الدكتور عبد القهار المجمعي ||
لا يخفى على أحد أهمية الاتصال ودوره في حياتنا المعاصرة، ولقد أدركا لإنسان منذ قدم العصور وربما من اللحظات الأولى لبداية الحياة الإنسانية أهمية الاتصال بالنسبة له كفرد يرغب في التعبير عن نفسه أو تبادل الأفكار مع الآخرين فكان ذلك حافزا قويا لتطور الاتصال وأساليب استخدامه، وبعد أن طور اللغة كنظام من الرموز يمثل الأشياء والأفكار ويعبر عنها، تصدى للتدوين فأخترع الكتابة، التي أتاحت له فرصة الاحتفاظ بالمعلومات، وقد سجل الإنسان في البداية المعلومات على الحجر و الآجر, ثم استخدم أوراق البريدي، والجلود، وأخيراً الورق لغرض الكتابة .
وتعتبر الانترنت من أهم وسائل تكنولوجيا الاتصال الحديثة التي فتحت فرصا جديدة إلى حد كبير أمامالأفراد للتفاعل وتبادل الآراء ومناقشة مختلف المواضيع الاجتماعية من خلال بناء علاقات اجتماعية افتراضية مافتح المجال واسعا لتجسيد مفهوم القرية الكونية الذي أشار إليه مارشال ماكلوهان حيث تغلغل الاتصال الوسيط عبر مواقع الشبكات الاجتماعية في كل منحى من مناحي الحياة كبديل عن الاتصال وجها لوجه، ليتحول الشخص إلى فرد افتراضي يتفاعل ضمن مجتمع افتراضي يعتمد على التقاء مجموعة كبيرة من المستخدمين من ذوي الاهتمامات المشتركة في مواقع الانترنت والتعبير عن آرائهم وميولهم وطموحاتهم بحرية دون قيود قد تواجههم في الواقع الفعلي
ويعد الاتصال عملية أساسية تقوم عليها الحياة الاجتماعية حيث تنشأ من خلالها روابط اجتماعية، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن لا نجد عملية اتصال في مجتمع ما مهما كان حجم وعدد أفراده، فالأسرة التي تعتبر مجتمع صغير، فإن طبيعة العلاقات ونمط الحياة فيها مبني على الاتصال، فبدونه لن تنجح أي علاقة بين فرد وآخر أو أي مجتمع.
الاتصال هو الآلية التي توجد فيها العلاقات الإنسانية وتنمو عن طريق استعمال الرموز ووسائل نقلها وحفظها
كما يعرف التواصل بمفهومه الشامل بأنه نقل الأفكار والمشاعر بين الأطراف، وقد وجد هذا النشاط منذ بدء الحياة الاجتماعية حيث استوجبت وجود رموز سواء كانت حركات أو إشارات أو غيرها للتعبير عن النفس ونقل الشعور والفكر إلى الآخر، وقد تباينت طرق اتصال الإنسان وتطورت عبر الزمن نتيجة عدة عوامل منها التطورات التكنولوجية والاجتماعية والعلمية و النفسية والفنية حيث تضافرت مجمل هذه العوامل في تطور الاتصال، وفى وسائل نقل الأفكار والمشاعر حيث أصبح الاتصال نشاط يشغل جزءا واسعا بين البشر في الوقت الحالي بحيث برز كعلم من العلوم الاجتماعية.
العزلة الاجتماعية هي مدى ما يشعر به الفرد من وحدة وانعزال عن الآخرين وابتعاده عنهم وتجنبه لهم وانخفاض معدل تواصله واضطراب علاقته بهم، وقلة عدد معارفه وعدم وجود أصدقاء حميمين له فانعدام الاتصال يخلق نوع من العزلة والاغتراب الذي يؤدي إلى ضياع الفرد في محيطه الاجتماعي.
والاتصال هو عملية أساسية للنشاط الاجتماعي والتربوي ولازمة لوجود أي مجتمع لتماسكه وتقدمه لأنه بدون الاتصال بين أفراد المجتمع يصبحون حشدا لا رابطة اجتماعية بينهم، فالاتصال هو شريان الحياة الاجتماعية، وإذا توقف بينأفراد المجتمع تفكك وتناثر .
لقد تطور الاتصال وأنوعه وطرقه مع تطور المجتمعات الإنسانية، واختلفت وسائله نتيجة لهذا التطور والتقدم، ويبقى الفرد وعلاقته بجماعته والمجتمع تتوقف على الاتصال والكيفية التي يتم بها ذلك الاتصال، الذي يحدد مدى انعزال الفرد واندماجه داخل مجتمعه، بعبارة أخرى من خلال العملية الاتصالية إّذ يمكن أن نفهم مدى ارتباط الفرد بالمجتمع والعلاقة التي تجمعه بمجتمعه.
كما يعرف المجتمع بأنه نسق من العلاقات المتداخلة التي يرتبط بها الأفراد بعضهم ببعض أي بعبارة أخرى إنه نسيج من العلاقات الاجتماعية أو هو النمط المتغير للعلاقات الاجتماعية بمعنى أنه لا يثبت على حال، فلايوجد مجتمع ثابت على حالة واحدة، ذلك أن صفة التغيير ملازمة لأي مجتمع، وتتسم العلاقات الاجتماعية بالتنوع، كما يتسم المجتمع بالتعقيد.
ويرد معنى المجتمع في قاموس محيط المحيط كهيئة اجتماعية، بمعنى أنه المكان الذي يعيش فيه الأفراد ويتواصلون ويتفاعلون مع بعضهم البعض، ولهم مصالح متعددة يشتركون فيها ويكتسي الاجتماع صور شتى,كاجتماع المكونات مع بعضها البعض، وهو المعنى السائد، الماثل في الذهن عند إطلاق لفظ الاجتماع، وهناك اجتماع فكرى على فكرة واحدة أو قول واحد، وهناك اجتماع مكاني للأفراد أو الأشياء، وهناك صورة حديثة من الاجتماع وهى الاجتماع الافتراضي التقني عبر قنوات التواصل المختلفة رغم تباعد الأجسام أو اختلاف الأفكار.
وقد تطور هذا التغيير وزاد من تنوعه مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي،حيث ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في دفع العلاقات بين أفراد المجتمع من الواقع المعاش إلى الواقع الافتراضيمع تشكيل جماعات افتراضية وبناء علاقات اجتماعية داخل نظام اجتماعي إلكتروني.
وقد أنعم الله علينا في العصر الحاضر بوسائل التواصل الحديثة التي سهلت لنا نقل المعلومات والتواصل بين الناس،فقربت البعيد وقصرت المسافات، فأصبحت بذلك من لوازم الحياة، يتقنها الكبير والصغير والغني والفقير حتى باتت للإنسان جليسا وأنيسا بلا منازع، وثمة مصطلحات نسمعهاَّ تتردد على ألسنة الجميع في كل لحظة َ، فلم يعد هناك زمان أو مكان محدد لاستخدام هذه الوسائل الحديثة.
وتعرف مواقع تواصل الاجتماعي بأنها عبارة عن عدة شبكات إلكترونية يتم من خلالها التواصل فيما بين الأفراد سواء داخل الدولة أم على المستوى العالمي تجمع بين العديد من الشباب الذين تتلاقى اهتماماتهم نحو موضوع معين أوهواية معينة يمارسونها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي حيث يتم التواصل فيما بينهم بشأنها،عن طريق مواقع التوصل الاجتماعي.
ومن هنا أصبح تعريف التواصل الاجتماعي هو ذلك التواصل الذي يحتاج البشر فيه إلى التواصل فيما بينهم لمعرفة أخبار بعضهم البعض والاطمئنانعلى احوالهم لما لذلك من أهمية في زيادة الروابط بين أفراد المجتمع الواحد وتحقيق التكافل والانتماءالاجتماعي بينهم، ويكون ذلك بين الأفراد بشكل مباشر للأشخاص القريبين من بعضهم، وغير مباشر للأفراد الذين يقطنون في أماكن بعيدة.
ونتيجة لهذه الميزات التي أفضت عنها هذه الشبكات من حيث السهولة في التواصل بين الأفراد مع قلة التكلفة، وفتح آفاق للمستخدمين من حيث الزيادة في المعلومات حول القضايا اليومية التي نعيشها،ومشاركةأراءهم حولها مع الحرية في التعبير، أصبحت ملجأ للكثيرين للترفيه والتنوير عن أفكارهم،
إلا أنه في الوقت نفسه قد تكون وسيطا سلبيا يعمل على اغتراب الإنسان عن ذاته ومجتمعه .
ولذلك نجد كثيرا من الآراء المختلفة والمتضاربة حول آثار هذه الشبكات وما خلفته من تغير في عالمنا من حيث بناء علاقاتنا الاجتماعية وتواصلنا مع بعضنا، إلا أنها لم تجعلنا نعيش في ذلك العالم المثالي، الذي كان السبب في جعل غالبيتنا يسعى إليها من أجل تشكيله هناك عسى أن يجد فيها ضالته
و من سماتها وتوابعها أنها تنتهي إلى عزلة، على ما تعد به من انفتاح على العالم وتواصل مع الآخرين،هذه المفارقة يلخصها عنوان كتاب (لشيري تيركل) نحن معا، لكننا وحيدان/ وحيدون: لماذا أصبحنا ننتظر من التكنولوجيا أكثر مما ينتظر بعضنا من بعض؟ فقد أغنت الرسائل النصية القصيرة، وما يكتبون ويتبادلون على الفيسبوك والبلاك بيري عن الزيارات، من هنا لم تعد صورة الأسرة التي تعيش في بيت واحد بينما ينهمك كل فرد من أفرادها في عالمه الافتراضي الخاص لم تعد مجرد رسم كاريكاتيري، بل حقيقة مقلقة تحتاج مزيدا من الانتباه والاهتمام.
وهناك من الباحثين الاجتماعيين والأطباء في مجال علم النفس والطب أيضا، حيث استنتجوا من خلالها أن هناك العديد من التأثيرات السلبية التي تنتج من الإدمان عليها لاسيما تلك العوارض النفسية وهي الانعزال في غرفة واحدة أمام الشاشة.
فمع هذا التزايد المستمر لاستخدام الشبكات الاجتماعية على الانترنت أصبح الافراد يميلون إلى قضاء وقتهم في عالم يوازي عالمهم الفيزيائي، الأمرالذي دفعهم إلى الانقطاع عن العديد من النشاطات الاجتماعية والتقليل من العلاقات الاجتماعية التقليدية والاستئناس أكثر بالعلاقات الافتراضية. حيث ظهرت علاقات اجتماعية غير صحيحة بنيت على الكذب والمبالغة غير الحقيقية بين المتحدثين عبر شبكات التواصل.
وأصبح كل فرد من أفراد الأسرة يصنع لنفسه عالماً آخراً،وهو عالم افتراضي، يوجد لنفسه أصدقاء افتراضيين من كل أرجاء العالم، ويسعى الواحد منهم إلى إيجاد ضالته في التواصل مع غيره في مواقع التواصل الاجتماعي، فيجلس لأوقات غير محدودة أمامأجهزة التواصل، ويستفيدون من تكنولوجيا التواصل والمعلومات، وفي المقابل فإن هذه الساعات تعني العزلة الاجتماعية عن الأسرة، وتعني الخمول الجسماني، وتعني الضغط والتوتر النفسي، وتعني الرغبة والميل للوحدة والعزلة مما يقلل من فرص التفاعل والنمو الاجتماعي والانفعالي الصحي، فضلا عن التأثيرات السلبية عليهم نتيجة الدخول إلى المواقع غير البريئة و اللاأخلاقية.
أن وسائل التواصل الاجتماعي، قربتْ البعيد وبعدت القريب، وفرضت عزلة على الأسرة وهي تحت سقف واحد، وكثير من الدعاة والموجهين وأصحاب الدراسات النفسية تحملها العبء الأكبر في ظاهرة الجفاء الأسري وفقر المشاعر والاستغلال العاطفي، والخيانات الزوجية ، والانحطاط الأخلاقي في الردود والمناقشات بين المراهقين، وانتزاع سلطة توجيه الأسرة من الوالدين أو المشاركة والمزاحمة في توجيههم وتربيتهم، وكثرة الزخم والغثاء في المواد يقابلها ضعف الاختيار وصعوبة التمييز عند أفراد الأسرة والمراهقين والشباب قد يفاقم المشكلة.
غير أن بعض المنظرين وأنصار التكنولوجيا مثل أصحاب النظرية الحتمية التكنولوجية يروا أن التكنولوجيا في حد ذاتها تتمتع بقوة التغيير في طبيعة العلاقات الاجتماعية والواقع الاجتماعي، ويرى مستخدمي هذه النظرية الحتمية التكنولوجية والمتفائلين بها أنها تمتلك مقاليد التقدم للبشريةوتضعها ذريعة لفشلها في التواصل الحقيقي على أرض الواقع الذي لم تستطع البشرية تحقيقه وتعده نوعاً من الانتصار للتكنولوجيا.
كماأن الدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في تطوير التعليم الالكتروني بالإضافةإلى الجانب الاجتماعي له،حيث يمكن المشاركة من كل الأطراف في منظومة التعليم بداية من مدير المدرسة مرورا بالمعلم ووصولا إلى أولياء الأمور وعدم اقتصارالتركيز على تقديم المقرر للطالب. فاستخدام الشبكات الاجتماعية يكسب الطالب مهارات أخرى كالتواصل والاتصال والمناقشة وإبداء الرأي، في ظل تكدس الطالب في الفصول وكثرة المواد،مع وجود الأنظمة والمساحات الضيقة للمناقشات والتداولات.
إذاً يمكن القول إن المفاهيم والمصطلحات تبقى غير ثابتة، تتغير استخداماتها بتغير الزمان ومع تطور المجتمعات، ولذلك يصبح من الصعب على المرء إدراك ومعرفة مدى دقتها وفهم معانيها، ولذلك أصبح المفهوم يحمل دلالته حسب الاستخدام وموضع الكلام وتغير الزمان.
إن شبكات التواصل الاجتماعي قد سهلت علينا طرق الاتصال وجعلتنا نتقلب على عناء مشقته، وذلك بتجاوزها حدود الزمان والمكان، وأصبحنا على معرفة بكل ما يجري في أي بقعة من العالم، كما زادت من حرية الرأي ومشاركة آرائنا وأفكارنا مع مجموعات مختلفة.
إلا أن الاستخدام العشوائي الغير منظم, هو دائما ما يؤدي إلى انعكاس آثار ذلك على حياتنا وتشويه طبيعة علاقاتنا الاجتماعية في العالم الواقعي, وذلك ببناء جدار من العزلة فيما بيننا و اغترابنا عن بعضنا, وبعد المسافات مع غياب مفهوم الحوار, بالإضافة إلى نقل جميع مشاعرنا وأحلامنا وتصوراتنا إلى ذلك المجتمع الافتراضي, ولذلك علينا العمل على التنظيم من أجل عدم السماح لتلك الشبكات بالسيطرة على حياتنا، لكي لا تتحكم فينا.
وخلاصة القول أن الهروب من هذه الشبكات هو أمر لا مفر منه، لأننا مجبرون لا محالة على التعايش مع هذا التطور والغوص في جميع تفاصيله مع الأخذ بالحيطة والحذر، فلكل شيء موجود في حياتنا جانبان متناقضان جيد وسيء، ولكن في الوقت ذاته نحن من نحدد أي هذه الجوانب أكثر أهمية بالنسبة لنا من حيث الاستخدام والتشبث، وانطلاقا من كل ذلك نحن مجبرون على مسايرة هذا التقدم والتماشي معه بغية العمل على التوازن بين هذين العالميين كي لا نكون في عزلة عن أي منهما.
ـــــــ
https://telegram.me/buratha