د.أمل الأسدي ||
من الآفات الاجتماعية التي حاربها الإسلام؛ القبلية والتعصب القبلي،فهي مظهر من مظاهر الأعرابية، تتناقض مع التحضر والتمدن، وهذه الأعرابية آفة تنخر أي مجتمع توجد فيه، فهي تحارب مفهوم الأمة، الأمة التي تعني الكيان الواحد الذي تربطه روابط مشتركة، وتجمعه خصائص مشتركة، ومميزات خاصة بنسيجه الاجتماعي، فقد أراد الله تعالی ورسوله وأهل بيته لمّ شتات العرب وغيرهم ممن أسلم وتحويلهم إلی أمة، تنتظم بدولة أو لنقل بسلطة تسعی الی تقنين الحياة وضبط إيقاعها فقد قال تعالی: ((إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ))(٢)
فدلالة الأمة هنا، وبحسب صاحب تفسير الميزان تعني: جماعة يجمعها مقصدٌ واحد، والخطاب خطاب عام يشمل جميع الأفراد المكلفين من الإنسان، والمراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع واحد.(٢)
وعلی الرغم مما أرساه رسول الله من مدنية وتحضر وتشريعات تنظم الحياة العامة منذ استقراره في المدينة المنورة، علی الرغم من ذلك؛ شهدت الأمة انتكاسةً أعرابية بمجرد رحيله(صلی الله عليه وآله) وهذه الانتكاسة ظلت ماثلة حتی عصرنا الراهن، ولكنها كانت ـ سابقا- مقترنة بالبداوة والتصحر والغزو والمصالح الفردية والقبلية المفرطة والنفاق، وقد ورد وصف الأعراب أوالأعرابية في مواطن عديدة في القرآن الكريم منها: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))(٣)
وكذلك قوله تعالی:((الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ))(٤)
أما في وقتنا الحاضر فتمظهرات الأعرابية نجدها شاخصة في المناطقية، ونعني بها التحيز والتفرقة علی أساس المنطقة، فمثلا في العراق الذي عانی ومازال يعاني من حروب الهويات ومحاولات طمس الهوية الغالبة، نجد الأعرابية قد اختفت أول سقوط النظام البائد، وشعر أصحاب الهوية المحارَبة(الشيعة) بأنهم أمة، أمة واحدة بألمها وفرحها، بتضحياتها وشعائرها وطقوسها، ولكنّ هذا الأمر لم يدم طويلا، فثمة محركات خفية تعمل علی تهديم مفهوم الأمة، لأنه مقترن بالتقدم والاستقرار وبناء الذات وقوة النسيج الاجتماعي، فطفت المناطقية علی السطح ،وظهرت "الأعرابية الأنيقة" فهي أنيقة ظاهرا، غير مرتبطة بالبداوة والتنقل والتصحر!!
أعرابية يرددها مثقفون..مفكرون.. نخب..طلبة علم.. العامة...الخ، أعرابية نسمعها في المنابر العلمية والمنصات الأكاديمية !! أعرابية يرددها من يرتدي البدلة الأنيقة أو الزي الأنيق!! يرددها رجل أو تلهج بها امرأة!!
وهكذا قسّمت المناطقيةُ الأمة إلی أقسام عديدة فهذا نجفي، وهذا كربلائي، وهذا بصري، وهذا بغدادي، وهذا ذيقاري ...الخ !!
وفي المنطقة الواحدة ظهرت تقسيمات أخری:فهذا ابن الولاية وهذا لفو، وهذا من جوه السور وهذا من خارجه!!
وهذا من الكرادة وهذا من الكاظمية... وهذا شروگي الخ
وهذا مجتمع بصري، ومجتمع كربلائي ومجتمع نجفي...الخ!!
هكذا استهدفوا المجتمع وفتتوا مفهوم الأمة الجامعة!!
وهذا ينسحب علی مناطق أخری في العراق و وغيره من البلدان، وبدل أن نرفع سقوفنا من المحلية الی العالمية، عدنا لتفتيت المحلية بحسب المناطقية المقيتة!!
لذا أدعو الجميع ولاسيما المؤسسات والمنتديات والمنصات، أدعوهم إلی نبذ المناطقية؛ لأنها آفة تفتت الهوية، ولأنها مظهر أعرابي منبوذ!!. ولأنها قدحة جاهلية، فالأصح أن نكون أمةً،أن نكون جسدا واحدا، أن نكون كتلةً بشرية متراصة، فتقسيم البلد إلی محافظات؛ هو تقسيم إدراي، من أجل الاهتمام الإداي، ولايمس هذا التقسيم الجانب الاجتماعي!!! ولاميزة لشخص علی آخر علی أساس المنطقة!! وهو ذاته ما نبذه الإسلام من تفرقة علی أساس العرق أو اللون إذ قال تعالی:((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(٥)
فمن يروج للمناطقية؟ ولماذا نسمح بهذا الاستهداف؟
والأغرب من ذلك كله، أن تقرأ رأيا لبعضهم وهو يتحدث عن فشل مسؤول أو فشل سياسيٍّ ما، وبدل أن يلوم الحزب الذي أتی به ومكّنه، تجده يتجاوز علی سكان منطقة المسؤول!! المنطقة التي لم تنل منه شيئا سوی هذا التعدي من الآخرين!!
فتعالوا لنحتفي بمشتركاتنا، وطباعانا، ولهجاتنا، وأطعمتنا وأشربتنا، وعاداتنا، وقصصنا الشعبية، وأمثالنا، وكرمنا، وبشاشة وجوهنا، نحتفي بالـ چا، و الـ لعد، والـ دا، الـ اعليمن ،والـ يعمن ، والـ حبوبي، والـ فدوة أروحلك، والـ فدوة أغديلك، والـ يابعد روحي، والـ گليبي!!
ونشرب الچاي المهيل علی الفحم، والخشب،واللمپة والمكينة وأم الفتل!
تعالوا نحتفي بعاداتنا حين ندخل منزلا فنقول: طبت الزهرة گبلنا.. وتحضرنا أم البنين!
تعالوا نفرح بكرم نفوسنا حين نقول: وابو عبد الله مااطلعون الا تتغدون، وابا جعفر سبع الدجيل ما تطلعون، وام البنين ما ترحون، وابو الجوادين مانخليكم تروحون، وعلي واولاده ما تمشون، والحمزة تظلون، وابو الحسنين تباتون... والقاسم تبقون ... والحسن الا تتعشون ...الخ
تعالوا نشم رائحة خبز تنور الطين،والسياح والطابگ والصاج والصمون الحجري!
فكلنا واحد وكلنا حين تحاصرنا الشدائد نقول:
دخيلك يا بو الحسن.. ياحاضر الشدات!!
تعالوا... لنشعر فعلا أننا أبناء محمد وعلي، ونستثمر قول رسول الله الأعظم:((يا علي أنا وأنت أبوا هذه الأُمّة ))(٦).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha