المدخل[القسم الأول]
لكي نغوص في أعماق البحث عن (مصحف الإمام علي(ع) ) لابد من معرفة معاني المفردات الثلاثة الواردة في عنوان البحث أولاً، كما سيتضح- من خلال البحث- أننا نبحث عن جمع الإمام علي(ع) للقرآن الكريم، وبالتالي لابد من معرفة معاني الجمع ثانياً، وسنواجه عدة عناوين مشابهة لمصحف علي(ع) كمصحف فاطمة(س) وغيره، فلابد من معرفة الفارق بين المصحف العلوي وغيره من المصاحف والكتب المشابهة له ثالثاً.
هذه ثلاث نقاط لابد من الإلمام بها قبل الولوج في صميم البحث، لكي ننقح موضوع بحثنا، فهي تشكل مدخل بحث (مصحف الإمام علي(ع))، وهي كما يلي:
أولاً: شرح مفردات العنوان (مصحف - الإمام – علي(ع)):
عنوان الكتاب: (حقيقية مصحف الإمام علي(ع) عند الفريقين)، وكلمة (الحقيقة) تشير إلى واقع المصحف، كما أن كلمة (الفريقين) تشير إلى كون البحث دراسة مقارنة تتطرق إلى أقوال الشيعة والسنة في المصحف، فالمهم إذن تسليط الضوء على (مصحف الإمام علي(ع) ) وبالتالي يصبح هو عنوان البحث، ومن الواضح أنه يتضمن ثلاث كلمات، فلابد أن نتطرق إليها تباعاً مع رعاية الاختصار قدر الإمكان، وشرح الألفاظ الثلاثة كما يلي:
الأول- مصحف: للوقوف على كنه هذه اللفظة لابد من ملاحظة معناها في اللغة والاصطلاح:
أ- المصحف في اللغة: (سُمي المصحف مُصحفاً لأنه أُصحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصحف المكتوبة بين الدّفتين(1))(2)، (والصحيفة: الكتاب، والجمع صُحُف وصَحائف)(3)، (والمُصحف والمِصحف: الجامع للصُحُف المكتوبة بين الدّفتين كأنه أُصحِف، والكسر والفتح فيه لغة، قال أبو عبيد: تميم تكسرها وقيس تضمها، ولم يذكر من يفتحها ولا أنها تفتح، إنما ذلك عن اللحياني عن الكسائي، قال الأزهري: وإنما سمي المصحف مصحفاً لأنه أُصحِف أَي جُعل جامعاً للصحف المكتوبة بين الدّفتين، قال الفراء: يقال مُصحف و مِصحف كما يقال مُطرف ومِطرف؛ قال: وقوله مُصحف من أُصحِفَ أي جُمِعَت فيه الصحف، وأُطرف جُعِلَ في طرفيه العَلَمان، استثقلت العرب الضمة في حروف فكسرت الميم، وأصلها الضّم، فمن ضمّ جاء به على أصله، ومن كسره فلاستثقاله الضمة)(4)، وهكذا يتضح بعد مراجعة كلمات اللغويين(5)، أن المصحف في اللغة لا يختص بالقرآن الكريم، بل حقيقته مجمع الصحف، أي ما جُمِعَ بين دفتي الكتاب المشدود، وهو ما نُعَبِِّر عنه هذه الأيام بالكراسة أو الكتاب، فالمصحف في اللغة يعبر عن مجموعة الأوراق التي تُجمع وتُشد بين لوحين أو دفتين، مهما كان مضمون تلك الأوراق.
ب- المصحف في الاصطلاح: استعمل المصحف بالمعنى اللغوي المتقدم أيضاً في روايات جمع القرآن إلى عهد عثمان، فقد أطلق على مجموعة الصحف القرآنية التي بين دفتين في روايات أهل البيت (ع)، وروايات أهل السنة، وكذلك في مصطلح الأمم السابقة، ونذكر لكل منها مثالاً على سبيل الاختصار:
1- روايات أهل البيت: ذكر الكُليني(ت329هـ) في كتاب فضائل القرآن الباب السابع تحت عنوان (باب قراءة القرآن في مصحف)، وفيه هذه الرواية (عن أبي عبد الله(ع) قال: من قرأ القرآن في المصحف مُتع ببصره وخُفف عن والديه وإن كانا كافرين)(6)، والرواية يفهم منها أن القرآن قد يقرأ عن ظهر قلب، وقد يقرأ من المصحف، أي مجموعة الصحف التي كتب عليها القرآن الكريم، فالمصحف أي الكتاب المجلد قد يكون قرآناّ وقد يكون غيره، وسيأتي أن مصحف فاطمة(س) ليس قرآناً، مع أن الروايات قد أطلقت عليه لفظ المصحف.
2- روايات أهل السنة: ذكر البخاري(ت256هـ) في كتاب فضائل القرآن عندما تطرق إلى جمع عثمان للقرآن ما يلي: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك....)(7)، والمراد ننسخ كتباً ومجلدات من القرآن على غرارها0(8)
3- مصطلح الأمم السابقة: سميت الكتب الدينية للأمم السابقة بالمصحف أو الصحف، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}(9).
روى ابن سعد (عن سهل مولى عُتيبة أنه كان نصرانياً من أهل مريس، وأنه كان يتيماً في حجر أمه وعمّه، وأنه كان يقرأ الإنجيل، قال: فأخذت مصحفاً لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة، فأنكرت كتابتها حين مرّت بي ومسستها بيدي، قال: فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء، ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد’ أنه لا قصير ولا طويل)(10).
إذن استخدم المصحف بالمعنى اللغوي في روايات العامة والخاصة وكتب الأمم السابقة(11)، لكن في زماننا هذا (غلب استعماله في القرآن الكريم)(12)، بحيث ما إن تطرق أسماعنا لفظة المصحف إلا وتبادر إلى أذهاننا القرآن الكريم في الغالب.
الثاني- الإمام: لكي تتضح هذه المفردة، لابد من الاطلاع على معناها في اللغة والاصطلاح:
أ- اللغة: (الإمام: الطريق، قال تعالى {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ}(13))(14)، (والإمام: كل من اقتدي به وٌقدم في الامور. والنبي’ إمام الأئمة، والخليفة إمام الرّعية، والقرآن إمام المسلمين)(15)، (والإمام: كل من ائتمَّ به قومٌ كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين)(16)، (ويقال للطريق إمام، لأنه يُؤم أي ُيقصد ويُتبع)(17)، (والإمام المؤتم به إنساناً كأن يقتدي بقوله أوفعله، أو كتاباً أو غير ذلك محقاً كان أو مُبطلاً وجمعه أئمة) (18) فالإمام في اللغة كل مايُتّبع ويقتدى به، سواء كان في طريق الخير أو الشر، وجمعه أئمة وأيّمة(19).
ب- الاصطلاح: يطلق لفظ الإمام في مختلف العلوم والأبواب، ويختلف معناه بإختلاف الباب الذي يذكر فيه، فمثلاَ حينما يذكر في الفقه في باب صلاة الجماعة يراد به من يصلي بالجماعة، ويقتدون به في صلاتهم، لكن المهم هنا معرفة معنى الإمام في العقائد وعلم الكلام؛ لأننا نتكلم هنا عن الإمام علي(ع)، وتعريف الإمامة عند السنة والشيعة تقريباً متفق عليه، وإنما الخلاف في الشروط؛ ولذلك سننقل تعريف الإمامة أولاً، ثم سنشفع ذلك بما قد يشير إلى بعض الشروط وتوضيح ذلك كما يلي
أولاً: الإمامة عند السنة: (هي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي(ص))(20)، و(الإمام الخليفة، والإمام العالم المقتدى به)(21)، فكثيراً ما تستخدم كلمة الإمام عندهم بمعنى الحاكم(22)، أو الخليفة.
ثانياً: الإمامة عند الشيعة: (رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص إنساني خلافة عن النبي)(23)، و (ذهبت الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش، من الصغر إلى الموت، عمداً وسهواً، لأنهم حفظة الشرع والقوّامون به، حالهم في ذلك كحال النبي(ص))(24)، فالمراد بالأئمة في الفكر الشيعي هم أوصياء النبي الخاتم الإثنا عشر اللذين نص النبي(ص) على إمامتهم، والإمام يتولى الشؤون الدينية والسياسية، وطاعته واجبة ومفترضة على جميع المسلمين؛ ولذلك تشترط الإمامية العصمة في الإمام الذي يعين عن طريق النص(25).
الثالث- علي(ص): هو (أمير المؤمنين، وابن عم خاتم النبيين: علي بن أبي طالب.....، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشمية ُولدت لهاشمي، وعلي أول من صدّق رسول الله(ص) من بني هاشم، وشهد المشاهد معه، وجاهد بين يديه، ومناقبه أشهر من أن تُذكر، وفضائله أكثر من أن تُحصر)(26)، والإمام علي(ع) هو وصي النبي(ص)، وأول الائمة عند الشيعة، وهو رابع الخلفاء الراشدين عند السنة، وقد تزوج بفاطمة بنت رسول الله(ص)، وقد أنجبت له الحسن والحسين(ع)، وزينب(ع)، ولد في الكعبة يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ولم يولد قبله ولابعده مولود في بيت الله الحرام سواه إكراماً له(27)، واستشهد في محراب الكوفة سنة 40 هجرية(28).
بعد أن اتضحت هذه المفردات الثلاث، نقول: إن البحث يدور حول الجهد الذي بذله الإمام علي(ع) في جمع القرآن في مصحف واحد، ومن هنا لابد أن نذكر معاني الجمع لكي نوضح مرادنا من جمعه (ع) للقرآن الكريم، وهذا ما سنوضحه في النقطة الثانية.
ثانياً: معاني جمع القرآن الكريم:
قبل التطرق إلى معاني الجمع، لا بأس أن نتطرق إلى الزمن الذي جمع فيه القرآن الكريم، فقد اختلف الباحثون في علوم القرآن في تحديد الزمان الذي جُمِعَ فيه القرآن، ومن الذي أمر بذلك؟..، ويمكن أن نتصور ستة وجوه أو احتمالات في ذلك كما يلي:
1- إن جمع القرآن الكريم كان في عصر النبي محمد(ص).
2- إنه جُمِعَ في عهد أبي بكر بن أبي قحافة.
3- إنه جُمِعَ في عهد عمر بن الخطاب.
4- إن ابتداء جمعه كان في عصر أبي بكر، وتمامه كان في عصر عمر بن الخطاب.
5- إنه جُمِعَ في عهد عثمان بن عفان(29).
6- إن القرآن قد دوّنه وكتبه الإمام علي بن أبي طالب(ع) في حياة الرسول الأعظم(ص)، لكن جمع الإمام علي(ع)للقرآن في مصحف واحد على أثر وصية النبي(ص)، إنما كان بعد رحيل الرسول(ص) عن الدنيا الدنية.
ونحن نتبنى الرأي السادس، وهو محل بحثنا، إذ سنثبت إن شاء الله تعالى أن الآمر بجمع القرآن كان النبي الخاتم(ص)، وأنه كان يملي القرآن على الإمام علي(ع)، وكان الإمام يكتب ما أملته الأنفاس المباركة لرسول الله(ص) في قطع متفرقة، وبعد وفاة الرسول(ص) جمع أمير المؤمنين تلك القطع المتفرقة في مصحف واحد بين لوحين في ثلاثة أيام، بعد أن رتبها، فرسول الله(ص) كان السبب وكان علي المباشر، ومكان الجمع كان المدينة المنورة؛ إذ أن الإمام علياً(ع) بعد أن جمعه جاء به إلى القوم في مسجد رسول الله(ص) بالمدينة، وزمان الجمع كان ثلاثة أيام أو سبعة أيام أو ستة شهور على اختلاف الروايات، وإن كنا نميل إلى القول الأول كما سيأتي مفصلاً في ثنايا البحث(30).
لكن ترجيح أحد هذه الوجوه(31) يتوقف على تحديد المعنى الذي نقصده بجمع القرآن، فما هي المعاني التي اسُتعمل فيها لفظ الجمع في الروايات؟ يمكن أن نذكر ستة معاني:
1- حفظ القرآن في الصدر عن ظهر قلب، ومنه يقال جُمّاع القرآن، أي حفاظه(32).
2- كتابة القرآن على الأدوات المتوفرة، ولكن مفرق الآيات والسور من دون ترتيبها.
3- كتابة القرآن، مع ترتيب الآيات دون السور، فكل سورة تكتب على رقعة من الرقاع.
4- كتابته متسلسل الآيات، مرتب السور في مصحف واحد.
https://telegram.me/buratha