فهد الجبوري ||
إن استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تقوم بشكل أساسي على تحقيق المصالح الأمريكية باستخدام كافة الوسائل وبغض النظر عن مشروعية تلك الوسيلة أم لا ، وبدون الأخذ بنظر الاعتبار مصالح دول المنطقة ، وكما بينا فقد مثل الاحتلال الأمريكي للعراق نمطا جديدا لتعامل الولايات المتحدة مع دول المنطقة من خلال فرض الهيمنة والسيطرة بما يؤمن لها مصالحها الاستراتيجية .
وهذه الاستراتيجية ( مشروع القرن الأمريكي الجديد ) تعتمد على دعامتين أساسيتين هما :
• الاحتلال والغزو العسكري ، واستخدام القوة المفرطة ، وهذا الذي حصل في العراق وأفغانستان .
• الغزو الثقافي أو ما يطلق عليه بالحرب الناعمة Soft Power ، وهذه هي النظرية التي يتبناها المحافظون الجدد ، ويسعون لتطبيقها في الشرق الأوسط عموما ، وفي العراق على وجه الخصوص لاعتبارات واضحة من أهمها تاريخ العراق وموقعه الاستراتيجي ، وإرثه الحضاري العريق ، وثرواته الطبيعية الهائلة ، وعتباته المقدسة ، ومرجعياته الدينية العليا التي تحضى بالاحترام والتقدير ، والتي كانت عبر المراحل الزمنية الماضية ومازالت هي السد المنيع أمام محاولات العدو لاختراق المجتمع العراقي ، وتخريب قيمه وتحطيم معنوياته .
لقد أدرك المحتل هذه الميزات التي يتمتع بها العراق ، لذلك الى جانب استخدامه للقوة الصلبة ، فإنه يريد ومن خلال القوة الناعمة نشر كل مظاهر الفساد الأخلاقي في المجتمع لاسيما بين صفوف الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان العراق .
ومنذ الايام الأولى للغزو ، كان هناك استهداف واختراق لمنظومة القيم والأخلاق في العراق ، وأصبح يركز على كيفية تدمير الإنسان العراقي ذاته من خلال قتل كل قيمه وتقاليده ، وزعزعة ثقة العراقي بمجتمعه ، ومواطنته ، وسلخه عن دولته .
وخلال سنوات الاحتلال ، تعرضت المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع العراقي الى هزات خطيرة ، بعضها كنتيجة للآثار الكارثية التي عصفت بالمجتمع العراقي جراء الغزو ، ومنها مئات الآلاف من الضحايا ، ومثلها أو أكثر من الإصابات ، والتهجير القسري للملايين ، وهذا قد ترك ملايين من الأرامل والأطفال اليتامى الذين فقدو المعيل ، وأصبحوا يفتقدون لأبسط مقومات الحياة ، وبسبب ذلك ازدادت جرائم القتل والسرقة ، وأصبحت ظاهرة المتسولين في الساحات العامة وفي الشوارع أمرا مألوفا وطبيعيا بعد أن كان العراق الى حد ما خلوا من هذه الظواهر المأساوية .
وقد عزز المحتل ذلك بجهود إضافية على شكل حملات دعائية وإعلامية وجيوش إلكترونية هدفها زعزعة المواطن العراقي ، وتحطيم نفسيته ومعنوياته ، وإشغاله بالأمور التافهه ، وأبعاده عن دينه ومعتقداته وقيمه وتقاليده العريقة .
كما إن المحتل بذل جهودا استثنائية في تشجيع الفساد الأخلاقي ، وتشجيع تعاطي المخدرات بين الشباب ، والدعارة ، بالإضافة الى تشجيع الفساد في دوائر ومؤسسات الدولة ومن ذلك الرشاوى ، في مسعى منه لابقاء البلاد متخلفة وغارقة في الفوضى ، وقطع الطريق أمام أية محاولة جادة لتصحيح الأوضاع ، وانقاذ البلاد من حالة التردي التي تعيشها منذ بداية الاحتلال في العام ٢٠٠٣ .
* خلاصة وتوصيات
الاحتلال الأمريكي للعراق في العام ٢٠٠٣ بكل ملابساته ونتائجه شكل كارثة إنسانية كبرى للشعب العراقي ، وتعد الانتهاكات الخطيرة والجرائم الفظيعة التي ارتكبتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتهاكا سافرا لميثاق الأمم المتحدة ، وكل المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، وبالخصوص للمادة ٨ من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تتعلق بجرائم الحرب ، الأمر الذي يستوجب محاكمة المحتل وقواته التي قامت باحتلال بلد بالقوة ، وإلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها دون ان تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عبثية .
وقد فصلت المادة ٨ من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المعتمد في روما في ١٧ تموز /يوليو ١٩٩٨ جرائم الحرب التي ترتكب جراء غزو او احتلال متعمد لبلد ما ، ومنها هذه الفقرة " تعمد شن هجوم مع العلم بأن هذا الهجوم سيسفر عن خسائر تبعية في الأرواح أو عن إصابات بين المدنيين أو عن إلحاق أضرار مادية أو احداث ضرر واسع النطاق وطويل الأجل للبيئة الطبيعية يكون إفراطه واضحا بالقياس الى مجمل المكاسب العسكرية المتوقعة الملموسة المباشرة " .
إن هذا التوصيف في المادة ٨ ينطبق كليا على الاحتلال الأمريكي -البريطاني للعراق في عام ٢٠٠٣ ، وماقام به على نحو متعمد من إلحاق أضرار مادية واسعة النطاق ، وخسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين .
وقد تبين لنا أن مبررات الغزو كانت باطلة وغير شرعية ومخالفة للقانون الدولي .
وقد خلص تقرير لجنة تشيلكوت او ما يطلق عليه The Iraq Inquiry, وهي اللجنة الرسمية المكلفة بالتحقيق في قضية مشاركة المملكة المتحدة في غزو العراق ، الى أن بريطانيا اعتمدت على معلومات استخباراتية مغلوطة ، ولم تستنفذ الخيارات السلمية قبل غزو العراق - وأن المعلومات التي وفرتها الاستخبارات لم تقدم أدلة جازمة على أن النظام العراقي استمر في انتاج أسلحة كيميائية أو بايولوجية ، وبالتالي فالقرارات التي اتخذت بشأن بلاد الرافدين بنيت على معلومات مغلوطة وغير دقيقة .
وهذا التقرير البريطاني الرسمي تحدث كذلك عن تجاوز الإدارة البريطانية ما تنص عليه الأمم المتحدة في موضوع المحافظة على الأمن والسلم الدوليين ، رغم ادعائها انها تتحرك نيابة عن المجتمع الدولي ، وقال أن المحامي العام وقتها اللورد نولد سميث لم يتحدث عن وجود أي أساس شرعي للحرب ضد العراق ، وفي هذا الإطار اعتبر تشيلكوت ان الحكومة البريطانية " ساهمت في تقويض مجلس الأمن الدولي عبر المشاركة في تدخل عسكري غير مدعوم منه ".
وكانت حملة توني بلير للتحضير للحرب قد قوبلت برفض شعبي بريطاني واسع ، وخرجت مسيرة في ١٥ شباط / فبراير ٢٠٠٣ لمعارضة الحرب ، واعتبرت احدى أكبر المظاهرات السلمية في التاريخ .
أما في الولايات المتحدة ، وبعد مرور قرابة ٤ أعوام على الاحتلال الأمريكي للعراق ، فقد أصدرت مجموعة دراسة العراق The Iraq Study Group التي ترأسها وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر وعضو الكونغرس السابق لي هاملتون في أواخر عام ٢٠٠٦ تقريرا وجدت فيه أن الوضع في العراق " خطير ومتدهور " وآخذ في التفاقم .
وكان من أبرز التوصيات التي وردت في التقرير ، هي التوصية بضرورة تغيير المهمة الرئيسية للقوات الأمريكية من القتال الى التدريب والمساندة والدعم اللوجستي .
والتقرير كان بمثابة محاولة للهروب وعدم الاعتراف بالفشل والكارثة التي نجمت عن الغزو والاحتلال ، ولم يتردد الدكتور انتوني كوردسمان ، خبير الشؤون الاستراتيجية بمركز الدراسات الدولية في واشنطن في التعليق على التقرير بالقول " تمخض الجبل فولد فأراً "
وقال الدكتور كوردسمان " لقد أنشأت الولايات المتحدة ، كقوة احتلال ، نظاما انتخابيا في العراق ، أجبر العراقيين على أن يدلوا بأصواتهم كسنة وكشيعة وكأكراد ، وشتت شمل الأمة العراقية على أسس طائفية وعرقية"
أن خروج القوات الأمريكية هو مطلب شعبي وسيادي يجب القيام بتحقيقه على أتم وجه وبدون أي مماطلة وتسويف ، وعلى الجانب العراقي الحكومي والبرلماني أن ينفذ قرار مجلس النواب الذي اتخذه في شهر يناير / كانون الثاني عام ٢٠٢٠ ، والقاضي بانسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي العراقية ، وينبغي عدم السماح لبقاء أية قوات تحت أي مسمى ، كما ينبغي تسليم كل القواعد العسكرية الى الجانب العراقي .
إن يوم ٣١ ديسمبر / كانون الأول الذي تم تحديده لخروج القوات الأجنبية من العراق ، لابد أن يصبح يوما وطنيا يحتفى به من قبل شعبنا وقواتنا المسلحة والقوى الوطنية العراقية ، وهذا الأمر وإن كان مهما وضروريا ، الا أنه لا يعفي الجانب الأمريكي والقوى المتحالفة معه من مسؤولية ما جرى للعراق من دمار وخراب وفوضى طيلة سنوات الاحتلال ، وخسائر بشرية ومادية هائلة .
وعليه ، ولأجل ضمان حقوق العراق ، ومصالح شعبه ، ولأجل تعويض الخسائر التي تكبدها الشعب جراء الاحتلال غير الشرعي ، ينبغي ملاحقة القوى التي احتلت العراق وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا ، وتقديم لوائح قانونية لمحاكمة من تسبب بالدمار الهائل الذي حل بالعراق وشعبه ، والذي يترتب عليه دفع التعويضات للعراق ولجميع العراقيين الذين تضرروا بسبب الغزو والاحتلال .
المصادر
١-محمد حسنين هيكل : الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق
٢-روبرت درابر : لبدء الحرب : كيف أدخلت ادارة بوش امريكا الى العراق
٣- شبكة CBS الإخبارية الأمريكية
٤- جيف سيمونز : عراق المستقبل : السياسية الأمريكية في إعادة تشكيل الشرق الأوسط
٥-أكاديمية Dominque Reynie
٦- بيتر غالبريث : نهاية العراق : كيف أوجدت عدم الكفاءة الأمريكية حربا بلا نهاية
٧- مذكرات بول بريمر : عامي في العراق
٨- صحيفة التايمز اللندنية
٩- هيئة الإذاعة البريطانية BBC
١٠- بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق ( يونامي )
١١- مجلة لانست الطبية
١٢- الكاتب سيمور هيرش / جريدة نيويوركر
١٣- موقع Global Research الكندي
١٤-منظمة هيومن رايتس ووتش
١٥- ادوارد سنودن / موظف سابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي
١٦- السناتور الأمريكي راند بول / ولاية كنتاكي
١٧- الكاتب كريكاري تشينكو / Global Research
١٨- الكسي فيينيكو / كبير الباحثين في معهد قضايا الأمن الوطني / أكاديمية العلوم الروسية
١٩- وزارة التخطيط العراقية
٢٠- مجموعة البنك الدولي
٢١- لجنة تشيلكوت البريطانية
٢٢- لجنة بيكر/ هاملتون الأمريكية