ليس بخاف على ذي بصر وبصيرة أن الورق المحبّر بدواة الخير يخلد بالدفَّتين، ويخلد معه صاحبه ومحرره ومعدّه ومن ترك على السطور وتحتها وبينها بصماته، وإذا ارتبط المكتوب بشخصية نابضة بالحياة في دار الممر وفي حفرة القبر، فلاشك أن الكتاب يبقى ساري المفعول ما بقي الدهر، وليست هذه قناعة شخصية آمنت بها منذ خط قلمي أول سطر في غابر العمر من هذا الدهر في مسقط رأسي في كربلاء المقدسة، يومها كانت الكلمة تكلف صاحبها رقبته، بل هي قناعة كل صاحب قلم يدرك معنى الكلمة الحيّة وهو واقف على أعتاب زمن يحتضر فيه الضمير إلا من قبض على قبس لعلّه يأتي بها إلى بني جلدته على طبق المسؤولية أو يجد على النار هدى الإلتزام والكلمة الحرة.
وكيف لا يجد الهدى من ركب سفينة ينادي ربّانها هلمّوا إليّ إليّ: (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد عليَّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين)، ولكن مَن يجرؤ على التخلف عن سفينة هي من السفن أوسع وفي لجج البحار أسرع! .. إنها نعمة لا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم، تلك هي سفينة الحسين(ع).
ولعلّ واحدة من مظاهر الحياة الأبدية في نصرة النهضة الحسينية هو الكتاب الذي لا يجف مداده وإنْ رقد الكاتب في لحده، بعد رحلة من الآمال والآلام، فالكتاب في ذاته يحمل معه كينونة المكوث ولو لفترة، فكيف إذا تعلّقت النصوص بسيد الشهداء وسيد الأحياء، فإنها لا شك تحمل معها صيرورة البقاء المفتوح الأبواب على ساحة الخلود مادام الكتاب تجري أنهاره ويؤتي ثماره وتضوع ريحانه، وليس أدل على هذه الحقيقة من دائرة المعارف الحسينية للمحقق العلامة الشيخ محمد صادق الكرباسي التي بدأ بها عام 987م فخرج من المطبعة عام 994م أول أجزائها وبعد عشرين عاماً أولدت المطبعة مطلع عام 204م الجزء السادس والثمانين من الثمانمائة مجلد.
هذه الموسوعة الممتدة إلى عمق التاريخ الأول من الرسالة الإسلامية وصراع الحق والباطل، تابعتُ جانباً من معالمها في كراس صدر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن عام 993م بلغات ست هي: العربية والانكليزية والفرنسية والفارسية والأردوية والألمانية، تحت عنوان "دائرة المعارف الحسينية للكرباسي تعريف عام" في 48 صفحة، يومها كانت شجرة الموسوعة الحسينية تحمل ثمار 332 جزءاً حتى بدأ قطفها مع صدور الجزء الأول من ديوان القرن الأول الهجري، ثم تتابع قطف الثمار، ولمّا بلغ من الثمار 30 جزءاً صدر عن دار المجتبى في بيروت سنة 2000م تعريف آخر بقلم الأديب العراقي الأستاذ علاء جبار الزيدي في 44 صفحة من القطع الوزيري وبعنوان "معالم دائرة المعارف الحسينية للكرباسي" وفي حينها بلغ مجموع الموسوعة 556 جزءاً، واليوم بعد أن بلغ العدد نحو 800 مجلد صدر حديثا 435هـ عن دار الوفاء للنشر (انتشارات وفا) بطهران الترجمة الفارسية لكتاب المعالم في 08 صفحات من القطع الوزيري ترجمه الدكتور جاسم عثمان مرغي استاذ علوم الحديث في الجامعة المفتوحة في إيران والدكتور حاتم زندي أستاذ الأدب الفارسي في الجامعة المفتوحة وحمل عنوان "آشنايي با دائرة المعارف إمام حسين .. علامه كرباسي".
وقراءة للتاريخ القريب فإن العلامة الكرباسي عندما شرع بوضع الخطوط العريضة لدائرة المعارف الحسينية، انتهى به المطاف في بيان معالمها إلى توزيع الفصول والفروع المتكونة آنذاك من 95 مليون كلمة الى 60 باباً من أبواب العلم وفق معطيات تراث النهضة الحسينية ومستجداتها منذ واقعة كربلاء في عاشوراء عام 6 للهجرة وحتى يومنا هذا، ووفق هذا المنهاج أخذ مؤشر أعداد الموسوعة الحسينية المخطوط منها والمطبوع يتصاعد مع حركة الزمن حتى وصلت الى ما وصلت اليه اليوم بزيادة تعادل المرة والنصف، وهو رقم غير طبيعي في عالم التأليف، ولكنَّ الهمة التي يتملّكها المؤلف في متابعة كل صغيرة وكبيرة لها علاقة بالنهضة الحسينية ضمن الأبواب الستين هو الذي يجعل الأرقام ترتفع بين سنة وأخرى، وهذا ما نلمسه في الترجمة الفارسية لكتاب المعالم الذي جاء بعد 3 عاماً من صدور الأصل العربي حيث يشير المترجمان الى الزيادة الحاصلة في الأعداد كلما مرّا على باب جديد، وهي زيادة تنم في الوقت نفسه عن حيوية التراث الحسيني وديمومة النهضة الحسينية بأبعاد مختلفة يتعاطاها كل مجتمع وفق موروثاته ومتبنياته فتترجم التطبيقات على أرض الواقع بنتاجات وفعاليات ومشاريع يخلدها العلماء والأعلام والأدباء والشعراء والفنانون وأصحاب الأموال ورجال الخدمة الحسينية، وكل محب لمحمد(ص) وآله.
ولم تطرأ الزيادة على عدد الأجزاء فحسب، بل حتى في فروع الأبواب نفسها وفصولها والتوسع فيها، فعلى سبيل المثال، صدر العام 203م كتاب المدخل الى الشعر الپشتوي وبعده الجزء الاول من ديوان الپشتو، وهذا الأدب يدخل في قسم (الحسين في الشعر الشرقي)، فهمّة الأديب الكرباسي في متابعة التراث الحسيني في اللغات الشرقية والغربية وفّر بين يديه حصيلة من الشعر الحسيني باللغة الپشتوية، لم تكن بهذا الحجم عند الشروع في التوثيق والتحقيق، ولما كان الشيء بالشيء يُذكر فإن الأديب الكرباسي يكاد يكون أول المؤلفين الناطقين باللغة العربية بحث اللغة الپشتوية وآدابها وقواعدها بشكل مفصّل كمدخل الى الشعر الپشتوي الحسيني، ويكون بذلك أضاف الى المكتبة العربية الشيء الجديد.
إذن هناك تصاعد عمودي في الكم بمرور الزمن يصاحبه زيادة أفقية في التمحيص والتدقيق في الباب وفروعه اقتضت من المؤلف كتابة مقدمة عن كل باب، هي بمثابة قواعد علم ذلك الباب والتقعيد له، فقد تأتي المقدمة في ثلاثة أجزاء كما في باب "الحسين والتشريع الإسلامي" بإضافة مباحث عدة من الجزء الرابع، أو في جزئين كما في "المدخل الى الشعر الحسيني"، أو في جزء واحد كما في "المدخل الى الشعر الأردوي" أو في فصول عدة من الجزء الواحد كما في الجزء الأول من "معجم المشاريع الحسينية" وغيره. وهذه الزيادة كما يؤكد الأديب الزيدي نابعة من إيمان المحقق الكرباسي: (إنَّ الكم والكيف مصدر قوة لابد من استخدامه، شريطة أن لا يقوم أحدهما على حساب الآخر، ومن هنا، فإنه لم يضع سقفاً للموسوعة الحسينية بالأعداد، ولكنه لم يرخ العنان دون تحقيق وتمحيص)، وإيمان المؤلف بالعمل الموسوعي كما يؤكد الزيدي يدعه: (لا يتحرج من القول بأننا أبناء الدليل، فمتى ما وجدنا الدليل عبر الطرق السليمة تمسّكنا به، كما لا يتحرّج من بيان الحقيقة، ولو على حسابه، وليس العكس، وهو يرى أن العمل العلمي، وغيره أيضاً، يفترض أن يأتي من ذهنٍ خالٍ من الأحكام والشروط المسبقة، إذ لا يصحّ أن يأتي المرء بأفكار ويبحث عن أدلّة تسندها).
بهذه الروحية العالية التي يتميز بها الكرباسي، بدأت الموسوعة الحسينية، وبهذه الروحية واصل التوثيق والتحقيق والتأليف، ولذلك أعتقد أن دائرة المعارف الحسينية بحاجة الى تعريف آخر أو تجديد لتعريف الزيدي يواكب التوسعة العمودية والأفقية للموسوعة، وللقارئ أن يتصور حجم هذه الموسوعة التي تمثل الأولى في تاريخ الموسوعات على طول حياة البشرية، وقف مبهوراً أمامها علماء الشرق والغرب.
25/5/140108
https://telegram.me/buratha