نظرية المعرفة في فلسفة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قده)
الدكتورة عائشة يوسف المناعي (قطر)
المعرفة وعلاقتها بالعلم :
قد يتداخل معنى المعرفة مع معنى العلم فيكون مرادفاً له ، من حيث ان كلاً منهما يعني : ادراك صورة الاشياء او صفاتها او علاماتها او ادراك المعاني المجردة سواء اكان لها وجود خارج الذهن ام لم يكن ، فيقال : علم الشيء بمعنى عرفه ، وقد عرف التهانوي في كشافة العلم على انه معنى من معاني المعرفة فقال : (( ومنها (أي المعرفة) العلم مطلقاً تصوراً كان او تصديقاً )) .
ومن هنا يستعمل المتكلمون في تعريف العلم كلمة المعرفة فيقول الباقلاني في تعريف المعرفة انه (( معرفة المعلوم على ما هو به )) .
وللجويني تعريف اخر فيقول فيه : (( العلم عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به )) ، وجاء في لسان العرب : ((العرفان : قال ابن سيده : وينفصلان بتحديد لا يليق بهذا المكان )) والقدماء يفرقان بين المعرفة والعلم فيما يقول د. صليبا بالعموم والخصوص والإحاطة في الادراك او عدمه : ((فالمعرفة إدراك الجزئي ، والعلم ادراك الكلي ، وان المعرفة تستعمل في التصورات والعلم في التصديقات ، ولذلك تقول : عرفت الله دون علمته ، لان من شرط العلم ان يكون محيطاً باحوال المعلوم احاطته تامه ، ومن اجل ذلك وصف الله بالعلم لا بالمعرفة ، فلمعرفة اقل من العلم ، لان للعلم شروطاً لا تتوافر في كل معرفة ، فكل علم معرفة ، وليست كل معرفة علماً )) وبحيث يمكن القول بان العلم مجموع معارف والمعرفة جزء من العلم . ولقد اعتنى علماؤنا – من محدثين ومفسرين وفقهاء وعلماء كلام وفلاسفة – بموضوع المعارف الإنسانية عناية بلغت من الاهتمام بها مبلغاً جعلهم يفتتحون مصنفاتهم بموضوع العلم وحقيقته ومعناه ، وما يحصل به العلم من النظر والاستدلال وإحكام النظر ، مما يعني اهتمامهم البالغ بنظرية المعرفة في مسماها الحديث ، اما المحدثون فلفظ المعرفة عندهم له اربعة معان ))الأول : الفعل الذي يتم به حصول صورة الشيء في الذهن سواء كان حصولها مصحوباً بالانفعال او غير مصحوب به ، والثاني هو الفعل العقلي الذي يتم به النفوذ الى جوهر الموضوع لتفهم الحقيقة .. والثالث مضمون المعرفة بالمعنى الاول ، والرابع مضمون المعرفة بالمعنى الثاني )) .
وتعني هذه النظرية بالبحث في طبيعة المعرفة وما هيتها وكصادرها وموانعها وشرائطها وقيمتها ووسائلها ويذهب البعض الى ((ان نظرية المعرفة قسم من علم النفس النظري الذي يصعب فيه الاستغناء عن علم ما بعد الطبيعة ، لان غرضه البحث عن المبادىء التي يفترضها الفكر متقدمة على الفكر نفسه ، ومعنى ذلك إن نظرية المعرفة هي البحث في المشكلات الفلسفية الناشئة عن العلاقة بين الذات المدركة والموضوع المدرك ،او بين العرف والمعروف )) وبما ان الذات لا بد وان يتجه تفكيرها الى شيء ما ولا يستطيع ان تفكر في العدم ، كان الوجود هو موضوع المعرفة ، والوجود كمفهوم فلسفي يقصد به مطلق الواقع ويقابله العدم ، وهذا الواقع قد يكون في الخارج او في الذهن ((فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشي في الاعيان ، وهو الوجود المادي ، والوجود الذهني عبارة عن كون الشيء في الاذهان وهو الوجود العقلي ا المنطقي )) .
ان العلاقة – التتي يتحدث عنها هؤلاء – تتطلب وعي الذات العارفة بالمعروف لتصبح المعرفة ((عملية تجمع في داخلها بين شكل من اشكال الاتحاد وشكل من اشكال التفريق او التمييز في الوقت نفسه )) بمعنى ان الذات المدركة اذا عرفت شيئاً وانطبع فيها ذلك لشيء اصبحت متحدة به ، في الوقت الذي لابد وان تتصف تلك الذات فيه بالوعي لكي تستطيع ان تعرف .
وفيما يرى (كولبه) فان مصطلح نظرية المعرفة يطلق ويراد منه اح معنيين : معنى عاماً ، ويراد العلم الذي يحث في مادة العلم الانساني ومبادئه الصورية ، ومعنى خاصاً ويراد به العلم الذي يبحث في المعرفة من حيث مبادؤها المادية . وعليه فالمعنى الواسع لهذا المصطلح ((يشمل كل لبحوث الفلسفية الهامة التي تتعلق بظاهرة المعرفة مثل المنطق وعلم النفس وعلم وظائف الاعضاء وعلم الاجتماع والتاريخ وميتا فيزيقا المعرفة . اما المعنى الضيق فيراد به العلم الذي يبحث في ما هية المعرفة ومبادئها ومصدرها ومنابعها وشروطها ونطاقها وحدودها )) .
اما بداية ظهور نظرية المعرفة فمرتبط بالفيلسوف الانجليزي لوك (1704 م) حيث يعد هو المؤسس الحقيقي لنظرية المعرفة في العصر الحديث ، لانه وضع المعرفة في صورة العلم المستقل كما كان ((كتابه (مقالة في العقل البشري) الذي صدر عام 1690 اول بحث علمي منظم في اصل المعرفة وماهيتها وحدودها ودرجة اليقين فيها )) الا ان المصطلح ذاته لم يعرف الا في وقت متأخر عليه في عام 1862 م عند تسلر وذلك في كتابه (اهمية نظرية المعرفة ووظيفتها ) ، وبعض البحثين يرى ان هذا المصطلح ظهر على يد (رينهد) في عام 1832 م في كتابه (نظرية ملكة المعرفة الانسانية والميتا فيزيقا) .
ولا يعنينا هنا تتبع الاراء العديدة حول بداية ظهور نظرية المعرفة كمصطلح يطلق على مبحث من مباحث علم الفلسفة او المنطق ، بدر ما يعنينا بيان موقف الشهيد الصدر من مصادر المعرفة وقيمتها ومدى مشاركة كل من الذات المدركة والموضوع المدرك في المعرفة ، وهي من امهات المسائل في نظرية المعرفة التي تفرقت حولها المدارس قديماً وحديثاً ، وبرغم كثرة هذه المدارس واختلافها حول المصدر الاساسي للمعرفة فان من الممكن تصنيفها – حسب فلسفة الامام الصدر – الى المدارس او المذاهب التالية :
1- المذهب التجريبي او الواقعي وهو المذهب الذي يرجع المعارف جميعها الى التجربة او الواقع ، وينظر الى العقل على انه مراة تعكس الحقائق الخارجية .
2- المذهب العقلي الذي يرجع المعارف كلها الى العقل باعتباره الال لكل معرفة .
3- المذهب النقدي ، وهو مذهب توفيقي بين المذهبين السابقين ، ويرى ان العقل يشارك الحس ومدركاته الحسية في الحصول على المعرفة .
هذا ما لخصه السيد الصدر ، في عرضه للمذاهب الفلسفية وموقفها من المعرفة تمهيداً لطرح رؤيته الجديدة المتميزة في موضوع المعرفة ويقينيتها ، بعد التاكيد على اهمية نظرية المعرفة والاهتمام بها في اكثر من مصدر علمي واطروحة من اطروحاته ، وبحيث تشكل منطلقاً او مرتكزاً عليه جميع القواعد الفكرية في البحث ليتمكن الدارس من لانطلاق بعدها الى معرفة الكون وكل ما يتعلق به ، يقول الامام الصدر ((تدور حول المعرفة الانسانية مناقشات فلسفية حادةتحتل مركزاً رئيسياً في الفلسفة وخاصة الفلسفة الحديثة ، فهي نقطة الانطلاق الفلسفي لاقامة فلسفة متماسكه عن الكون والعالم ، فما لم تحدد مصادر الفكر البشري ومقاييسه وقيمه لا يمكن القيام باية دراسة مما كان لونها )) .
وفي نص اخر له يقول (مفاهيم كل مبدأ عن الحياة والكون تشكل البنية الاساسية لكيان ذلك المبدأ ، والميزان الاول لامتحان المبادىء هو اختبار قواعدها الفكرية الاساسية التي يتوقف على مدى احكامها وصحتها احكام البنيات الفوقية ونجاحها ولاجل ذلك فسوف نخصص هذه الحلقة الاولى من كتابنا لدراسة البنية الاولى التي هي نقطة الانطلاق للمبدأ ، وندرس الوقية في الحلقات الاخرى )) .
ونفهم من هذين النصين ان الايمان بالمعرفة والثقة فيها كطريق للعلم الاساسي او البنية الاولى – كما يسميها الصدر – لاي كيان فكري يتوخى إقامة فلسفة او تصور عن الكون والإنسان وخالقهما ، وبخاصة ان الحاجة لتلك الدراسة ظهرت اشد ما يكون بعد ان ظهرت النزعات المادية في الفلسفة الأوربية الحديثة التي انكر كثير من أصحابها ما وراء المادة ، واتخذوا من الشك منهجاً وطريقاً ، وبعد ان شاعت تلك الأفكار في الثقافة والفنون والآداب ، بل وفي الدين ايضا ، بالرغم من إن الإنسان بعقله السليم وفطرته الصحيحة لا يحتاج الى عميق استدلال ليؤمن بالله ووجوده ووحدانيته في صنعه وخلقه ، يقول الصدر ((الفكر الحديث منذ قرنين من الزمن ، لم ترك هذا لوجدان طليقاً وصافياً ، ومن هنا احتاج الاستدلال بالنسبة الى من كان ملماً بالفكر الحديث ومناهجه في البحث ، الى تعميق وملء الفراغات التي كان الاستدلال الابسط والابده يترك ملأ ها للوجدان الطليق )) فالحاجة على ذلك ماسة لصياغة دليل يبني على منهج قريب من الحياة اليومية للمرء – تلك الحياة الزاخرة بالاستدلالات الكثيرة لإثبات العديد من الحقائق ، ويرى الصدر ان المنهج المستخدم لاثبات حقائق الحياة اليومية هو المنهج الذي يتلقي معه منهج الاستدلال –المقترح – على الصانع الحكيم، لان منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو نفسه (المنهج الذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية ، والحقائق العلمية ، فما دمنا نثق به لاثبات هذه الحقائق فمن الضروري إن نثق به بصورة مماثلة لاثبات الصانع الحكيم الذي هو اساس تل الحقائق جميعاً ) .
في هذا الاطار ، ومن منطلق هذه الاهمية القصوى جاءت عناية الشهيد محمد باقر الصدر بنظرية المعرفة
1/5/511
https://telegram.me/buratha