د.مسعود ناجي إدريس ||
سؤال: لماذا قال الله تعالى في القران: اهدي من اشاء ،هل هذا يعني ان هناك تفرقة و تمييز بين العباد؟
جواب: إن المراد من الهداية الإلهية هي الهداية التشريعية التي تأتي عن طريق الوحي والكتب السماوية وإرسال الأنبياء والأوصياء، إضافة إلى إدراك العقل والشعور، أما انتهاج السبيل فهو في عهدة الإنسان في كافة مراحل حياته. وبالطبع فإن هذا التفسير يتطابق مع الكثير من الآيات القرآنية التي تتناول موضوع الهداية، ولكن هناك آيات كثيرة أخرى لا يمكن تطابقها مع هذا التفسير، لأن فيها نوعا من الصراحة فيما يخص (الهداية التكوينية) و (الإيصال إلى الهدف) كما ورد في سورة القصص: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. في حين أننا نعرف أن الهداية التشريعية والتوجيه نحو الطريق الصحيح، هي الواجب الرئيسي للأنبياء.
مجموعة أخرى من المفسرين فسروا الهداية والضلال اللذين لهما هنا طابع تكويني على أنهما الثواب والعقاب، والإرشاد إلى طريق الجنة والنار، وقالوا بأن البارئ عز وجل يهدي المؤمنين إلى طريق الجنة، ويضل عنها الكافرين. إن هذا المعنى صحيح بالنسبة لعدة آيات فقط، ولكنه لا يتطابق مع آيات أخرى تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة.
مجموعة ثالثة قالت: إن المراد من الهداية هو تهيئة الأسباب والمقدمات التي توصل إلى الغرض المطلوب، والمراد من الضلالة هو عدم توفير تلك الأسباب والمقدمات أو حجبها عنهم، والتي عبر عنها البعض ب (التوفيق) و (سلب التوفيق) لأن التوفيق يعني تهيئة المقدمات للوصول إلى الهدف، وسلب التوفيق يعني عدم تهيئة تلك المقدمات. ووفقا لهذا فإن الهداية الإلهية لا تعني أن البارئ عز وجل يجبر الإنسان على الوصول إلى الهدف، وإنما يضع الوسائل المطلوبة للوصول تحت تصرفهم واختيارهم، وعلى سبيل المثال، وجود مرب جيد، بيئة سالمة للتربية، أصدقاء وجلساء صالحين، وأمثالها، كلها من المقدمات، ورغم وجود هذه الأمور فإنه لا يجبر الإنسان على سلوك سبيل الهداية.وثمة سؤال يبقى مطروحا، وهو: لماذا يشمل التوفيق مجموعة دون أخرى؟المنحازون لهذا التفسير عليهم أن ينتبهوا إلى حكمة أفعال البارئ عز وجل ويعطوا دلائل لهذا الاختلاف، فمثلا يقولون: إن عمل الخير هو سبب التوفيق الإلهي، وتنفيذ الأعمال الشريرة تسلب التوفيق من الإنسان. وعلى أية حال فإن هذا التفسير جيد ولكن الموضوع ما زال أعمق من هذا. إن أدق تفسير يتناسب مع كل آيات الهداية والضلال، ويفسرها جميعا بصورة جيدة من دون أن يتعارض أدنى تعارض مع المعنى الظاهري، وهو أن الهداية التشريعية التي تعني (إراءة الطريق) لها خاصية عامة وشاملة، ولا توجد فيها أي قيود وشروط، كما ورد في سورة الدهر: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وفي آل عمران: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ومن البديهي أن دعوة الأنبياء هي مظهر دعوة الله تعالى. لأن كل ما عند النبي هو من الله. وبالنسبة إلى مجموعة من المنحرفين والمشركين ورد في سورة النجم: ولقد جاءهم من ربهم الهدى. أما الهداية التكوينية فتعني الإيصال إلى الغرض المطلوب، والأخذ بيد الإنسان في كل منعطفات الطريق، وحفظه وحمايته من كل الأخطار التي قد تواجهه في تلك المنعطفات حتى إيصاله إلى ساحل النجاة، وهي أي الهداية التكوينية - موضع بحث الكثير من آيات القرآن الأخرى التي لا يمكن تقييدها بأية شروط، فالهداية هذه تخص مجموعة ذكرت أوصافهم في القرآن، أما الضلال الذي هو النقطة المقابلة للهداية فإنه يخص مجموعة أخرى ذكرت أوصافهم أيضا في القرآن الكريم.ورغم وجود بعض الآيات التي تتحدث عن الهداية والإضلال بصورة مطلقة، إلا أن هناك الكثير من الآيات الأخرى التي تبين - بدقة - محدوديتهما، وعندما تضع الآيات (المطلقة) إلى جانب (المحدودة) يتضح المعنى بصورة كاملة، ولا يبقى أي غموض أو إبهام في معنى الآيات، كما أنها - أي الآيات - تؤكد بشدة على مسألة الاختيار وحرية الإرادة عند الإنسان ولا تتعارض معهما.الآن يجب الانتباه إلى التوضيح التالي:القرآن المجيد يقول في إحدى آياته: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وفي مكان آخر يقول البارئ عز وجل: والله لا يهدي القوم الظالمين وهذا يبين أن الظلم مقدمة للظلال. ومن هنا يتضح أن الفسق، أي عدم إطاعة أوامر البارئ تعالى وهو مصدر الضلال.وفي موضع آخر نقرأ: والله لا يهدي القوم الكافرين ، وهنا اعتبر الكفر هو الذي يهئ أرضية الضلال.وقد ورد في آية أخرى: إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار . يعني أن الكذب والكفر هما مقدمة الضلال. والآية التالية تقول: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب أي أن الإسراف والكذب يسببان الضلالة.
وبالطبع، فإن ما أوردناه كان جزءا يسيرا من آيات القرآن التي تتناول هذا الموضوع، فبعض الآيات وردت مرات عديدة في سور القرآن المختلفة وهي تحمل المعاني والمفاهيم.إن ما يمكن استنتاجه هو أن القرآن الكريم يؤكد على أن الضلالة الإلهية تشمل كل من توفرت فيه هذه الصفات (الكفر) و (الظلم) و (الفسق) و (الكذب). (الإسراف) فهل أن الضلالة غير لائقة بمن تتوفر فيه مثل هذه الصفات!
وبعبارة أخرى: هل ينجو قلب من يتصف بتلك الصفات القبيحة، من الغرق في الظلمات والحجب؟!
وبعبارة أخرى أوضح: أن لهذه الأعمال والصفات آثارا تلاحق الإنسان شاء أم أبى، إذ ترمي بستائرها على عينيه وأذنيه وعقله، وتؤدي به إلى الضلال، ولكون خصوصيات كل الأشياء وتأثيرات كل الأسباب إنما هي بأمر من الله، ومن الممكن أيضا أن ينسب الإضلال إليه سبحانه وتعالى في جميع هذه الموارد، وهذه النسبة هي أساس اختيار الإنسان وحرية إرادته.هذا فيما يتعلق بالضلالة، أما فيما يخص الهداية، فقد وردت في القرآن المجيد شروط وأوصاف تبين أن الهداية لا تقع من دون سبب وخلاف الحكمة الإلهية. وقد استعرضت الآيات التالية بعض الصفات التي تجعل الإنسان مستحقا للهداية ومحاطا باللطف الإلهي، منها: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل الاسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم . إذن فإتباع أمر الله، وكسب مرضاته يهيئان الأرضية للهداية الإلهية.وفي مكان آخر نقرأ: إن الله يضل من يشاء ويهدي الله من أناب إذن فالتوبة والإنابة تجعلان الإنسان مستحقا للهداية.وفي آية أخرى ورد: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فالجهاد، وخاصة (الجهاد الخالص في سبيل الله) هو من الشروط الرئيسية للهداية. وأخيرا نقرأ في آية أخرى: والذين اهتدوا زادهم هدى أي أن قطع مقدار من طريق الهداية هو شرط للاستمرار فيه بلطف البارئ عز وجل. نستنتج من ذلك أنه لو لم تكن هناك توبة وإنابة من العبد، ولا اتباع لأوامر الله، ولا جهاد في سبيله ولا بذل الجهد وقطع مقدار من طريق الحق، فإن اللطف الإلهي لا يشمل ذلك العبد، وسوف لا يمسك البارئ بيده لإيصاله إلى الغرض المطلوب. فهل أن شمول هؤلاء الذين يتحلون بهذه الصفات بالهداية هو أمر عبث، أو أنه دليل على هدايتهم بالإجبار؟
من الملاحظ أن آيات القرآن الكريم في هذا المجال واضحة جدا ومعناها ظاهر، ولكن الذين عجزوا عن الخروج بنتيجة صحيحة من آيات الهداية والضلال ابتلوا بمثل هذا الابتلاء و (لأنهم لم يشاهدوا الحقيقة فقد ساروا في ظيق الخيال).إذن يجب القول بأنهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سبيل (الضلال).
على أية حال، فإن المشيئة الإلهية في آيات الهداية والضلال لم تأت عبثا ومن دون أي حكمة، وإنما تتم بشرائط خاصة، بحيث تبين تطابق حكمة البارئ عز وجل مع ذلك الأمر...
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha