د. سيف الدين زمان الدراجي *||
سلسلة مقالات في إستراتيجيات الأمن الوطني ومواجهة التحديات.
الإعلام هو أقوى كيان على وجه الأرض. لان له القدرة على جعل البريئ مذنباً وجعل المذنب بريئًا، وهذه هي القوة، لأنه يتحكم بعقول الجماهير. - مالكولم إكس
للإعلام دور كبير في مواجهة تحديات الامن القومي وتقييم الاداء الحكومي ( بمهنية وشفافية) في ظل بيئة غير مستقرة وعوامل تشويه وتجهيل كثيرة للفرد والمجتمع ، كما أن لكل من الاعلام المرئي والمسموع و لظاهرة انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المتنامية آثار إيجابية عديدة على الأمن القومي، حيث يمكن ان يستخدم كأداة تحذير أو منع في الحملات الامنية و العسكرية لاسيما في قضايا الحرب على الإرهاب ومكافحة المخدرات والجريمة المنظمة، وكأداة اتصال مؤسسية. الا انه قد يعيق أيضًا جهود تعزيز مقومات الأمن القومي ومواجهة التحديات، حيث يمكن أن يلعب دورًا مثيرًا للجدل في حرب المعلومات، من خلال تشويه وبث المعلومات الموجهة من أجل زعزعة الأمن وثقة المجتمع بنظامه السياسي وانتمائه الوطني، كما ويمكن استخدامه كأداة تجنيد من قبل الإرهابيين والمجرمين وعصابات القرصنة الالكترونية لأغراض التضليل ونشر التهديدات التي لا يمكن السيطرة عليها.
عندما يتعلق الأمر بالهيكل المعاصر للدولة، فإن مفهوم الأمن القومي يتشابك بشكل معقد مع مفهوم الحكم الرشيد، وهو الإدارة الفعالة للشؤون الوطنية للبلد على جميع مستويات عملها وتنفيذها، بهدف الحفاظ عليها وعلى مصالحها وأمن شعبها. حيث يجب على السلطات ممارسة الإجراءات السياسية والاقتصادية والقضائية والدفاعية بطريقة تضمن أن يتمتع الناس بحرية القيام بمسؤولياتهم وحل نزاعاتهم وفقًا للدستور و مبادئ العدالة والحرية والمساواة والأخوة كأساس لسياسة الأمن القومي، من أجل مواجهة أي خطر أو قوة خارجية او داخلية تهدد رفاهية الدولة وأستقرارها.
في عام 1948 ، كتب الأكاديمي هانز مورغنثاو في كتابه "السياسة بين الأمم" تعريف الأمن القومي بأنه "وحدة التراب الوطني ومؤسساته" مع توفير الزخم لمفهوم الأمن القومي في حقبة الحرب الباردة والذي يقتصر على أمن الدولة وحدودها والتركيز على دور الدفاع وقوات الأمن.
اما في العصر الحديث فقد تشعب الأمن من الدفاع الوطني ، واتسع ليشمل جوانب مختلفة من عالم معولم ، من حيث الإنسان والاقتصاد والطاقة و الأمن الثقافي والسياسي.
على الرغم من أنه لا يزال يتأثر بشدة ويحدد بواسطة الحكومة ، دخل مفهوم الأمن القومي الآن إلى الجمهور وتم تأطيره من قبل معظم العلماء على أنه "خلق الظروف التي تساهم في التوحيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأمة و ضمان سلامة أراضي البلاد ، واكتساب القدرات اللازمة للاستمرار، مع حرية الخيارات والقدرات للبقاء على قيد الحياة في بيئة أمنية دولية متقلبة.
يشمل مفهوم الأمن القومي أيضًا السلوك المتوقع للأمم الديمقراطية من خلال التركيز على توفير الحق في الحياة والحرية لمواطنيها ؛ المساواة في جميع مجالات النشاط ؛ تعاون بين القطاعين العام والخاص العاملين في الدولة ؛ حفظ السيادة والسلامة الإقليمية ؛ الحفاظ على مرونة مدنية وعسكرية وعلاقة تنمية اقتصادية قوية واستباقية ومستقلة ، لذا يظل الأمن القومي ديناميكيًا وسلسًا ومتعدد الاتجاهات. نستنتج من ذلك بأنه لا يمكن للأمن القومي أن يكون مرتبطاً بالدفاع الوطني فقط ؛ لأنه يغطي مجموعة واسعة من الجوانب التي تتطلب تعاون وتفهم الدولة وقواتها ومؤسساتها والجمهور.
لا يزال الأمن القومي يشكل حجر الأساس للحوكمة الرشيدة والرفاه الاجتماعي والتنمية الاقتصادية. حيث يعطي الأمن القومي في البيئة المعاصرة للدولة القومية الأولوية للأمن البشري والمجتمعي بالإضافة إلى الدفاع الوطني ، مع التركيز على أساسيات الأمن في الحفاظ على السلام والقضاء على الصراع. ومنذ نهاية الحرب الباردة وظهور العولمة والتكنولوجيا ، تم تطوير العديد من الأطر المفاهيمية لتوضيح التطبيقات المختلفة لاستراتيجيات حل النزاعات في جميع أنحاء العالم. حيث تتم مناقشة النهج العسكرية وغير العسكرية ، ونهج التنمية والحكم ، والدبلوماسية الوقائية، كخيارات سياسية محتملة لحفظ السلام وبناء السلام بعد الصراع.
لقد تمكنت هذه الحقول الفرعية الجديدة من تجاوز مجالات دراسات الأمن والسلام ، وإنشاء المنظمات غير الحكومية والخاصة كلاعبين رئيسيين في حل النزاعات إلى جانب الدولة. وفي حقبة الحرب الباردة ، قام محللون متخصصون في دراسات السلام والأمن بفحص دور وسائل الإعلام وممارسات التنشئة الاجتماعية في حل النزاعات والحفاظ بنجاح على الشعور بالأمن. ان تأثير الإعلام ودوره في مواجهة تحديات الأمن القومي وتعزيز الاستقرار في المناطق المتأثرة بالنزاع يساهم في بلورة حوار داخلي و دولي وتحول في طبيعة وشكل العلاقات بين الدول في جميع أنحاء العالم وهو ما جعل وسائل الإعلام مساهم هام في حل النزاعات بين الدول وخلق بيئة مشتركة لحل الازمات الداخلية.
ان الحرية والمساحة التي توفرها الدول الديمقراطية لاجهزتها الاعلامية، تلقي على عاتق الاعلام المهني الوطني الحر، مسؤولية كبيرة في المقام الاول تتمثل بالحفاظ على السلم المجتمعي ونقل الحقائق وتوعية المجتمع وبناء رأي عام ضاغط لتقويم الاداء الحكومي والبرلماني. كما انها تلقي بالمسؤولية بالمقام الثاني على الاجهزة المتخصصة في متابعة ما يصدر من تشويه وتاويل للحقائق وما يتم تداوله من اشاعات مغرضة على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام المغرضة. كذلك هناك مسؤولية اخرى تقع على عاتق من يتصدى لمهمة او تكليف وطني بضرورة حفظ الاسرار وكل ما قد يؤدي الى ان يتم استغلاله من قبل جهات تخريبية داخلية او جهات خارجية عدائية او منافسة لاسيما واننا نشهد ظاهرة بدأت تتنامى في عدد من الدول تتمثل بإطلاق التصريحات غير المسؤولة او الكشف عن معلومات عسكرية او اقتصادية او مؤسساتية اما جهلاً او تسرعاً، او لكسب الشهرة والدعاية واثبات المعرفة والاهمية والوجود، دون الاخذ بنظر الاعتبار عواقب ما قد يتم الافصاح عنه على الأمن الوطني الداخلي والقومي للدولة.
أخيراً: لا يمكن الحصول على صورة أكثر دقة لمساهمة وسائل الإعلام في الأمن القومي إلا من خلال النظر في الحوكمة وتقليل التهديدات والاستعداد الوطني والشعبي والمؤسسي الكامل. الامر الذي سيسمح لنا بفهم أفضل لكيفية مساهمة وسائل الإعلام في جهود مكافحة الإرهاب والجرائم والتهديدات الخارجية وحماية المصالح العليا للدولة. وفي هذا السياق ، يجب ان يعي المكلف بمسؤولية رسمية اهمية موقعه واهمية كل ما قد يصدر عنه، كما و يجب على وسائل الإعلام أن تكون مرنة وشفافة ومهنية لأن ذلك سيعزز دورها الريادي والقيادي كمراقب فاعل ومؤثر. وفي ذات الوقت يحتاج صانعو السياسات والاستراتيجيون المعنيون ببناء الدولة والأمن إلى فهم أفضل لوسائل الإعلام وطرق التعاطي مع تكنولوجيا نقل المعلومات ومواقع التواصل الإجتماعي لان القدرة على تشكيل الإرادة الوطنية تتطلب نظرة ثاقبة وقدرة فكرية ، ولأن عدم فهم المرء للأهداف الوطنية يمكن أن يكون له تأثير ضار على امن البلد القومي ومصالحه العليا.