د. سيف الدين زمان الدراجي ||
*باحث في شؤون السياسة الخارجية والأمن الدولي*
في عالم متغير بسرعة، وفي ظل تطورات الوضع الامني الدولي والاقليمي ، يواجه الأمن القومي تحديات متزايدة تتجاوز الحدود الوطنية والتهديدات التقليدية. وتتزايد فيها الحاجة لوضع خطط وسياسات واستراتيجيات تضمن مواجهة فعالة لتلك التطورات بما يضمن تحليلا دقيقا ومفصلا لما قد تواجهه الدولة. ان مفهوم الأمن القومي يبين السعي الحثيث لمؤسسات الدولة للحفاظ على استقرارها واستمراريتها، وحماية مصالحها الوطنية وأمان مواطنيها. إلا أن مع تطور الزمن، باتت الفواعل غير الدولية تلعب دورًا أكبر وأكثر تعقيدًا في تشكيل تهديدات تؤثر على الأمن القومي للدول.
يمكن تعريف الامن القومي على أنه الحفاظ على استقرار الدولة وسيادتها من خلال حماية حدودها ومصالحها ومواطنيها. تشمل هذا الحماية من التهديدات المتعددة مثل الهجمات العسكرية، والإرهاب، والتجسس، والجريمة المنظمة، وتهديدات الأمن السيبراني، والتغير المناخي، والأمان الاقتصادي. فالأمن القومي يمثل مزيجًا معقدًا من الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
من جانب اخر فمن الضروري ان نبين المقصود بالفواعل غير الدولية والتي تشير إلى الجهات أو الكيانات التي لا تمثل دولة رسمية وليس لديها صفة دولية. إنها تشمل مجموعة متنوعة من الكيانات والجهات مثل الجماعات الإرهابية والمنظمات غير الحكومية والشركات الكبرى والجريمة المنظمة وحتى التحديات البيئية. تلك الفواعل تتأثر بالشؤون الدولية وتؤثر فيها بشكل كبير دون أن يكون لها حكم أو سيادة دولية. تتعامل هذه الفواعل بشكل عابر للحدود الوطنية وتعمل على تحديد سياستنا وأماننا بأشكال جديدة ومعقدة. من هنا، يأتي دور فهم تأثير هذه الفواعل غير الدولية على الأمن القومي كموضوع بحث حيوي وحاسم.
سنتناول في هذا المقال مدى تأثير الفواعل غير الدولية على الأمن القومي، لنطلع على كيفية تعامل الدول مع هذه التحديات المعاصرة واستراتيجيات مواجهتها. كما سنتناول أيضًا بعض الأمثلة البارزة لهذه الفواعل وتأثيرها على الأمن القومي للدول، سواء من خلال التهديدات المباشرة أو الآثار الجانبية.
تعد تهديدات الفواعل غير الدولية بانها مجموعة من العوامل والجهات والأنشطة التي تشكل تحديًا بل وتهديدا للأمن والاستقرار الوطني للدول. حيث تمتاز هذه التهديدات بأنها غالبًا ما تنشأ عن أنشطة تعتبر غير قانونية وتخالف الأنظمة والقوانين الوطنية والدولية. وتشمل هذه التهديدات نشاطات تتراوح من العنف والجريمة إلى التأثير على البيئة والاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، هذه التهديدات لا تتعاون مع الحكومات الوطنية أو لا تخضع للرقابة الحكومية، وهذا ما يجعلها تحديًا معقدًا يتطلب استجابة متعددة الأوجه وتعاون دولي لمكافحتها بفعالية. ويمكن تصنيف هذه التهديدات إلى أنماط رئيسية تشمل التهديدات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة و عصابات داعش ، والجريمة المنظمة مثل المافيات وكارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية، والهجمات السيبرانية مثل هجمات القرصنة السيبرانية التي تستهدف البنوك والأجهزة الحكومية، والتغير المناخي الذي يشكل تهديدًا عابرًا للحدود يؤثر على الأمن الغذائي والبيئي والموارد المائية.
عادة ما تنتهج الدول استراتيجيات التأمين الوطني التي تمثل خطوات الاستجابة الاولى لهذه التهديدات بمجموعة من الإجراءات والسياسات التي تتخذها لضمان الحفاظ على أمنها القومي واستقرارها وحماية مواطنيها بما في ذلك تعزيز الأمن السيبراني، وتعزيز القدرات الاستخباراتية، وتعزيز الأمان الحدودي، وتكثيف التعاون الدولي، وتحسين التأهب والاستجابة، وتعزيز الأمن السياسي والدبلوماسي، والاستثمار في القوات المسلحة، وتعزيز الأمان الاقتصادي، والتأهب والتدريب، وتعزيز التمويل والموارد. هذه الاستراتيجيات تعتمد على طبيعة وأولويات كل دولة وشكل التهديدات غير الدولية التي تواجهها، ويتم تنفيذها بشكل تكميلي ومتناغم لتحقيق أقصى مستوى من الأمن.
إن أحد أبرز التأثيرات للفواعل غير الدولية على الأمن القومي هو تزايد مظاهر التهديدات العابرة للحدود. فالهجمات الإرهابية تتجاوز الحدود الوطنية بسهولة، والجريمة المنظمة تتشابك مع الأسواق والمؤسسات العالمية، والهجمات السيبرانية تأتي من مصادر مجهولة تكون في أماكن متفرقة من العالم. هذا يفرض تحديًا كبيرًا على القدرة التقليدية للدول على حماية أمنها وسيادتها. علاوة على ذلك، يتسبب التفاعل الاقتصادي العالمي في تكامل الاقتصادات والمصالح الوطنية والدولية، وهذا يعني أن أي تهديد غير دولي يمكن أن يكون له تأثير اقتصادي على مستوى العالم وليس على المستوى الوطني فحسب. على سبيل المثال، يمكن لأزمات مالية عالمية أن تؤدي إلى تدهور الأمن القومي للدول. لا يمكن تجاهل أيضًا تأثير الفواعل غير الدولية على السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
فالدول تضطر في كثير من الأحيان للتعامل مع مجموعات أو كيانات غير حكومية في سياق القضايا الدولية. وقد تكون هذه التفاعلات تحالفات مؤقتة لمكافحة تهديد مشترك أو تفاوضًا لحل نزاع دولي او قد تضطر عبر دبلوماسيتها الحذرة او السرية الى عقد اتفاقات وتعاونات انية او دائمية وحسب ما تقتضيه المصلحة. كما حصل بين كولومبيا ومنظمة "فارك" وكذلك المكسيك وكارتلات المخدرات.
للتصدي لهذه التحديات، تحتاج الدول إلى تطوير استراتيجيات تأمين قوية ومنسقة. يجب أن تشمل هذه الاستراتيجيات التعاون الدولي الوثيق لمكافحة التهديدات المشتركة، وتحسين قدرات الاستخبارات والأمن السيبراني، وضمان الاستدامة البيئية والاقتصادية، وتطوير القوانين والتشريعات اللازمة، بالاضافة الى التوعية العامة وحث المواطنين على التبليغ عن اي توجهات او نشاطات مشبوهة قد تقوض الامن والاستقرار في الدولة. في الختام، يجب على الدول أن تكون مستعدة لمواجهة التهديدات غير الدولية بشكل فعال من خلال تطوير استراتيجيات تأمين مبتكرة ومنسقة تعكس التحديات الجديدة التي تواجهها في عالم متغير وبيئة اقليمية ودولية غير مستقرة نسبياً.
ـــــــــــ
https://telegram.me/buratha