِتُسدلَ إتفاقية (اوكوس) الستار عن فصل جديد في الإستراتيجية الامريكية , تصرفت فيه واشنطن منفردة ، مغضبة أحد أبرز حلفائها وبنحو أقل الأوربيين ككل .
كان الاتفــاق بمنزلــة صفعــة كبــرى لفرنســا، القــوة المقيمــة فــي المحيــط الهــادي، إذ حرمها من امتيـازات كانـت سـتحصل عليهـا مـن اتفاقها المبرم مع أستراليا والذي سيؤدي لتعزيز هيمنتهـا ووجودهـا العسـكري فـي منطقـة المحيـط الهـادي والهنـدي .
لذلـك جاءت تصريحات فرنسـا قوية واعتبرت مـا حـدث طعنـة فـي الظهر مـن قبـل الحلفـاء، وخيانة كبـرى ، مصوبـة نيرانها نحـو كانبيرا وواشـنطن، في حين وصفت المملكـة المتحـدة بـ "الانتهازيـة الدائمـة" .
وزيـر الخارجيـة الفرنسـي لودريـان وصف تصـرف أسـتراليا بأنـه ينــم علــى «الازدراء والازدواجيــة والأكاذيــب»، واعتبــر اتفــاق أوكــوس بمنزلــة كســر الثقــة بيـن الحلفـاء، سـينعكس علـى مسـتقبل حلـف شـمال الأطلسـي (الناتـو) .
لــم تكتــ ِف الخارجيــة الفرنســية بالإدانــة والتصريحــات الاعلامية ، فاســتدعت حكومــة باريـس سـفيريها لـدى الولايـات المتحـدة وأسـتراليا ، وألغت إجتماعاً كان مقرراً بين وزيرة الجيوش الفرنسية ونظيريها الاسترالي والبريطاني .
الغضب الفرنسي قوبل بتصريحـات هادئـة مـن الولايات المتحـدة وأسـتراليا، وتفهم لخيبــة أمــل فرنســا بعــد قــرار التخلــي عــن صفقــة الغواصــات، والتأكيــد أن فرنســا حليــف اســتراتيجي، فضــلا عــن تصريحــات إدارتــي البلديــن حـول اسـتمرار الاتصـال مـع باريـس لحـل الخـاف الجـاري، ومواصلـة العمـل المشـترك مع باريس .
ما الذي أجبر واشنطن على إغضاب الحلفاء ؟
تنامي النفوذ والتواجد العسكري الصيني في المحيطين الهادي والهندي ، وتصاعد تكلفة المرور من بحر الصين الجنوبي بعد ان اتجهت بكين ليس فقط لعملية فرض الامر الواقع على الدول المتنازعة معها على السيادة على المياه الإقليمية بطرق متعددة كبناء مدن صناعية وإنزال أسلحة صينية عليها ، وإنما صارت الأساطيل الصينية تتحرش بأساطيل الدول الأخرى حتى طال سفن الولايات المتحدة ، ما أثار مخاوف حقيقية بالنسبة للولايات المتحدة من أجل احتواء التوسع الصيني قبل ان يصبح أمراً يصعب مجابهته في منطقة تضم دولاً ذات ثقل كبير مثل الهند وكوريا الجنوبية واستراليا والصين وتايوان .
وتشكل الأخيرة اي (تايوان) هدفاً معلناً استعادته من قبل الصين ، ف بكين تعتبرها جزءاً من الصين ويشاركها العالم بمطالباتها في هذا ، في حين ترفض بعض الأوساط العودة مرة أخرى للتنين ، فيما يدعم الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة هذه التوجهات ايماناً بإن اليوم الذي تعود فيه تايوان للصين سيشكل انقلابا في موازين القوى العالمية لصالح بكين ، لما تتمتع به تايوان من أهمية استراتيجية وتكنولوجية .
النقطة الأخرى المهمة من الإستراتيجية الاميركية في المعاهدة الأمنية تتعلق بإن تنامي تهديد النفوذ الصيني في هذه المنطقة من العالم ، سيقود لسيطرة بكين على مضيق ملقا الذي تمر معظم تجارة العالم من والى الصين منه ، ويقع حالياً تحت السيطرة الامريكية ، ما يعني في حالة استحواذ الصين نهاية القرن الامريكي وبداية عهد جديد تقود فيه الصين العالم .
الهدف الاستراتيجي الامريكي هو ( قطع الطريق أمام الطموحات الصينية ، بواسطة دعم أستراليا لتصبح قادرة على إعاقة الصين وردعها )، بعبارة أخرى ستصبح أستراليا الشرطي الذي سيتولى رعاية مصالح الامن القومي الامريكي ويحافظ على حضورها في المنطقتين .
الصين المستهدفة دعت إلــى «التخلــص مــن عقليــة الحــرب البــاردة» و»التحيــز الإيديولوجــي»، ورفضــت محــاولات الولايـات المتحـدة لحشـد العالـم ضدهـا، وقالت أن اتفـاق أوكـوس لـن يـؤدي إلا إلـى تســارع ســباق التســلح فــي المنطقــة، وأنــه لــن يجلــب ســوى الإضــرار بالاســتقرار العالمــي .
أمام ما سبق ستشكل (اوكوس) تاريخاً سيغير شكل العالم ، وقد يقسمه على غرار تقسيم الحرب الباردة لمعسكرين ، لكن خصم الولايات المتحدة أصبح تنيناً بدل الدب .
https://telegram.me/buratha