دراسات

العلمانية قاعدة الاحتلال الاستعماري الغربي المستدام/ 6

2732 2022-04-26

علي المؤمن ||

 

   لم تكتف جيوش الاستعمار العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي، على الشعوب المحتلة، كما مر في الأقسام السابقة، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية، فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده  ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.

   وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.

  ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بانجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعيمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.

   هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الإستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.

   وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين، دون أن يسأل أحدهم: ما هو الدين الذي يقصده الغرب؟ هل هو الدين الروحي الأخلاقي المسيحي، أم الدين الإسلامي المتكامل في عقيدته وشريعته؟ وهل يمكن نقل مناخات قرون من الصراع العلماني الأوروبي مع المسيحية القسطنطينية، الى بيئات المسلمين؟!

   والحقيقة؛ إن الخصوصية المحلية التراكمية للبيئة الأوروبية ودينها المسيحي التلفيقي؛ تجعلان من غير الممكن نقل تجربة الانقلاب على المسيحية الأوروبية السلطوية الحاكمة، الى بيئات أخرى، ومنها بلاد العرب والمسلمين؛ فلا البيئة الأوروبية وصيرورتها التراكمية الإجتماعية والتاريخية تشبه بيئات المسلمين ومسارات تكوينها، ولا المسيحية الروحية الأوروبية تشبه الدين الإسلامي وعقيدته وتشريعاته المتكاملة، بل إن الإسلام يختلف جذرياً حتى عن الديانة المسيحية الروحية الأخلاقية الأصلية نفسها، وليس المسيحية الأوروبية وحسب،  لأن دين السيد المسيح يخلو من التفصيل العقدي ومن التشريع، وهو ما ينسجم مع الواقع الذي ظهرت في إطاره رسالة السيد المسيح، بل هو الأمر الذي اضطر المبشر "بولس" الى التأسيس للعقيدة المسيحية بالتدريج، وكتابة أغلب الانجيل بعد عقود على عروج السيد المسيح، كما اضطر الكهنوت المسيحي الى التحالف مع الإمبراطور الروماني الوثني قسطنطين الأول، لحماية المسيحيين ونشر المسيحية، مقابل إعلانه قديساً وإمبراطوراً للمسيحيين وللعالم، ومبشراً بالمسيحية بالسيف والقهر.

   ولذلك؛ ليس مستغرباً أن تشكل النخب المسيحية الشرقية أغلبية رواد الانقلاب العلماني على الدين في بلاد المسلمين، بالنظر لقرابتها الروحية الدينية مع أوروبا المسيحية، ولأنها تتماهي لزاماً مع النخب الأوروبية الثائرة ضد النظم الثيواقراطية والاستبداد الكنسي، والتي باتت تمسك بزمام السلطات الاستعمارية والجيوش المحتلة لبلاد المسلمين، وباتت تشكل دعماً دينياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً مباشراً لمسيحيي الشرق خاصة. وربما كانت هذه النخب تشبِّه معاناتها من الثيوقراطيات المسلمة وعموم مناخاتها الاجتماعية، وخاصة الدولة العثمانية، بمعاناة أبناء دينها المتحررين من الثيوقراطيات المسيحية والاستبداد الكنيسي.

    ولعل أهم ستة مفكرين عرب قادوا حملة الترويج للفكر العلماني والمذهب الليبرالي في المجتمعات العربية، هم: أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وفرح انطوان، وهؤلاء نصفهم مسيحيين، وهو عدد كبير قياساً بنسبة المسيحيين العرب الى عدد سكان البلاد العربية المسلمین، ما یعني أن أغلبية نخب مسيحيي الشرق تمثل أنموذجاً للتبعية الروحية والفكرية والسياسية للمد العلماني الأوروبي السلطوي. وفي الوقت نفسه، لم تكن النخب المسلمة بمنآى عن هذه التبعية، كما ذكرنا، لكن الثأثيرات العاطفية للقرابة الدينية والشعور بالاستقواء الديني لدى النخب المسيحية، ظل يلعب دوراً مهماً في هذا المجال.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
ابراهيم الجليحاوي : لعن الله ارهابي داعش وكل من ساندهم ووقف معهم رحم الله شهدائنا الابرار ...
الموضوع :
مشعان الجبوري يكشف عن اسماء مرتكبي مجزرة قاعدة سبايكر بينهم ابن سبعاوي
مصطفى الهادي : كان يا ماكان في قديم العصر والزمان ، وسالف الدهر والأوان، عندما نخرج لزيارة الإمام الحسين عليه ...
الموضوع :
النائب مصطفى سند يكشف عن التعاقد مع شركة امريكية ادعت انها تعمل في مجال النفط والغاز واتضح تعمل في مجال التسليح ولها تعاون مع اسرائيل
ابو صادق : واخیرا طلع راس الجامعه العربيه امبارك للجميع اذا بقت على الجامعه العربيه هواى راح تتحرر غلسطين ...
الموضوع :
أول تعليق للجامعة العربية على قرار وقف إطلاق النار في غزة
ابو صادق : سلام عليكم بلله عليكم خبروني عن منظمة الجامعه العربيه أهي غافله ام نائمه ام ميته لم نكن ...
الموضوع :
استشهاد 3 صحفيين بقصف إسرائيلى على غزة ليرتفع العدد الى 136 صحفيا منذ بدء الحرب
ابو حسنين : في الدول المتقدمه الغربيه الاباحيه والحريه الجنسيه معروفه للجميع لاكن هنالك قانون شديد بحق المتحرش والمعتدي الجنسي ...
الموضوع :
وزير التعليم يعزل عميد كلية الحاسوب جامعة البصرة من الوظيفة
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
فيسبوك